يعبر مصطلح (الاستثمار الجريء) عن إحدى الاستراتيجيات الاقتصادية والمالية المعنية باقتحام المخاطر التجارية الفائقة بهدف تحقيق عوائد كبيرة وغير تقليدية تتطلب قدرًا كبيرًا من القدرة على المجازفة والمخاطرة والاستعداد لتكبد الخسائر الضخمة أو التعرض للفشل الاستثماري.
تتميز هذه الاستراتيجية بشغف البحث عن الفرص ذات العوائد المرتفعة من خلال الاستثمار في الشركات الناشئة ذات النمو السريع في مجال الصناعات المبتكرة أو في الأسواق الناشئة.
ولكن وفق شروط مدروسة بعناية من حيث طرق وكيفيات الممارسة الاستثمارية؛ إذ يتعين على الجهة الراغبة في الاستثمار القيام أولاً بتقييم المخاطر المحتملة وفهمها واستيعابها تمامًا قبل اتخاذ القرار.
كتب: محسن حسن
الاستثمار الجريء
رغم أن الاستثمار الجريء يشكل جزءًا صغيرًا من السوق العالمية للاستثمارات، حيث يفضل معظم المستثمرين توجيه أموالهم إلى مشاريع أكثر استقرارًا وأمانًا، إلا أنه يمثل فرصًا حقيقية للحصول على عوائد استثنائية في المدى الطويل إذا تم تطبيقه وممارسته بشكل صحيح وفي الوقت المناسب.
وخلال السنوات الأخيرة، شهد العالم نموًا ملحوظاً في هذه النوعية من الاستثمار بفضل التطور التكنولوجي، وأيضاً بفعل ظهور استثمارات جديدة في مجالات عدة مثل التكنولوجيا الناشئة والابتكار والطاقة المتجددة والصحة والعلوم الحيوية وغيرها، وهي المجالات التي يدعمها ويمولها العديد من الشركات الناشئة والمستثمرين الرياضيين وصناديق رأس المال الاستثماري.
وفي المملكة العربية السعودية، يزداد حجم الاستثمارات الجريئة بمرور الوقت، وفقًا للتطورات الاقتصادية والتشريعات والتوجهات الاستثمارية في البلاد، والتي تستمد فاعليتها من الزخم الاقتصادي والاستثماري الذي أحدثته مبادرات عدة تشجع على التنمية والابتكار والتجديد، مثل (رؤية المملكة 2030) و(مبادرة الاستثمار الصناعي) وتأسيس صندوق الاستثمار العام السعودي (Public Investment Fund – PIF) الذي يعتبر من أكبر الصناديق السيادية في العالم، و الذي يهدف إلى دعم الاستثمارات في مجالات متنوعة بما في ذلك الاستثمار الجريء والتكنولوجيا الناشئة وجميع القطاعات الحيوية في البلاد.
اقرأ أيضًا: خريطة ريادية ناهضة للأعمال السعودية.. والشركات الناشئة تستعيد زخم النمو بدعم النظام الإيكولوجي المستدام
نمو منظومة الاستثمار الجريء للشركات الناشئة السعودية
وفق البيانات الصادرة عن منصة (MAGNiTT) الرائدة في رصد مؤشرات الاستثمار الجريء وتوجهات الابتكار التكنولوجي والأسواق الناشئة في الشرق الأوسط وأفريقيا، تشهد منظومة الاستثمار الجريء للشركات الناشئة السعودية منذ خمس سنوات، نمواً مطرداً استطاعت من خلاله أن تشغل حيزاً تنافسياً كبيراً على المستوى الخليجي والإقليمي؛ حيث تصدرت المملكة خلال النصف الأول من العام الحالي 2023، قائمة الدول الأكثر استحواذاً على حصص الاستثمار الجريء على مستوى دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بواقع قيمة استثمارية قدرها 446 مليون دولار أمريكي، ولا تزال البلاد متصدرة لهذه القائمة إلى الآن، على الرغم من انخفاض هذه القيمة بنسبة تزيد على 26% قياساً بقيم الفترة ذاتها من العام السابق 2022؛ فقد كان من مظاهر التطور الحادث في بنية ومنظومة الاستثمارات السعودية الجريئة، إزاحة الاستثمارات الإماراتية إلى المرتبة الثالثة بعد أن كانت متفوقة بفجوة استثمارية جريئة قوامها يزيد على 80 مليون دولار خلال النصف المتقدم من عام 2022، لتحل الاستثمارات السعودية خلال الربعين الأول والثاني من 2023 في المرتبة الأولى محققة فائضاً استثمارياً يزيد على 205 ملايين دولار.
تليها مصر في المرتبة الثانية بقيمة استثمار جريء قدرها 305 مليون دولار، ثم الإمارات بقيمة استثمارية قدرها 239 مليون دولار.
وكانت السعودية قد نجحت خلال العام الماضي 2022، في تقليص الفجوة التمويلية بينها وبين الإمارات، من قرابة المليار دولار عام 2021، إلى 200 مليون دولار فقط في العام التالي، كما استطاعت خلال 2021 تقليص فجوة أخرى متعلقة بعدد الصفقات لتصبح تسع صفقات مقابل 23، حيث ساهم ارتفاع النمو الكبير على أساس سنوي في السوق السعودية خلال 2022، مقابل تراجع التمويل في السوق الإماراتية، في تحقيق إنجازات متواصلة تعمل على تقليص الفجوات الاستثمارية بين الدولتين.
وكانت قيم الاستثمار الجريء للمملكة العربية السعودية، خلال العام الحالي 2023، والتي حققت من خلالها الاستثمارات السعودية أعلى إسهاماتها ضمن القيم الإجمالية للاستثمار الجريء في أفريقيا والشرق الأوسط، قد تعززت ــ وفق ما تؤكده (ماجنيت) ـــ ببعض الصفقات النوعية مثل صفقة شركة التجارة الإلكترونية(Floward) والبالغة أكثر من 155 مليون دولار، وصفقة منصة (نعناع) البالغة أكثر من 130 مليون دولار ، كما أن حرص المملكة على تقديم دعم غير مسبوق للشركات الخاصة والناشئة والمشاريع الريادية، ساعد على تمهيد الطريق أمام أن تصبح السعودية مركزاً من مراكز الجذب الإقليمي والدولي للاستثمارات العابرة للحدود، وهو ما ساهم في زيادة عدد الشركات الناشئة في مجال الابتكار وريادة الأعمال ضمن المسارات المنشودة لأهداف الاستثمار الجريء، ولعل قيام المملكة بدعم العديد من الشركات خارج حدودها عبر ضخ ملايين الدولارات الموجهة دون خوف أو تردد، يؤكد حجم اطمئنان المخطط الاقتصادي السعودي لجدارة الإدارة الاستثمارية وقدرتها على المخاطرة المحسوبة، وهو ما يظهر جلياً من تنويع الصفقات بحسب المتوقع المدروس من عوائدها؛ فعلى سبيل المثال استحوذت التجارة الإلكترونية على 20% من صفقات الاستثمار الجريء السعودية، في حين استحوذت قطاعات البيع بالتجزئة على قرابة الــ 85% من تلك الصفقات، ومن المتوقع أن تزيد أحجام الاستثمارات السعودية الجريئة في مجال التجارة الإلكترونية مستقبلاً، نظراً لما يمثله هذا القطاع من محور حيوي في عملية التطوير الاقتصادي وفق خطط واستراتيجيات رؤية 2030 الممتدة.
اقرأ أيضًا: هكذا سيصبح التوظيف أسهل في الشركات الناشئة !
رؤية السعودية 2030 وتعزيز الاستثمار في الشركات الناشئة
من خلال التقرير الصادر في يناير 2023 عن (الشركة السعودية للاستثمار الجريء)، التابعة لبنك المنشآت الصغيرة والمتوسطة، التابع بدوره لصندوق التنمية الوطني، ندرك إلى أي حد تهتم رؤية 2030 السعودية، بدعم وتعزيز ريادة الأعمال والاستثمار في الشركات الناشئة؛ حيث يذكر التقرير أن المملكة شهدت خلال العام الماضي 2022، ضخ وتنفيذ استثمارات قياسية قاربت المليار دولار، وقد بلغت على وجه الدقة ثلاثة مليارات وسبعة ملايين ريال سعودي، أي ما يساوي 987 مليون دولار أمريكي في شركات ناشئة محلية ووطنية، وهو ما عكس نمواً استثمارياً نسبته 72% قياساً بعام 2021؛ حيث أنجزت منظومة الاستثمار الجريء السعودية، مشاركات نوعية لأكثر من 100 مستثمر، محققة نسبة ارتفاع في عدد المستثمرين قدرها 30%، وكان عدد صفقات التخارج لتلك الشركات خلال 2022 هو عشر صفقات، وهو يساوي ضعف عدد الصفقات المتحققة خلال العام السابق 2021، وبهذا تكون المملكة قد حافظت على موقعها كثاني أكبر الأسواق حجماً في الاستثمار الجريء في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بعد أن استحوذت على 31% من إجمالي الأموال المستثمرة في هذه المنطقة خلال 2022، وذلك قبل أن تتقدم في المرتبة خلال النصف الأول من 2023، وهو الأمر الذي يشير إلى وجود جهود سعودية حثيثة نحو تحفيز التمويلات الرأسمالية للملكيات الخاصة من الشركات والمنشآت الصغيرة والمتوسطة، بهدف الوصول إلى الهدف الوطني المنشود، وهو تحريك المياه الراكدة في ديناميكية عمل القطاع الخاص، ليساهم بقوة في تنويع الاقتصاد السعودي وإحياء قطاعاته غير النفطية.
وبتأمل المؤشرات الدالة على تطوير حجم الاستثمار الجريء في المملكة العربية السعودية، منذ انطلاقة رؤية المملكة 2030 وحتى الآن، يتبين لنا كيف استطاعت الرياض تثوير اقتصادها واستثماراتها عبر قفزات تمويلية وإنجازات ميدانية في أسواق المال والأعمال؛ فبحسب البيانات الصادرة عن MAGNiTT كان عدد صفقات الاستثمارات الجرئية في المملكة خلال عام 2016 هو 40 صفقة بقيمة 30 مليون دولار أمريكي، ثم في عام 2017 انخفض العدد إلى 29 صفقة ولكن بقيمة مالية أكبر هي 43 مليون دولار، وفي العام التالي 2018، ارتفع عدد الصفقات ليصبح 56 صفقة، وبقيمة استثمارية 59 مليون دولار، ليقفز عدد الصفقات في العام 2019 إلى 72 صفقة، وبقيمة استثمار جريء قدرها 110 مليون دولار، وفي عام 2020، زاد العدد ليصبح 92 صفقة، وبقيمة مالية قدرها 151 مليون دولار، ليشهد العامان التاليان قفزات نوعية ملحوظة، حيث سجل عام 2021 عدداً من الصفقات قدره 149 صفقة، وبقيمة استثمارية قدرها 575 مليون دولار، في حين سجل عام 2022 ما مقداره 144 صفقة، بقيمة قدرها 987 مليون دولار أمريكي، وهو ما يعني أن قطاع الاستثمار الجريء في المملكة أنجز خلال سبع سنوات ما مقداره 582 صفقة استثمارية، وبقيمة مالية واستثمارية قدرها مليار و955 مليون دولار.
وبتأمل القيم التفصيلية السابقة، سنجد أن الفترة من 2018 إلى 2022، شهدت ارتفاع عدد صفقات الاستثمار الجريء من 56 صفقة إلى 144 صفقة، كما ارتفعت القيمة الإجمالية لهذا الاستثمار خلال ذات الفترة من 59 مليون دولار إلى 987 مليون دولار، بينما زاد عدد المستثمرين الجريئين من 26 مستثمر فقط عام 2018، إلى 104 مستثمرين عام 2022.
اقرأ أيضًا: منتدى المشاريع المستقبلية 2024: بوابة نحو عالم من الفرص الاستثمارية الواعدة في السعودية
الحضور الاستثماري السعودي في الأسواق الإقليمية والدولية
وتجدر الإشارة هنا، إلى أهمية الدور الذي تلعبه الشركة السعودية للاستثمار الجريء، في دفع وتعزيز وتيرة الحضور الاستثماري السعودي في الأسواق الإقليمية والدولية، وما يترتب على هذا الحضور من رفع كفاءة وتنافسية منظومة الاستثمارات الجريئة، وخاصة في مجال ريادة الأعمال والشركات الناشئة؛ إذ تبلغ إجمالي الاستثمارات الجريئة الثابتة للشركة بخلاف الشركاء حتى 31 ديسمبر 2022، مليار و682 مليون ريال سعودي، أي ما يوازي 448 مليون دولار أمريكي، يضاف إليها استثمارات الشركاء والتي تبلغ قيمتها 2 مليار و119 مليون دولار، وبإجمالي استثمارات مصروفة قيمتها 218 مليون دولار.
وتستثمر الشركة في أكثر من 30 صندوقاً استثمارياً، كما أن حجم استثماراتها بالمشاركة في الشركات الناشئة، خلال التاريخ المشار إليه، يستحوذ على 56 مستثمراً ملائكياً، وخمس مجموعات استثمارية ملائكية، بالإضافة لـــ16 مستثمراً مؤسساتياً، وحتى الثلاثين من سبتمبر 2022، كان في رصيد تعاملات الشركة، ما يزيد على 900 صفقة استثمارية، من بينها 18 صفقة تخارج، و311 صفقة وطنية سعودية، كما تتعاطى الشركة مع أكثر من 520 شركة أخرى في السوق السعودية وغيرها، من بينها 145 شركة وطنية ومحلية، وفرت من خلالها أكثر من 19 ألف وظيفة مباشرة وغير مباشرة، وتقود هذه الشركة أهم أنشطة الاستثمار الجريء في العديد من القطاعات الحيوية في المملكة، كقطاع المعلومات والاتصالات، والفنون والإعلام والترفيه، والخدمات الإدارية والمساندة، والقطاع المالي، وقطاع الإنشاءات، وقطاع النقل والخدمات اللوجيستية والتخزين، بالإضافة لقطاعات أخرى، كالقطاع الصناعي وقطاع التعليم، وقطاع الرعاية الصحية، وقطاع التجزئة والبيع بالجملة، وقطاع الألعاب والرياضات الإلكترونية.
وأخيراً، يعد الارتباط الوثيق بين أنشطة الاستثمارات الجريئة في المملكة العربية السعودية من جهة، والنهوض بالشركات الناشئة والملكيات الخاصة من جهة ثانية، سبباً وجيهاً من أسباب زيادة الفاعلية الاستثمارية في البلاد، كما أنه يشكل حجر الزاوية في تحريك الأفكار والتجارب الإبداعية المتعلقة بالاستثمار وبيئته الرحبة، وهو ما يساعد أيضاً على اتساع رقعة التنوع الاقتصادي والتجاري والخدمي في المملكة، فمن خلال فتح المجال لدعم الاستثمار الجريء، يتوقع مستقبلاً أن ينفتح القطاع الاستثماري السعودي على استراتيجيات طموحة لهذا النوع من المخاطرة المالية والاستثمارية المحفزة على تدوير القدرات والمواهب المالية بحثاً عن الفرص الواعدة والكامنة المفضية إلى تحقيق أرباح غير تقليدية، وهو ما ستحتل البلاد معه مكانة استثمارية غير مسبوقة في تاريخ المنطقة.
اقرأ أيضًا: مشروع الزلال: مركز متعدد الاستخدامات في الدرعية يعزز التراث ويفتح أفاقاً جديدة للاستثمار