كتب: محسن حسن
يشير مصطلح (المناخ الأخضر) إلى نهج شامل ومستدام يتم الاعتماد عليه من أجل إدارة البيئة وحمايتها، من خلال التركيز على ثلاثة محاور رئيسية متزامنة، أولها محور (الطاقة النظيفة) وهي ذلك النوع من الطاقة التي يتم إنتاجها بطريقة صديقة للبيئة وغير ضارة بالمناخ مثل إنتاج الكهرباء مثلاً، بدون انبعاثات ضارة، من خلال الخلايا العاملة بالطاقة الشمسية، أو من خلال التوربينات العاملة بطاقة الرياح أو الطاقة المائية أو الحرارية، أو من خلال استخدام الوقود الحيوي المصنوع من المصادر النباتية والحيوانية كبديل عن الوقود الأحفوري.
وثانيها محور (الاقتصاد الدائري Circular Economy) وهو أحد النماذج الاقتصادية المبتكرة والهادفة إلى الحد من النفايات، وإلى الاستخدام الأمثل للموارد، وذلك عبر آليات عديدة أهمها تصميم المنتجات بحيث تكون قابلة للإصلاح والتحديث وإعادة التدوير والاستخدام مجدداً بدلاً من التخلص منها، إلى جانب الاعتماد على طريقة آمنة للتخلص من المنتجات القابلة للتحلل الحيوي والتي يمكن أن تضر بالبيئة، وبذلك، يتم الحفاظ على قيمة المنتجات والمواد لأطول فترة ممكنة، مع الحد من النفايات والانبعاثات، بالإضافة للحد من نمط التعامل الاستهلاكي التقليدي مع الموارد والمنتجات البيئية، ما يعزز الاستدامة الاقتصادية وحماية الموارد على المدى الطويل.
أما المحور الثالث فهو الاعتماد على الممارسات الزراعية المستدامة، والمقصود بها تطبيق مجموعة الأساليب والتقنيات الزراعية الهادفة إلى إنتاج الغذاء والمحاصيل بطرق غير تقليدية بيئيًا واجتماعيًا واقتصاديًا، كالاعتماد على الزراعة العضوية الخالية من المبيدات والأسمدة الكيميائية، وتدوير المخلفات الزراعية عبر استخدامها كأسمدة أو في توليد الطاقة، إلى غير ذلك من آليات نظيفة و صديقة للبيئة، هدفها الحفاظ على خصوبة التربة وتحقيق إنتاجية زراعية عالية، ما يعني مجملاً، التقليل من البصمة البيئية لأنشطة البشر، والحد من الانبعاثات، والحفاظ على التنوع البيولوجي.
وقد برز مفهوم (المناخ الأخضر) كضرورة ملحة لمواجهة التحديات غير المسبوقة التي تواجه البيئة الكونية من التغير المناخي والاحتباس الحراري والتدهور البيئي، الأمر الذي أصبحت معه هذه التحديات من قبيل القضايا الملحة التي تتطلب اهتماماً عاماً على مستوى المجتمع الدولي، واهتماماً إقليمياً على مستوى التقسيمات المناطقية للدول والقارات، إلى جانب الاهتمام المحلي والوطني لدى كل دولة من الدول على حدة، ومن هنا تأتي أهمية الاستثمار في هذا المجال الحيوي؛ إذ توجد حاجة ماسة إلى ضخ تمويلات كبيرة لكافة المشاريع والحلول والأدوات المبتكرة التي يمكن من خلالها المضي قدماً في مواجهة المخاوف والتهديدات المناخية المتنامية، وهي التمويلات التي يجب أن تشمل مجموعة واسعة من المجالات المتضمنة في مفهوم (المناخ الأخضر) والتي سبقت الإشارة إليها ابتداءً بمجال الطاقة المتجددة وكفاءتها، مروراً بالزراعة المستدامة والنقل النظيف، وانتهاءً بإدارة النفايات وتطبيق التكنولوجيا الخضراء.
وفي الوقت الراهن، يشهد العالم نمواً ملحوظاً في حجم الاستثمار الأخضر، وتُعد الصين والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي من أكبر المستثمرين في هذا المجال، في حين يوجد أكثر من ثلاثة آلاف شركة عالمية تعمل في مجال الاقتصاد الأخضر واستثماراته المختلفة، وهي توفر فرصاً استثمارية تصل قيمتها السوقية إلى 4 تريليون دولار أمريكي، وبواقع يزيد على 5% من إجمالي سوق الأسهم العالمية، ومن ثم، فإن هذه الاستثمارات والشركات، تساعد كثيراً على تيسير فتح الباب أمام الدول الراغبة في تطوير منظومتها الخضراء، خاصة مع ما ينتج عن هذا التطوير من تحسن كبير في كفاءة الطاقة عبر طرق عدة منها: جودة عزل المباني وأنظمة التدفئة والتبريد، والحد من الاستهلاك الطاقي، وخفض انبعاثات الكربون والفواتير المرتبطة بالطاقة، هذا إلى جانب التحسن الآخر الموازي في مجال النقل الأخضر، عبر تمتين البنية التحتية للشحن وصناعة السيارات والقطارات والحافلات الكهربائية، ما يساهم في الحد من الانبعاثات المرتبطة بقطاع النقل، وهكذا في باقي الاستثمارات الخاصة بالمنظومة الخضراء.
اقرأ أيضًا: استثمارات سعودية أمريكية جديدة بمليارات الدولارات
وفي ضوء ما تقدم، تولي المملكة العربية السعودية اهتماماً بالغاً بالاستثمار في الاقتصاد الأخضر ومنظومته المناخية النقية والنظيفة، وذلك من خلال مبادرة مختصة بهذا الشأن، هي (مبادرة السعودية الخضراء) والتي أطلقتها رئاسة الوزراء السعودية بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز وولي العهد ورئيس مجلس الوزراء الأمير محمد بن سلمان، في الثالث والعشرين من أكتوبر عام 2021؛ حيث تم التركيز خلالها على تطبيق خطة مستدامة وطويلة الأمد لتعزيز الوضع المناخي من حيث الوصول بالانبعاثات الكربونية إلى الحدود الآمنة، إلى جانب استعادة التوازن في المجال الزراعي واستصلاح الأراضي، بالتزامن مع تحقيق أهداف التوازن البيئي من خلال توفير الحماية اللازمة للمناطق البرية والبحرية، وهو ما شهدت في ظله المملكة تحقيق إنجازات متقدمة كان من ثمارها تفعيل أكثر من 80 مبادرة خضراء ونظيفة.
وتعتمد المملكة في تنفيذ مبادرتها الخضراء هذه، على تطبيق نقلات مرحلية ونوعية في الإصلاح والتطوير، وذلك في ضوء ثلاثة أهداف منشودة يشارك في تحقيقها والعمل عليها وجوباً كافة فئات المجتمع السعودي بلا استثناء، وهذه الأهداف هي الحد من الانبعاثات، والتشجير، ثم حماية الأرض والطبيعة، وهو ما خصصت معه رئاسة الوزراء السعودية لجنتين مباشرتين للتنفيذ، هما (لجنة البيئة)، و(لجنة الطاقة وتغير المناخ)؛ حيث تتبلور مهمة هاتين اللجنتين في تنسيق كافة الجهود الرسمية والشعبية، وتحقيق التلاحم والتعاضد بين القطاعين العام والخاص ومنظمات المجتمع المدني، من أجل أن تحقق المبادرة أهدافها وخططها وفق أرقى المعايير الدولية والعالمية المعتمدة في مثل هذا المجال، وبالشكل الذي تصبح خلاله المملكة من دول الريادة العالمية في تطبيقات واستثمارات الاقتصاد الأخضر، وهو ما أتاحت في ظله الحكومة السعودية استثمارات كبيرة ومتنامية بلغت حزمتها الأولى أكثر من 700 مليار ريال سعودي.
وعلى مستوى الهدف الأول من أهداف المبادرة، وهو خفض الانبعاثات الكربونية، تسعى المملكة العربية السعودية إلى التدرج من تحقيق هدف تقليل الانبعاثات المكافيء لثاني أكسيد الكربون بمقدار 278 مليون طن سنوياً بحلول 2030، وصولاً إلى تحقيق الهدف الأسمى وهو تحقيق مستوى الحياد الصفري الكربوني بحلول عام 2060، وهو ما تطبق من خلاله المملكة خططاً تنظيمية للتعامل مع هذا الهدف، لعل من أهمها الالتزام بتوليد 50% من طاقتها الكهربائية عبر مصادر طاقة متجددة بحلول 2030، واعتماد مشاريع متعددة لخفض الانبعاثات منها تعزيز كفاءة الطاقة والنهوض ببرامج احتجاز وتخزين الكربون، وتنمية الاستثمارات الوطنية في مصادر الطاقة المتجددة، وهو ما بدأت معه خطط التحديث والإصلاح، تؤتي ثمارها الإيجابية والمبشرة؛ حيث بلغت السعة الإجمالية لمصادر الطاقة الجديدة المستخدمة في المملكة حالياً 2.8 GW، كما بلغت المنازل التي يمكن تزويدها بالطاقة الكهربائية المستخرجة من مصادر متجددة 520.000 منزل، الأمر الذي سيحفز مستقبلاً على الاستمرار في ضخ المزيد من الاستثمارات المخصصة لرفع الكفاءة الطاقية عبر الهيدروجين النظيف والتقنيات المتطورة لاحتجاز الكربون وتخزينه.
أما على مستوى الهدف الثاني من أهداف المبادرة السعودية الخضراء والمتمثل في التشجير واستصلاح الأراضي، فتسعى المملكة من خلاله إلى توسيع رقعة المساحات الخضراء في عموم البلاد، وهو ما يتم التخطيط له من خلال مواصلة العمل لزراعة عشرة مليارات شجرة في جميع المناطق والمدن السعودية، تم الانتهاء حالياً من زراعة 50 مليون شجرة منذ إطلاق المبادرة عام 2021، جنباً إلى جنب، مع تحقيق محاور أخرى من أوجه الإصلاح ضمن هذا الهدف، ومنها إعادة تأهيل أكثر من 74 مليون هكتار من الأراضي غير المستصلحة، حيث تم فعلياً منذ 2021 وحتى الآن، تأهيل 94.000 هكتار من هذه الأراضي، كما تم إجراء 1.150 مسحاً ميدانياً في مختلف أنحاء المملكة كجزء من الدراسات الخاصة بزراعة الـــ 10 مليارات شجرة، في حين تم إنتاج حوالي 250.000 شتلة في مشاتل مدينة العلا من أجل تحقيق نفس الهدف، ومن المتوقع بحلول 2030 أن يصل عدد الأشجار المزروعة إلى أكثر من 600 مليون شجرة، على أن ذلك يأتي مجملاً، ضمن سياق سعودي عام في تطبيق نهج استباقي هادف إلى معالجة تأثير التغير المناخي، وإشراك جميع فئات المجتمع، كل بحسب دوره وقدرته، في تحسين جودة الهواء، والحد من العواصف الغبارية والرملية، واستعادة الوظائف البيئية الحيوية بطول البلاد وعرضها.
اقرأ أيضًا: مشاريع سياحية يحتفل بها اليوم الوطني 94 للسعودية
وبخصوص الهدف الثالث من أهداف المبادرة، والمتعلق بحماية المناطق البرية والبحرية، فإن ما تسعى إليه المملكة هو تحقيق الحماية الكاملة لـــ 30% من عموم المناطق البرية والبحرية السعودية بحلول عام 2030، وهو ما تعمل عليه الجهات المحلية والوطنية المعنية، بالتعاون مع جهات دولية ذات حيثية كبيرة في الدعم والمساندة كالاتحاد الدولي لحفظ الطبيعة، وتتجه الخطط إلى تعزيز الحماية الخاصة بثروات البلاد من المنظومات البيئية الطبيعة، البرية منها والبحرية وخاصة حماية الأنواع النباتية والحيوانية النادرة والمهددة بالانقراض؛ حيث تصل مساحة المناطق البرية والبحرية التي تخضع للحماية حالياً إلى 66.000 كم2، وقد أنفقت المملكة على سبيل المثال 25 مليون دولار أمريكي لحماية النمر العربي، ومنذ بدء المبادرة السعودية الخضراء 2021 وحتى الآن، تم إطلاق 1669 من الحيوانات في البرية، وخلال 2023، استطاعت المملكة توفير الحماية لــ 18.1% من المناطق البرية، مقابل 6.49% من المناطق البحرية، كما قامت المملكة باتخاذ قرار إنشاء محمية بحرية طبيعية على سواحل البحر الأحمر، والتي ستبلغ مساحتها 6.693 كم2، وستحظى بأهمية بالغة لكونها من المحميات الساحلية المميزة على هذا الممر الحيوي.
ولم تكتف المملكة بتبني خطط الاستثمار المناخي الأخضر على المستوى الوطني والمحلي فقط، وإنما تبنت أيضاً بعض الخطط الموازية والمماثلة لتعزيز هذه النوعية من الاستثمارات في المنطقة العربية والشرق الأوسط، وذلك من خلال مبادرة إقليمية واعدة هي (مبادرة الشرق الأوسط الأخضر) والتي تقودها المملكة العربية السعودية بهدف حشد التعاون العربي والشرق أوسطي من أجل تحجيم الآثار السلبية للمتغيرات المناخية على مستوى دول وشعوب المنطقة، وذلك عبر تدشين بنية تحتية جديرة بخفض الانبعاثات وتقديم منطقة الشرق الأوسط كواحدة من المناطق الداعمة للجهود الدولية الرامية إلى مكافحة التغير المناخي، وأيضاً لرفد المنطقة بالعديد من الفرص الاقتصادية والاستثمارية المرتبطة بهذا المجال، وكانت القيادة السعودية، ممثلة في شخص الأمير (محمد بن سلمان)، قد أعلنت في شهر نوفمبر من عام 2022 الماضي، عن المضي قدماً في تأسيس وتشكيل واستضافة (الأمانة العامة لمبادرة الشرق الأوسط الأخضر)، وعن تخصيص دعم مالي للمشروعات التابعة لهذه المبادرة بقيمة 2.5 مليار دولار أمريكي، وهذه المبادرة الإقليمية السعودية، قوامها القناعة المستقرة لدى القيادة السعودية، بأن تغير المناخ لا يعترف بالحدود، وبأنه يجب أن تكون جهود مكافحة هذا التغير، كذلك، غير معترفة بالحدود، خاصة في ظل تنامي المؤثرات السلبية لتغير المناخ في العالم بشكل عام، وفي المنطقة بشكل خاص؛ حيث ساهمت تداعيات الاحترار المناخي في انتشار الاضطرابات الموسمية في عموم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، كمظاهر الجفاف أو الأمطار الغزيرة، حيث تكبد العواصف الترابية وحدها هذه المنطقة ما يقرب من 13 مليار دولار أمريكي سنوياً، هذا إلى جانب التقليل من فرص العمل والتدهور الحاد في الحالة المعيشية، وهو ما تظهر معه قيمة المبادرة السعودية الهادفة إلى تعزيز المواجهة الإقليمية والجماعية لكل هذه التحديات والمظاهر المناخية السلبية التي تضرب المنطقة والعالم.
وبعد، إن نهج الاستثمار الأخضر الذي تعتمده المملكة العربية السعودية لنفسها ولمحيطها الإقليمي، يمنح دلالة قاطعة على ما تمثله التغيرات المناخية من قضية ذات أهمية مصيرية بالنسبة لخطط التطوير والإصلاح التي تتضمنها رؤية 2030، والرؤية القادمة والتالية لها 2040، إذ ستشكل هذه القضية محوراً رئيسياً من محاور النهضة المناخية السعودية الخضراء خلال العقد القادم وما بعده، خاصة مع ما تحققه تلك الخطط التحديثية من نجاح يليه نجاح في إنجاز الأهداف المنشودة بشكل مرحلي مدروس، يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك، أن القيادة السعودية جادة أيما جدية في تدشين الحقبة الخضراء الجديدة لنفسها ولمحيطها الإقليمي والشرق أوسطي، وأنها تدرك جيداً أهمية قضية المناخ وأهمية الوعي بمخاطرها وآثارها التي لا تقتصر فقط على البيئة الطبيعية، وإنما تتجاوزها إلى التأثير على الاقتصاد والأمن والاستقرار المجتمعي، ومن ثم، فإن المملكة تتطلع مستقبلاً إلى المضي قدماً في التسويق المحلي والإقليمي لضرورة اعتماد نهجها ومبادرتها المناخية التي ترتكز إلى أربعة محاور جادة وحاسمة، أولها تطبيق نهج الاقتصاد الدائري للكربون (CCE) والذي يجمع بين إدارة الانبعاثات والاستفادة منها، وثانيها الاستثمار في التحول الأخضر وتوفير فرص عمل محلية وإقليمية من خلاله، وثالثها حشد التعاون الدولي في مكافحة التغير المناخي، ورابعها عدم استثناء أية جهود مجتمعية وفئوية متاحة يمكنها الإسهام في تحقيق كل هذه الأهداف والمحاور على الأمداء القريبة والمتوسطة والبعيدة.
اقرأ أيضًا: طيران الرياض يساهم في خفض الانبعاثات الكربونية بإطلاق حافلاته الكهربائية