دفعت بغداد بورقة العطاء الأهم إلى طاولة الإقليم، فالمطار ليس مجرد مبنى للركاب، بل بوابة اقتصاد ومعبر سياسة وصورة بلدٍ يتهيأ للعودة إلى مسارات الطيران الكبرى. حين تُعلَن منافسة طويلة الأمد على إدارة هذا القلب النابض، تتدافع شركات من السعودية وتركيا والمملكة المتحدة وغيرها لتضع بصمتها على عقد يمتد ربع قرن، وتعد بأن تُحدث قفزة في الخدمات والعوائد والسمعة. في قلب هذا المشهد يتقدّم سؤال: كيف يتحول مشروع تشغيل مطار إلى رافعة اقتصاد وثقة واستقرار؟
لماذا يمثل تشغيل مطار بغداد الدولي عقداً استراتيجياً؟
أعلنت وزارة النقل العراقية تلقي ثلاثة عروض ائتلافية لتطوير وتشغيل مطار بغداد الدولي ضمن نموذج الشراكة مع القطاع الخاص، على أن تُفتح العطاءات المالية في 16 أكتوبر 2025 بعد استكمال تقييم العروض الفنية.
يقود الملفَ استشارياً «المؤسسة المالية الدولية» (IFC) بما تمتلكه من خبرة في هيكلة مطارات على مستوى العالم، فيما يمتد نطاق العقد إلى 25 عاماً تشمل التشغيل والصيانة واسترداد الاستثمار عبر تحسين الخدمات والإيرادات التجارية. دلالة التوقيت لا تقل أهمية عن طبيعة العقد، فالعراق يسعى لتحديث بواباته الجوية بما يواكب حركة مسافرين وتجّار تتسارع إيقاعاً في المنطقة.
من يتنافس، وماذا يَعِد؟
تقدم الائتلاف الأول بقيادة «أسياد القابضة» من السعودية و«توب إنترناشونال إنجينيرينغ كوربوريشن أرابيا»، وبمشاركة «YDA إنشات» التركية و«لمار القابضة» البحرينية. أما الائتلاف الثاني فيضم «ERG إنترناشونال» (المملكة المتحدة) مع «تيرمينال يابي» و«ERG إنشات» من تركيا.
والائتلاف الثالث تقوده «كوربوراسيون أميركا إيربورتس» (CAAP) مع «أمواج الدولية» العراقية. المشترك بين العروض الثلاثة هو التعهد بإعادة تأهيل البنية التحتية القديمة وبناء محطة ركّاب جديدة، مع تشغيل وصيانة شاملين على مدى العقد. وهذه الأسماء ليست طارئة على قطاع المطارات؛ بعضها يدير منظومات مطارية إقليمية ودولية ويعرف كيف تُترجم الخبرة إلى معايير خدمة وتدفقات إيرادية مستقرة.
ما الذي يكسبه العراق… وما الذي ينبغي الحذر منه؟
يُنتظر من تشغيل مطار بغداد الدولي بنموذج الشراكة أن يرفع الكفاءة، يقلّص زمن الإجراءات، ويُحدث نقلة في تجربة المسافر من لحظة الوصول حتى بوابة الطائرة. وتشير وثائق حكومية منشورة خلال مراحل التحضير للمشروع إلى توسيع السعة الاستيعابية عبر محطة جديدة تُقدَّر طاقتها الأولية بنحو 8.5 ملايين مسافر سنوياً، مع هدف تدريجي للوصول إلى 15 مليوناً بحلول 2040، إلى جانب تحديث المدرجات، وتوحيد مرافق الـVIP، وتنشيط الأنشطة التجارية داخل وخارج الصالات.
وبحسب الإطار المُعلن، تبقى الوظائف السيادية والأمنية تحت إدارة الدولة، فيما يتولى المستثمر الخاص خدمات الركاب والمناولة والشحن داخل حدود المطار التجارية، وهو ما يوازن بين متطلبات السيادة وفوائد الكفاءة السوقية.
دينامية تنافسية تعكس تحولات الإقليم
تُقرأ المنافسة على تشغيل مطار بغداد الدولي في سياق انفتاح اقتصادي إقليمي: شركات سعودية تتقدّم بخبرة تشغيل وخدمات طيران، مجموعات تركية راكمت خبرة إنشائية وتشغيلية في مطارات المنطقة، وذراع بريطانية ضمن ائتلاف ذي امتداد تركي، إضافة إلى لاعب دولي كـ «CAAP» يدير مطارات عبر أمريكيا اللاتينية وأوروبا.
هذه الخلطة تُغري بغداد بمزيج من التمويل، ونقل المعرفة، وحلول التشغيل التجاري. كما أن اختيار 16 أكتوبر موعداً لفتح العطاءات المالية يمنح المستثمرين نافذة ضيقة لصقل عروضهم بعد التقييم الفني، ويعكس رغبة رسمية في الانتقال بسرعة من الورق إلى التنفيذ.
ما وراء المدرج: سلسلة قيمة كاملة
نجاح تشغيل مطار بغداد الدولي لا يتوقف عند صالة جديدة أو مدرج مُعاد التأهيل؛ الأثر الحقيقي يتجسد في سلسلة القيمة: من شركات الطيران التي تضيف وجهات وتزيد ترددات، إلى مزوّدي المناولة الأرضية، ومشغلي التجارة التجزئية، ومراكز الشحن المتخصصة.
كل حلقة تضيف فرص عمل وتدريباً وتوطين مهارات، فيما ينعكس تحسين السمعة على قرارات شركات الطيران العالمية بإضافة بغداد إلى شبكاتها أو توسيع وجودها فيها. وهنا تبرز أهمية مؤشرات أداء واضحة وربط الدفعات بالأداء، حتى لا يتحول العقد الطويل إلى تعاقدٍ مريح بلا حوافز.
تحديات التنفيذ… وكيف تُدار؟
أي عقد يمتد 25 عاماً معرض لتقلبات النفط، والدورات الاقتصادية، والتطورات الأمنية والتشريعية. لذلك يصبح توزيع المخاطر بين القطاعين العام والخاص حجر الزاوية: مخاطر البناء والطلب والتشغيل تُدار عبر ضمانات أداء وجداول مراحل، بينما تُصان المرونة في التعرفة والخدمات بما يحفظ جاذبية المطار للمسافرين وشركات الطيران.
كذلك، فإن الشفافية في نشر النتائج وتحديث مؤشرات الأداء تمنح الجمهور ثقة بأن تشغيل مطار بغداد الدولي مشروع وطني طويل النفس، لا صفقة مؤقتة.
رهان قابل للقياس
ما ستسجله لوحات الرحلات في السنوات الأولى كفيل بقراءة نتيجة الرهان: زمن انتظار أقصر، إيرادات غير جوية أعلى، شركات طيران جديدة، ورضا مسافرين يقيسه السوق قبل الاستبيانات. حينها فقط يصبح الحديث عن «بوابة بغداد» واقعاً ملموساً، ويغدو العقد الممتد حتى منتصف الأربعينيات نقطة تحول في تاريخ المطار والعاصمة معاً.
وإذا مضت الحكومة قدماً وفق الإطار المعلن، وبقيت الـ IFC ضامناً صلباً للحوكمة، فإن فرص النجاح ترتفع بمقدار ما يُتاح من شفافية ومساءلة وتنافسية في كل مرحلة.
اقرأ أيضاً: الدكتور معجب العدواني لأرابيسك لندن: نقدنا السعودي حاضر في فضاء الإبداع، واقتصادنا الثقافي إيجابي وخلاق!

