في قلب الصحراء، تنبض الحياة من خلال أنهار السعودية الجديدة، التي تتحدى قوانين الطبيعة كلها، تتدفق هذه الأنهار بقوة غير عادية، متغلبةً على أقوى الأنهار في العالم وأشهرها، حيث تتجه صعوداً من البحر نحو جبال شاهقة متحدية الجاذبية.
فبينما تجري أنهار كالتايمز والنيل بسلاسة مع قوة الجاذبية، تقوم المملكة العربية السعودية بضخ مياه التحلية بعكس ذلك، من محطات ساحلية إلى المدن الداخلية، متجاوزةً ارتفاعات تصل إلى 3000 متر، وبضغط مذهل يبلغ 90 بار.
حقيقة مبهرة تبرز على خارطة الأنهار العالمية، تعيد فيها منظومة المياه في السعودية تشكيل تضاريسها بجرأة وإبداع، في أرض شاسعة، تمتد بمساحة تضاهي ألمانيا وإيطاليا وفرنسا وإسبانيا مجتمعة، هذه الأرض التي كانت تعرف دوماً بشح مصادر المياه وندرة الأمطار، أصبحت اليوم واحدة من أكبر منتجي المياه المحلاة في العالم، متجاوزةً كل التحديات المناخية والجغرافية.
تسير هذه المنظومة رفقة القطاع الخاص، في رحلة لا تتوقف عند حدود الخدمة والتنمية، بل تسعى لبناء مستقبل مستدام يعزز من موارد الوطن.
اقرأ أيضاً: شركة المياه الوطنية السعودية تعيد رسم معالم الرياض بـ 20 مشروعاً مبتكراً
تحلية المياه في السعودية
تعود قصة تحلية المياه في المملكة إلى تاريخ عريق يمتد لنحو 120 عاماً، حين تم استخدام وحدة تكثيف لتقطير مياه البحر منذ عام 1905، عُرفت هذه الوحدة في ذلك الوقت باسم “الكنداسة”، وكانت أولى خطوات المملكة نحو تأمين مياه عذبة في محافظة جدة، لتلبية احتياجات السكان والحجاج، وفي عام 1927، أُصدرت أوامر ملكية لاستيراد آلتين كبيرتين لتقطير مياه البحر بنفس التقنية، ما ساهم في تعزيز مصادر المياه العذبة في جدة.
واليوم، تفخر المملكة بامتلاكها خطوط الأنابيب العملاقة التي تعبر أنحاء البلاد لتوزيع المياه المحلاة، والحاصلة على اعتراف موسوعة غينيس للأرقام القياسية باعتبارها أكبر نظام لتوزيع المياه في العالم بطول إجمالي يزيد على 14 ألف كيلومتر.
والواقع أن الشبكة واسعة إلى درجة أنه إذا تم وضع كل هذه الأنابيب العملاقة واحداً تلو الآخر، فإنها ستمتد تقريباً من العاصمة السعودية الرياض، التي تقع في وسط البلاد، إلى غوادالاخارا في غرب المكسيك.
اقرأ أيضاً: قمة المياه الواحدة تجمع المملكة مع كازخستان وفرنسا
من جانبه، قال رئيس هيئة المياه السعودية عبدالله العبد الكريم، إن منظومة النقل المائي في المملكة العربية السعودية تعد الأكبر على مستوى العالم، وتشكل هذه “الأنهار” كلها جزءاً من نظام فريد من نوعه من حيث حجمه وكفاءته والطريقة التي يحد بها من تأثيراته البيئية.
ويبلغ إجمالي شبكة التوزيع أكثر من 130 ألف كيلو متر، في حين تمتد شبكة التجميع إلى أكثر من 50 ألف كيلو متر، وقد بلغ حجم وكثافة نظام إمدادات المياه حداً جعل حتى المناطق النائية من البلاد قادرة على التطور وهي تعلم أن لديها إمكانية الوصول إلى إمدادات المياه الوفيرة ومنخفضة التكلفة.
وتبلغ الطاقة الإنتاجية اليومية للمياه العذبة عن طريق التحلية في المملكة العربية السعودية أكثر من 11 مليون متر مكعب، منها 7.5 مليون متر مكعب تنتجها هيئة المياه السعودية، و3.6 مليون متر مكعب المتبقية يساهم بها القطاع الخاص.
وتعمل محطة تحلية رأس الخير على الساحل الشرقي، التي تعد الأكبر في العالم، بقدرة إنتاجية تتجاوز مليون متر مكعب يومياً من المياه المحلاة، كما تُنتج هذه المحطة 2400 ميغاواط من الكهرباء، باستثمارات تصل إلى 25 مليار ريال سعودي (6.6 مليار دولار).
وتستخدم محطة رأس الخير للطاقة وتحلية المياه، تقنيتي التقطير الفوري متعدد المراحل والتناضح العكسي لإنتاج المياه العذبة، ما يساهم في تحقيق صفر انبعاثات كربونية.
وإضافة إلى التركيز على تقنية التناضح العكسي في محطات تحلية المياه التابعة لها، تعمل هيئة المياه السعودية على إنشاء مصنع لإنتاج الأغشية التي تستخدمها هذه المرافق، ومن المقرر أن يبدأ مصنع الأغشية عملياته في عام 2025، وسيكون الأول من نوعه في منطقة الشرق الأوسط، وسيحقق تخفيضات في استهلاك الطاقة والتكلفة.
اقرأ أيضاً: السعودية: أكوا باور أكبر شركة خاصة لتحلية المياه في العالم
وأضاف العبد الكريم: “حققنا على مر السنين عدداً من النجاحات، بما في ذلك تحويل أنظمتنا الحرارية إلى أنظمة التناضح العكسي، حفاظاً على البيئة، وساعدنا في تحقيق أدنى معدلات استهلاك الطاقة في العالم، لأنها تقلل انبعاثات الكربون إلى أكثر من 37 مليون طن متري من انبعاثات الكربون سنوياً”.
وتابع: “ولم يتوقف خفض استهلاك الطاقة عند هذا الحد، بل أنشأنا أيضاً أول محطة لتحلية المياه تعمل بالطاقة البديلة، ومن خلال استخدام الطاقة الشمسية، تعمل محطة تحلية المياه في الخفجي على تقليل كثافة الطاقة والأثر البيئي لإنتاج المياه العذبة”.
تحققت هذه الإنجازات القياسية بفضل الجهود الحكومية الضخمة التي تقودها الهيئة السعودية للمياه، التي تستند إلى تقنيات مبتكرة وأبحاث مستمرة، تُظهر هذه المشروعات التزام المملكة بتقديم حلول متقدمة لمواجهة تحديات المياه وتعزيز الاستدامة.
لا بد من الإشارة إلى أن الهيئة السعودية للمياه، تمكنت بالتعاون مع شركائها في المنظومة، من تحقيق أرقام قياسية في إنتاج المياه وكفاءة النقل، إذ نجحت في توصيل المياه إلى أكثر من 14 ألف تجمع سكني عبر شركة المياه الوطنية.
كما حققت الشركة العامة للري إنجازات ملحوظة من خلال برنامج إعادة استخدام المياه والري الفعال، ما ساعد على تقليل الهدر والمحافظة على هذه المورد الحيوي.
وتأتي هذه الجهود في إطار استراتيجيات مبتكرة تضمن سلامة إمداد المياه العذبة لأكثر من 35 مليون شخص، مع توقعات بزيادة هذا العدد.
اقرأ أيضاً: توليد الكهرباء من الرياح.. خطوات سعودية كبرى نحو مستقبل أكثر استدامة
إستراتيجية المياه في رؤية 2030
تسعى رؤية السعودية 2030 إلى تحقيق أهداف إستراتيجية تهدف إلى ضمان الوصول المستمر إلى كميات كافية من المياه، سواء في الحالات العادية أو الطارئة، يُركّز البرنامج على تحسين إدارة الطلب على المياه في جميع الاستخدامات، ما يساهم في تقديم خدمات مياه وصرف صحي ذات جودة عالية وبأسعار مقبولة.
كما تتضمن الرؤية المحافظة على موارد المياه وتحسين استخدامها، مع الحفاظ على البيئة المحلية لضمان مصلحة المجتمع السعودي في الحاضر والمستقبل، وتعمل الرؤية على ضمان تنافسية قطاع المياه من خلال تعزيز الحوكمة الفعالة، ودعم مشاركة القطاع الخاص، وتوطين القدرات، والابتكار.
جدير بالذكر، أن المنظمة الدولية لتحلية المياه وإعادة استخدامه (IDRA) اختارت المملكة العربية السعودية مؤخراً، لاستضافة المؤتمر العالمي لتحلية المياه، وإعادة استخدامها لعام 2026.
ختاماً، يعد الماء مصدر ضروري للحياة والتنمية، وهو جزء أساسي لجودة الحياة في المملكة العربية السعودية، ومن خلال مشاريعها التنموية الضخمة، وعلى قائمتها أنهار السعودية الجديدة، تتطلع السعودية إلى المستقبل، لتبقى شبكة المياه لديها ثروة وطنية للأجيال القادمة.
اقرأ أيضاً: ارتفاع هائل بعدد المصانع السعودية بعد رؤية 2030