بينما تتسارع عجلة الرقمنة وتغمر العالم البيانات الحديثة، تبقى الوثائق النادرة والمخطوطات التاريخية بمثابة الجذور العميقة التي تمدّ الناس بالمعرفة، وتربطها بذاكرة الشعوب. غير أن كثيراً من هذه النفائس الورقية مهدد بالاندثار تحت وطأة الزمن، أو بفعل الإهمال والعوامل البيئية. لكن في السعودية، هناك من يسعى لصونها، وإعادة الحياة إلى أوراقها المتشققة… فكيف يتم ذلك؟ وأين وصلت هذه العملية اليوم؟ المزيد من التفاصيل في مقالنا هذا…
الوثائق النادرة في السعودية
منذ انطلاقه عام 2005، شكّل «مركز الملك سلمان للترميم والمحافظة على المواد التاريخية» حجر زاوية في جهود المملكة لحماية التراث المكتوب. يعمل المركز تحت إشراف «دارة الملك عبد العزيز»، بهدف الحفاظ على الذاكرة الوطنية المدونة في الوثائق والمخطوطات، عبر سلسلة متكاملة من الترميم، الحفظ، الرقمنة، والأرشفة.
وقد عالج المركز حتى اليوم أكثر من 106 آلاف وثيقة ومادة أرشيفية، وأعاد ترميم أكثر من 55 ألف وثيقة تاريخية، مع تعقيم قرابة 330 ألف ورقة من الآفات الفطرية والحشرية. كما جُلد أكثر من 3900 كتاب لحمايتها من التلف الزمني، ضمن عملية متكاملة توزعت بين الفحص الدقيق، والتدخل الكيميائي، والترميم اليدوي والآلي، ثم الأرشفة والتجليد الفاخر.
خطوات الترميم: رحلة الورقة من التهالك إلى البهاء
تبدأ رحلة أي وثيقة تدخل المركز بمرحلة التعقيم، حيث تُعرض لغاز الأوزون للقضاء على الطفيليات الدقيقة، ومن ثم تُنقل إلى معمل المعالجة الكيميائية لإزالة الأتربة والعوالق، وضبط مستوى الحموضة في الأوراق بما يهيّئها لمرحلة الترميم.
في معمل الترميم، تبدأ المعالجة اليدوية والآلية للثقوب والتمزقات، باستخدام أوراق مشابهة من حيث اللون والنسيج، مع ضمان الحفاظ على الطابع الأصلي للوثيقة. وبعد اكتمال هذه المرحلة، تنتقل إلى قسم الأرشفة، حيث تُصوَّر رقمياً باستخدام تقنيات دقيقة كـ «المايكروفيلم»، ثم تُحفظ نسخها في مخازن مؤمنة ضد الحرارة والرطوبة والضوء.
وفي النهاية، تُختم الوثائق المجددة بمعمل التجليد، حيث يُعاد تغليفها بجلود مزخرفة ونقوش مذهّبة تعكس الهيبة والاهتمام بالتفاصيل.
ولا يكتفي المركز بالترميم المادي، بل يقدّم خدمات متقدمة للكشف عن التزوير في الوثائق، في محاولة لوقف العبث بالحقائق التاريخية. وتتيح هذه الخدمة للباحثين، وللمؤسسات، التأكد من أصالة الوثائق، ما يعزّز من دقة السردية الوطنية ويمنع التلاعب الذي قد يشوّه مسار المعرفة أو يخدم أجندات مغرضة.
رقمنة الوثائق: من الأرشيف إلى الشاشة
وبهدف إيصال التراث إلى الجمهور، أطلقت “دارة” الملك عبد العزيز في يونيو الماضي مبادرة وطنية بعنوان «وثائق الدارة». وتقوم هذه المبادرة على إتاحة مجموعة مختارة من الوثائق التاريخية عبر بوابة إلكترونية حديثة، تسمح بالاطلاع والتحميل، وتوفر أدوات بحث متقدمة تساعد الباحثين في الوصول إلى المعلومة بدقة وسرعة.
وتُعد المبادرة جزءاً من مشروع طويل الأمد لربط الأجيال الجديدة بإرثها الثقافي والاجتماعي والسياسي، من خلال وثائق أصلية توثّق مراحل مهمة من تاريخ المملكة في مجالات عدة منها الاقتصاد، والدبلوماسية، والتعليم، والحياة اليومية.
وعبر مركز خدمات المستفيدين، تتيح «الدارة» للمهتمين والباحثين طلب الوثائق إلكترونياً، أو زيارتها للاطلاع المباشر على محتواها. ويشكل هذا النظام قاعدة بيانات حية تسمح بالتفاعل مع الوثائق، وإنتاج الأبحاث، وإنجاز الدراسات المعمقة التي تعزز الفهم التاريخي للمجتمع السعودي وتطوره.
هذا ويُدار المركز بكوادر سعودية خالصة، جرى تدريبها على أعلى مستوى في فنون الترميم والحفظ، ما يسهم في بناء كفاءات وطنية قادرة على قيادة هذا المجال الحيوي. ويُعدّ هذا التوجه ركيزة في الحفاظ على السيادة الثقافية والمعرفية، إذ تظل عمليات التوثيق والترميم في يد أبناء الوطن، بما يضمن أمانة المعلومة ودقة الحفظ.
نحو مستقبل يُبنى على وثائق الماضي
ختاماً، لا يمكن لأي أمة أن تنهض بمعزل عن تاريخها. والوثائق ليست مجرد أوراق ماضية، بل مرآة تكشف تحولات المجتمعات، وتضيء الطريق لفهم الحاضر وبناء المستقبل. ولهذا فإن ما يقدمه «مركز الملك سلمان للترميم» ليس فقط جهداً أرشيفياً، بل مشروع وطني لبعث الذاكرة وتجديد الصلة بالجذور.
اقرأ أيضاً: عن العلاقات الإيرانية السعودية ودور الأخيرة في وقف الحرب مع «إسرائيل»