وسط عالم تتسارع فيه تحولات الطاقة وتتصاعد فيه الحاجة إلى أمن كهربائي مستقر ومتجدد، تتجه أنظار المنطقة العربية نحو مشاريع الربط الكهربائي كحلول استراتيجية تتجاوز مجرد نقل الطاقة، لتُجسد شراكات إقليمية طويلة الأمد. في هذا السياق، يُعد مشروع الربط الكهربائي بين السعودية ومصر نموذجاً رائداً، ليس فقط بفضل حجمه وتقنياته المتقدمة، بل لما يحمله من آفاق تكاملية تُرسّخ دور البلدين في رسم خريطة جديدة للطاقة في الشرق الأوسط.
الربط الكهربائي السعودي المصري: مشروع استراتيجي بخطى ثابتة
أكد مجلس الوزراء المصري في تقاريره الأخيرة أنّ مشروع الربط الكهربائي مع المملكة العربية السعودية يشكّل محوراً استراتيجياً في خطة مصر للتحول إلى مركز إقليمي للطاقة. فمع بلوغ نسبة الإنجاز في المشروع 76.9% حتى شهر مايو 2025، تتقدم الأعمال بخطى واثقة نحو تشغيل شبكة تُعد الأولى من نوعها في المنطقة باستخدام تقنية التيار المستمر عالي الجهد HVDC، والتي تتيح تبادل طاقة تصل إلى 3000 ميغاوات.
ويمتد الخط الكهربائي من مدينة بدر المصرية إلى المدينة المنورة في السعودية، مروراً بمدينة تبوك، ما يُؤسس لجسر طاقي عابر للحدود، قادر على تعزيز استقرار الشبكات وتقليل أخطار الانقطاعات، لا سيما في أوقات الذروة أو الأزمات الطارئة.
الربط مع السعودية هو جزء من تحول جذري شهدته مصر خلال السنوات العشر الماضية. فمنذ عام 2014، ارتفعت القدرات الاسمية لتوليد الكهرباء بنسبة تجاوزت 86%، حيث قفزت من نحو 32 ألف ميغاوات إلى قرابة 59.7 ألف ميغاوات بحلول عام 2024. وهذه القفزة النوعية لم تكن فقط كافية لتغطية الطلب المحلي المتزايد، بل أسفرت عن فائض كبير في الإنتاج، يمهّد الطريق لتصدير الكهرباء وتعزيز مكانة مصر كمزود رئيسي للطاقة في المنطقة.
واعتمد هذا التحول على تنفيذ مشروعات ضخمة، أبرزها محطات سيمنز الثلاث الكبرى في العاصمة الإدارية الجديدة، بني سويف، والبرلس، والتي توفر مجتمعةً أكثر من 14,000 ميغاوات. إلى جانب ذلك، يشكّل مجمع بنبان للطاقة الشمسية (1,465 ميغاوات) ومزرعة رياح جبل الزيت (580 ميغاوات) منارة للطاقة المتجددة في مصر، ويؤكدان توجه البلاد نحو تنويع مصادر الطاقة وتقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري.
من الربط الثنائي إلى الشبكة العربية
لا يقتصر الربط الكهربائي بين السعودية ومصر على تبادل الطاقة بين بلدين، بل هو خطوة أولى نحو شبكة عربية موحدة للكهرباء. ومن خلال هذا المشروع، تسعى الدولتان إلى إرساء نموذج للتكامل الطاقي العربي الذي يربط بين قارات ثلاث: أفريقيا وآسيا وأوروبا. فمصر، على سبيل المثال، ترتبط بالفعل بشبكات كهرباء مع السودان (80 ميغاوات حالياً، مع خطط للوصول إلى 300 ميغاوات)، ومع الأردن (550 ميغاوات، يُتوقع زيادتها إلى 2,000 ميغاوات)، ومع ليبيا (بدراسات للوصل إلى 2,000 ميغاوات). كما تجري دراسات لربط مصر بقبرص واليونان، من خلال خطوط تصل قدرتها إلى 6,000 ميغاوات، مما يُؤهلها لتكون مركز عبور للطاقة بين أفريقيا وأوروبا.
ونال المشروع اهتماماً واسعاً من مؤسسات دولية كبرى. فقد أشادت الوكالة الدولية للطاقة بمشروع الربط الكهربائي المصري السعودي، واصفة إياه بأنه أول مشروع في المنطقة يعتمد على تكنولوجيا HVDC، وهي التقنية المستخدمة في أشهر خطوط الربط في أوروبا. من جانبه، أكد السفير السويدي السابق في القاهرة أن خطط الربط مع أوروبا من خلال مصر ستُعزز أمن الطاقة في القارة، وتدعم الاقتصادين الأوروبي والمصري.
أما إدارة التجارة الدولية الأميركية، فقد أثنت على توجه مصر نحو تنويع روابطها الإقليمية في مجال الطاقة، من خلال مشاريع الربط مع كل من الأردن، العراق، السودان، ليبيا، السعودية، واليونان، معتبرة أن هذه الشبكات ستُشكل نواة لتحالف طاقي إقليمي يعزز من استقرار الأسواق.
مستقبل واعد وتكامل عابر للقارات
يعدّ استكمال مشروع الربط الكهربائي المصري السعودي سيكون علامة فارقة في مشهد الطاقة الإقليمي. فهو لا يحقق مكاسب تقنية فحسب، بل يفتح الباب أمام شراكات اقتصادية أوسع، ونقل خبرات، وتنسيق مشترك على أعلى المستويات في مجالات الطاقة المتجددة، إدارة الشبكات، والاستجابة للطوارئ.
كما أن هذا المشروع يمهّد الطريق لتوسيع التعاون مع الأسواق الأوروبية والآسيوية، خاصة مع التزام مصر بتحقيق أهداف التنمية المستدامة، وتوسيع استثماراتها في الطاقة الخضراء.
ختاماً، ومع بلوغ المشروع أكثر من ثلاثة أرباع طريقه نحو الإنجاز، يبدو أن التشغيل الكامل بات قاب قوسين أو أدنى، حاملاً معه وعداً بمستقبل تتلاقى فيه التنمية والاستقرار والتكامل بين الدولتين الهامتين في العالم العربي.
اقرأ أيضاً: السعودية ومصر: علاقات تتعزز بهدف مصري واضح!