في زمنٍ لا تُمنح فيه الدول رفاهية الحياد، تتقدّم المملكة العربية السعودية بصمتٍ دبلوماسي مدروس في محاولة لاحتواء واحدة من أكثر الأزمات سخونة في الشرق الأوسط: التصعيد العسكري المتواصل بين إيران و«إسرائيل». ومع استمرار التراشق بالصواريخ والطائرات المسيّرة لليوم السادس على التوالي، تسعى الرياض جاهدة إلى ترسيخ دورها كلاعب إقليمي مؤثّر قادر على وقف زحف النيران ومنع امتدادها إلى ساحات أكثر هشاشة.. فما الذي قامت به السعودية حتى اليوم وما حدود تأثيرها من وجهة نظر الخبراء؟ وكيف أثرت الحرب الإيرانية «الإسرائيلية» عليها؟
الحرب الإيرانية «الإسرائيلية»: تصاعد التوترات وأثرها على السوق السعودية
بعدما شنت «إسرائيل» غارات على مواقع نووية وعسكرية إيرانية في 13 يونيو 2025، ردت طهران بإطلاق صواريخ على مواقع في «إسرائيل»؛ ما أدى إلى انهيار الأسواق الخليجية، ومنها المؤشر الرئيسي السعودي (TASI)، الذي سجل تراجعاً بنسبة 0.2–1.2% بحسب الأيام، خاصة أسهم الراجحي وأرامكو. وهذا الهبوط جاء في ظل مخاوف من انضمام الولايات المتحدة عسكرياً، ومخاوف المستثمرين الذين سحبوا رؤوس أموالهم تحسباً لتصعيد محتمل.
في موازاة ذلك، قفزت أسعار النفط بنسبة 7–14%، حيث تجاوز سعر البرميل 77 دولاراً، وصارت لغة الأسواق تشير إلى بلوغ 100 دولار وربما 150 إذا تعرض مضيق هرمز للخطر. وهذا ما أطلق معطى جديد في حسابات السعودية: فبينما تسعى إلى كبح ارتفاع الأسعار، بالتنسيق مع روسيا والولايات المتحدة، فإنها تخشى أن يجرّ ارتفاعها تصاعداً ضمنيّاً في التكاليف الداخلیة والضغوط التضخمية.
سياسة سعودية ناشطة وسط العاصفة
بالتوازي، ومنذ اللحظة الأولى للتصعيد بين تل أبيب وطهران، بدأت الرياض بإرسال إشارات واضحة إلى المجتمع الدولي، تدعو فيها إلى ضرورة وقف العمليات العسكرية المتبادلة. وقد أكدت مصادر سعودية أن الغارات «الإسرائيلية» على الأراضي الإيرانية – والتي أطلقت عليها تل أبيب اسم «عملية الأسد الصاعد» – شكّلت عائقاً حقيقياً أمام المساعي الدبلوماسية الرامية إلى احتواء الموقف، وفرضت واقعاً جديداً غير مواتٍ لجهود التهدئة.
وهذه الرسائل لم تقتصر على بيانات سياسية، بل تمثلت أيضاً في اتصالات دبلوماسية عبر قنوات متعددة، هدفت إلى تنشيط المساعي الأممية وتعزيز الحوار بين الأطراف الفاعلة.
الخليج يدعو للسلام.. و«إسرائيل» تختار النار
وفي حديثه حول ذلك، يرى الدكتور سالم اليامي، الباحث السعودي في العلاقات الدولية، أن التحركات السعودية والخليجية تندرج ضمن منهجية سياسية قائمة على العقلانية ورفض منطق المغامرة. ويقول إن ما تقوم به دول الخليج، وعلى رأسها السعودية، يعكس حرصاً حقيقياً على تجنيب المنطقة تداعيات نزاع مفتوح، يمكن أن يترك آثاراً كارثية على الشعوب قبل الأنظمة.
ويؤكد اليامي أن السعودية لا تسعى إلى فرض نفسها كوسيط فحسب، بل كدولة تضع الاستقرار الإقليمي في قلب أولوياتها، عبر الانخراط النشط في الجهود الدولية، والدفع باتجاه العودة إلى المسار السياسي بدل العسكرة.
الخطاب الإعلامي: سلاح موازٍ للصواريخ
إلى جانب العمليات العسكرية، تشهد المنطقة أيضاً تصعيداً في الخطاب الإعلامي بين الطرفين. فبينما تروّج “إسرائيل” لعملياتها على أنها ضرورية لتحييد الخطر النووي الإيراني، ترد طهران عبر خطاب هجومي من المرشد الأعلى علي خامنئي، الذي وصف “إسرائيل” بأنها «كيان إرهابي»، مؤكداً رفضه التفاوض مع أي طرف يدعمها.
وهذه الحرب النفسية والإعلامية المتبادلة تعكس عمق الأزمة، وتعزز المخاوف من أن يتحول النزاع إلى صراع طويل الأمد، يجرّ خلفه قضايا أخرى كانت مؤجّلة أو مهمّشة.
اقرأ أيضاً: أين وصل مشروع الربط الكهربائي السعودي المصري؟
الموقف السعودي لا يتجاهل غزة
رغم الانشغال الإقليمي والدولي بالتصعيد بين إيران و”إسرائيل”، لم تغب القضية الفلسطينية عن جدول المواقف السعودية. فقد دانت الرياض، عبر بعثتها الدائمة لدى الأمم المتحدة في جنيف، الانتهاكات” الإسرائيلية” في قطاع غزة، لا سيما سياسة الاستيطان والاعتداءات المتكررة على المدنيين.
وهذا الموقف، وفق تحليل الباحث الأميركي ريتشارد ويتز، يدل على أن السعودية ترى في التصعيد الإيراني” الإسرائيلي” خطراً على أمن المنطقة ككل، وليس على طرفين فحسب، وتسعى بالتالي إلى ربط الحلول الجزئية بالرؤية الأشمل التي تتضمن إنهاء معاناة الشعب الفلسطيني أيضاً.
يشير ويتز، وهو مدير التحليل السياسي والعسكري في معهد «هاديسون»، إلى أن دور السعودية لا ينبغي اختزاله في محاولات التهدئة بين طهران وتل أبيب، بل يتعدى ذلك إلى التأثير في السياسة الأميركية ذاتها، نظراً لمتانة الشراكة بين البلدين.
ويضيف أن السعودية تمتلك من الخبرة السياسية ما يؤهّلها للعب أدوار فعّالة في مناطق النزاع، مستشهداً بما قامت به في ملفات معقدة كالأزمة السودانية، والنزاع الهندي الباكستاني، فضلاً عن دورها اللافت في الوساطة بين روسيا وأوكرانيا، حيث نجحت في جمع الطرفين على طاولة واحدة، وهو إنجاز لم تستطع قوى عظمى تحقيقه.
واشنطن بحاجة إلى الرياض
في ضوء هذا السجل، يرى ويتز أن السياسة الأميركية – حتى وإن بدت مترددة أو منقسمة في تعاملها مع الهجمات ”الإسرائيلية” الأخيرة – لا تستطيع تجاهل أهمية الدور السعودي، خصوصاً أن الولايات المتحدة تبحث عن شريك إقليمي يمكنه ضبط الإيقاع في منطقة لا تقبل الفراغ.
هذا وقد سبق للمملكة أن نجحت في تسكين أزمات متفجّرة في الجوار، ما يعزز ثقة المجتمع الدولي بقدرتها على لعب دور مشابه في الأزمة الحالية، خاصة في ظل تعقيداتها النووية والطائفية والجيوسياسية.