أمام عالمٍ تزداد فيه وتيرة التحول الرقمي، وتقف فيه الحكومات عند سؤال محوري: كيف نُوازن بين تسريع الأتمتة الذكية والحفاظ على دور الإنسان؟ تأتي المملكة العربية السعودية بإجابة غير تقليدية، تُفاجئ بها المراقبين: الأتمتة ليست تهديداً، بل فرصة لتمكين العقول، وليست بديلاً عن الكفاءات، بل رافعة لتطويرها..
الأتمتة الذكية في السعودية: تحول رقمي برؤية إنسانية
خلافاً للسرديات المنتشرة عالمياً عن مخاوف الاستغناء عن الأيدي العاملة بسبب الأتمتة، تتبنى السعودية نهجاً مختلفاً يرى في التكنولوجيا أداة لخدمة المواطن. فالمملكة لا تستخدم الأتمتة كوسيلة لتقليص الوظائف، بل لتوسيع فرص العمل ذات القيمة العالية، من خلال نقل المهام المملة والتكرارية إلى الآلات، وفتح المجال أمام العنصر البشري ليتفرغ للأدوار الإبداعية والاستراتيجية.
وينسجم هذا التوجه بشكل مباشر مع «رؤية السعودية 2030»، التي لا تُعنى فقط بتحديث البنية التحتية أو الاقتصاد، بل تسعى إلى إعادة صياغة العلاقة بين المواطن والحكومة عبر خدمات رقمية ذكية تُقدّم بشكل استباقي، وبدون الحاجة إلى طوابير أو تعقيدات إدارية.
الأتمتة القائمة على الوكلاء: تكنولوجيا بروح بشرية
أحد أبرز المفاهيم التقنية التي بدأت تتبلور في المملكة هو ما يُعرف بـ«الأتمتة القائمة على وكلاء الذكاء الاصطناعي» (Agentic Automation)، وهو نموذج متقدم يدمج بين الذكاء الاصطناعي، والروبوتات، والموارد البشرية في منظومة عمل واحدة متناغمة. وهذه التقنية تتيح للأنظمة التنبؤ بحاجات المواطنين، ومعالجة البيانات غير المنظمة، والعمل دون توقف لتقديم خدمات مرنة ومخصصة.
في هذا الإطار، تُوضح سارة آل الشيخ، نائب الرئيس الإقليمي لشركة UiPath، أن هذا النوع من الأتمتة لا يُقصي الإنسان، بل يدعمه عبر تخفيف عبء المهام المتكررة، وتمكينه من أداء أدوار ذات أثر أعمق وأكثر استراتيجية.
المؤسسات الحكومية… سبّاقة ومؤهلة
لم يأتِ النضج الرقمي الذي وصلت إليه المؤسسات الحكومية في السعودية بمحض الصدفة، بل هو نتيجة لسياسات مدروسة تستند إلى ثلاث ركائز أساسية: أولها أن الأتمتة جزء لا يتجزأ من الاستراتيجية الرقمية للمؤسسة، وثانيها دعم مباشر من صناع القرار، وثالثها التركيز الكبير على تطوير مهارات الكوادر البشرية.
وهذه المعادلة جعلت من الأتمتة خياراً استراتيجياً، وليس تحسيناً تقنياً سطحياً، وفتحت الطريق أمام توسّع استخدامها في مختلف الوزارات والهيئات.
بحسب أحدث المؤشرات، ارتفعت درجة جاهزية السعودية للذكاء الاصطناعي من نحو 60% عام 2023 إلى أكثر من 74% عام 2025، ما يعكس تطوراً نوعياً في البنية التحتية الرقمية، والقدرات المؤسسية. ويرجع هذا التحسن إلى جهود كيانات وطنية مثل «سدايا» وهيئة الحكومة الرقمية، التي أطلقت مؤشرات ومعايير تقيس التقدم المحقق في أكثر من 230 جهة حكومية.
من الحكومة الرقمية إلى «حكومة الوكلاء»
الخطوة التالية التي تُراهن عليها المملكة تتمثل في التحول إلى ما يُعرف بـ«حكومة الوكلاء» (Agentic Government)، حيث تتعاون الأنظمة المؤتمتة مع العنصر البشري لتقديم خدمات ذكية واستباقية، لا تكتفي بالرد على الطلب، بل تتوقعه قبل حدوثه. وهذه الرؤية تتطلب بيئة رقمية محكمة الحوكمة، قوية الحماية، وتقوم على تغيير ثقافي وإداري متكامل، حيث لا تكون الأتمتة مجرد أداة تقنية بل فلسفة عمل جديدة.
ولكون التمكين الرقمي لا يكتمل دون بناء الإنسان، يأتي دور «مدرسة الأتمتة السعودية» التي أطلقتها شركة UiPath بالتعاون مع الأكاديمية السعودية الرقمية، لتكون منصة تدريبية فريدة تُركّز على التطبيق العملي لا النظري.
تزوّد المدرسة الشباب السعودي بالمهارات اللازمة لفهم وتشغيل وتطوير أنظمة الأتمتة، وتدربهم على سيناريوهات حقيقية يتعاملون فيها مع روبوتات ذكية ووكلاء اصطناعيين، ما يؤهلهم لتولي مناصب إشرافية وقيادية في المستقبل القريب.
تجارب ناجحة تعكس فاعلية النموذج
تعدّ وزارة السياحة السعودية من أبرز الأمثلة على نجاح الأتمتة الذكية، إذ واجهت تحدياً يتمثل في دعم هدف جذب 150 مليون سائح سنوياً. عبر استخدام وكلاء الذكاء الاصطناعي، تم تسريع إصدار التراخيص، وتسهيل عمليات التسجيل، وتحسين خدمة العملاء بشكل جذري.
أما وزارة الثقافة، فقد وظّفت الأتمتة لتحسين الكفاءة التشغيلية وتوفير الموارد، ما ساهم في تعزيز الأداء الداخلي وسرعة تنفيذ المشاريع.
وفي الختام، يبدو واضحاً أن السعودية متمسكة بجوهر رؤيتها: الإنسان في المركز. فالتقنية ليست بديلاً عنه، بل ذراعاً لتمكينه، ووسيلة لتحريره من الأعمال الرتيبة، وإتاحة الفرصة أمامه ليكون فاعلاً في اقتصاد المعرفة والمستقبل.
اقرأ أيضاً: قمة البيانات الذكية والذكاء الاصطناعي 2025