كتب: محسن حسن
خلال السنوات القليلة الماضية، أدركت دول الاتحاد الأوروبي أهمية تعزيز الشراكات الاقتصادية مع دول الشرق الأوسط ومنطقة الخليج، خاصة بعدما شهدته هذه الدول من تحولات جيوسياسية ذات بعد مالي واستثماري واستراتيجي يمكنها أن تشكل حجر الزاوية في تقديم الكثير من الدعم والمساندة لمجمل الاحتياجات والضغوط الاقتصادية التي أصبحت تواجهها القارة الأوربية بشكل ملحوظ مؤخراً.
وتحتل المملكة العربية السعودية في المرحلة الراهنة رأس قائمة الدول الخليجية والشرق أوسطية من حيث الأولوية الاقتصادية لدى عموم المسؤولين الاقتصاديين والاستثماريين والتجاريين في دول الاتحاد الأوروبي، وذلك بعد أن أسست المملكة ركائز حضورها الاقتصادي الدائم في القارة الأوربية، وقدمت نفسها عملياً من خلال رؤية 2030، باعتبارها الوجهة الواعدة كمركز جذب للمشاريع الكبرى الإقليمية والدولية، وكذلك كمركز اتصال وربط بين الأسواق الاقتصادية النشطة في ثلاث قارات متفاعلة هي إفريقيا وآسيا وأوروبا
شريك مثالي
وحالياً تدرك الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي أن المملكة العربية السعودية تتمتع بطموحات وتطلعات اقتصادية واستثمارية غير محدودة، ما مكنها على مدار العقد الماضي من حسم المنافسات الإقليمية مع الكثير من دول المنطقة على اعتلاء منصة القيادة الاقتصادية، وخاصة مع تركيا وإيران والإمارات وقطر، الأمر الذي ساعد كثيراً على تمكين الرياض من استقطاب شراكات إقليمية ناهضة من الناحية التجارية مع كل منافسيها، والذين لم يجدوا بداً في ظل تفوق المملكة اقتصادياً من التجاوب الإقليمي الإيجابي مع طموحاتها ونضجها وتطلعها الجاد نحو القيادة والتفوق، وهو ما تحول في ظله الاقتصاد السعودي ومعه الأسواق السعودية تحت رعاية صندوق الاستثمارات العامة، نحو ريادة اقتصادية متجاوزة للمحلية والإقليمية في اتجاه دولي وعالمي، وبالتالي لم يجد أقطاب الاقتصاد في القارة الأوربية مفراً من الإقرار بأن المملكة هي الشريك الاقتصادي المثالي بالنسبة لدولهم، وذلك من حيث القدرة على ضمان الاستدامة الاستثمارية والاستقرار الطاقي وتدفق سلاسل التوريد. وبحسب البيانات الصادرة عن الهيئة العامة للإحصاء بالمملكة، فإن حجم التبادل التجاري الأوروبي مع المملكة، شكل ما يزيد على 13% خلال عام 2022، مقابل أقل من 16% خلال 2023، وبواقع حجم تبادل قدره 80 مليار دولار سنوياً، حيث يمثل الاتحاد الأوروبي ثاني أكبر الشركاء التجاريين بالنسبة للمملكة.
وفي إطار الحرص الأوروبي على دعم الشراكة الاقتصادية الشاملة مع المملكة، تسعى شركات أوروبية عديدة نحو التواجد والحضور ضمن بنية الأنشطة الاقتصادية المتنوعة والمتنامية في الداخل السعودي، وخاصة في الاقتصاد غير النفطي الهادف إلى تنويع مصادر الدخل وتطوير بنية الاقتصاد السعودية وتحويلها من أحادية الاقتصاد الريعي إلى التنوع الاقتصادي وتعدد الموارد الاقتصادية، الأمر الذي زادت خلاله الشركات الأوروبية العاملة في البلاد على 1350 شركة متعددة التخصصات والقطاعات الاقتصادية، بحيث أصبحت هذه الشركات الأوربية تساهم بشكل كبير في رفع معدل الاستثمارات الأجنبية المباشرة، وهو بدوره ما يساعد على تنامي حجم المبادلات التجارية بين أسواق المملكة والأسواق الأوروبية المختلفة تبعاً لطبيعة المجالات الاقتصادية، وبنسبة نمو تجاوزت 25% في الأعوام الأخيرة، وبالطبع فإن ما تحدثه السعودية من تطوير مستمر على مستوى البنية التحتية الاقتصادية والاستثمارية والتجارية إلى جانب ما تقدمه من خدمات لوجيستية للشركات الاستثمارية العاملة على أرضها، يساهم بدوره في تنمية الشراكات الاقتصادية بصفة عامة والشراكات الاستثمارية والتجارية مع أعضاء الاتحاد الأوروبي بصفة خاصة؛ فعلى سبيل المثال بلغ إجمالي التبادل التجاري بين الجانبين بما في ذلك الاستثمار الأجنبي المباشر حوالي 130 مليار يورو خلال عامى 2021/2022.
اقرأ أيضاً: تحالف بريطاني سعودي إماراتي يصب في مصلحة مصر
مرونة وحيادية
وعلى مستوى الاستثمارات الخارجية، تعتمد المملكة العربية السعودية سياسات مالية واقتصادية مرنة وقادرة على التعاطي مع المتغيرات دون حاجة للصدام مع طرف على حساب طرف آخر، وهو ما تطبقه القيادة السعودية على سبيل المثال في تعاملاتها المالية والاستثمارية مع الدول السبع الكبرى ومع مجموعة العشرين كذلك؛ إذ تتخذ القيادة السعودية من مواقفها الحيادية فيما يخص القضايا السياسية الماسة بسيادة الدول، جسراً نحو تحقيق مرونة خلاقة وضامنة لاستمرار الشراكات المتبادلة مع هذه الدول سواء أكانت شراكات سياسية أو استراتيجية أو اقتصادية أو غيرها؛ حيث نجد أن حرص القيادة السعودية على عدم التدخل في القضايا التي لا تكون المملكة طرفاً فيها، يفضي دوماً إلى سلامة العلاقات مع جميع الأطراف، وإلى الحفاظ على جميع المكتسبات السابقة واللاحقة والمستقبلية التي تجمع السعودية بشركائها الإقليميين أو الدوليين ومن بينهم الشركاء الأوروبيون بكل تأكيد.
ولأن المحاور الاقتصادية والاستثمارية تحتل أهمية كبيرة في علاقات المملكة بجميع الشركاء، فإن الحرص يكون أكبر فيما يخص التصدي لأية اعتبارات يكون من شأنها إرباك تلك الشراكات أو تعريضها للانهيار أو التداعي، وخلال عام 2024 المنصرم على سبيل المثال، تصدت المملكة لبعض الشائعات التي روج لها البعض، والتي كانت تشير إلى نيتها بيع سنداتها المالية الخارجية عموماً والأوروبية خصوصاً، موضحة عدم صحة هذه الشائعات، ومؤكدة رسوخ الشراكات الاستثمارية والاقتصادية مع دول القارة الأوربية، وأن هذه الشراكات تشكل ركيزة أساسية من ركائز الاستقرار ضمن بنية الاقتصاد الدولي، وأن المملكة تضع علاقاتها الدولية على رأس قائمة أولوياتها، كما أنها حريصة على تحرير شراكاتها الاقتصادية والاستثمارية من التسييس الضار بحواضنها المالية والتجارية في جميع دول العالم.
وفي ظل هذه الموثوقية المتبادلة ضمن السياق التجاري والاستثماري والمالي بين المملكة العربية السعودية، والدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، فإن مستقبل الجغرافيا الاستثمارية المتبادلة بين الجانبين سيكون مشرعاً ومهيئاً للتوسع والتمدد خلال العقد القادم؛ ففي حين تنمو الاستثمارات الأوروبية في الداخل السعودي من خلال قطاعات اقتصادية متنوعة وناهضة تدعمها سياسات إيجابية مساندة للاستثمار الوافد، فإن ما تمتلكه الأسواق الاستثمارية الأوروبية وخاصة أسواق الأسهم، من تنامي عوامل الجذب الإيجابية المتمثلة في سلامة الحاضنة السياسية وقوة الزخم الاقتصادي الناجم عن انتعاش الأسواق الناشئة، من شأنه الدفع بالاستثمارات السعودية نحو تلك الأسواق الأوروبية، وتشجيع المستثمر السعودي على ضخ استثماراته في أوروبا، خاصة مع اعتماد أسواق الأسهم الأوروبية سياسات جديدة للتقليل من المخاطر ولتعزيز النمو المستدام للأرباح إلى جانب تطبيق سياسات وازنة في أسعار الصرف بين اليورو والدولار، سوف يساهم في الغالب في تعزيز علاقة الاستثمارات السعودية المعتمدة على الدولار بالحاضنة الاستثمارية الأوروبية، ما يعني أن جغرافيا الاستثمار السعودي/ الأوروبي، والأوروبي/السعودي، سوف تشهد خلال العقد القادم طفرات متوقعة في نمو الاستثمارات والمبادلات والشراكات الاقتصادية البينية على أكثر من صعيد.
اقرأ أيضاً: بن سلمان يبحث التطورات الإقليمية والدولية مع لافروف
أوجه للتعاون
وفي إطار الانتعاشات المتبادلة بين الأسواق الأوروبية ونظيرتها السعودية، يمكننا توقع المزيد من أوجه التعاون بين هذه الأسواق لدى الجانبين، خاصة مع استمرار قيام المملكة باعتماد ليبرالية اقتصادية واجتماعية داعمة للجذب والحوار التجاري والاستثماري مع الآخر المختلف، وبالتالي فسوف يجد المخطط الاقتصادي السعودي نفسه مرحباً بتذليل أية صعوبات أمام المستثمر الوافد، وخاصة فيما يتعلق بتقليل الفجوة بين المجتمع المحلي وأنماط الاستثمارات الوافدة، ومن جهة أخرى أصبح بإمكان المستثمر الأوروبي تداول وشراء السندات الخاصة بالحكومة السعودية عبر البورصة في أوروبا، وذلك بعدما قامت إحدى الشركات الأيرلندية بإطلاق أول صندوق متاح لهذا الغرض يمكن التعاطي معه في العديد من الدول الأوروبية، الأمر الذي سيسهل مهمة المستثمرين الأوروبيين في الوصول إلى معدلات نمو ثابتة وسريعة لاستثماراتهم في أسواق الدخل الثابت السعودية.
ومؤخراً، وضمن خطة المملكة في رفع معدلات إنتاج وتصدير الهيدروجين الأخضر على المستوى الدولي، ظهرت في الأفق بادرة تعاون سعودي/ أوروبي في هذا المجال، بعد أن قامت شركتان سعودية وألمانية بتوقيع اتفاقية ثنائية تقوم بموجبها المملكة بتصدير ما يزيد على 180 طناً من الهيدروجين والأمونيا الخضراء سنوياً إلى أوروبا، ما سيفتح بدوره وجهاً مستقبلياً جديداً من أوجه التعاون والاستثمار السعودي المتبادل مع القارة الأوروبية. وكانت وزارة البيئة والمياه والزراعة السعودية، قد وقعت في فبراير من العام الماضي 2024 اتفاقية هي الأولى من نوعها، لتصدير المنتجات الزراعية إلى السوق الأوروبية وخاصة هولندا، وذلك بعدما شهده القطاع الزراعي السعودي من طفرة تنموية كان من نتائجها تحقيق الاكتفاء الذاتي بنسب إيجابية، بعد أن تجاوز الإنتاج حدود الــ 10 ملايين طن.
اقرأ أيضاً: كيف تحقق السعودية طموحاتها في قطاع الهيدروجين؟
ومما يظهر ملامح الرغبة المتبادلة بين المملكة من جهة ودول الاتحاد الأوروبي من جهة ثانية في اتخاذ خطوات جادة نحو توسيع نطاق التبادل التجاري والتعاون المالي والاستثماري مستقبلاً، أن نهايات العام 2024 شهدت اجتماعاً موسعاً ضم أكثر من خمسين اقتصادياً خبيراً من الجانبين في قطاعات مختلفة حكومية وخاصة، استضافهم مقر الهيئة العامة للتجارة الخارجية بالمملكة، وهو الاجتماع الذي كشف النقاب عن العديد من الإجراءات الإصلاحية الهادفة إلى تعبيد الطريق نحو شراكة اقتصادية شاملة وأكثر براحاً وديناميكية، خاصة على مستوى التشريعات والفرص المتاحة للتعاون وبنود التعاطي الجمركي والتدفق التجاري والاستثماري وإجراءات رفع الحواجز التجارية، وقد شاركت جميع الهيئات السعودية المعنية بالإصلاح والتطوير تقريباً في مناقشات ثنائية مع الجانب الأوروبي سعياً نحو تحقيق أكبر قدر من المصالح السعودية في مجال التجارة الخارجية، ما يعني أن العلاقات الاستراتيجية بين المملكة والاتحاد الأوروبي في طريقها خلال السنوات القادمة نحو تدشين شراكة فاعلة لن تتوقف عند حدود المصالح التقليدية وإنما ستتجاوزها إلى شراكات استراتيجية وتقنية وفنية مواكبة لحجم الطموحات السعودية الكبيرة والناهضة في سلم أولويات الإصلاح الشامل.
توجه منطقي
وبنظرة مدققة، سنجد أن الاهتمام المتبادل بين دول الاتحاد الأوروبي والمملكة العربية السعودية على صعيد الشراكة الاقتصادية والتجارية، يعد من قبيل التوجه المنطقي الحاكم لعلاقات كل طرف تجاه الطرف الآخر؛ فبالنسبة للمملكة تعد الشراكة الاقتصادية مع دول هذا الاتحاد بوابة واعدة من بوابات التنمية الاقتصادية والنهوض بالثروات والموارد والقطاعات الحيوية والوطنية، ذلك أن تلك الشراكة تؤسس لعلاقات تجارية واستثمارية واسعة النطاق تمتد عبر أكثر من 26 دولة، وتغطي رقعة جغرافية قوامها أربعة ملايين كيلو متر مربع، أي ما يزيد على 42% من المساحة الإجمالية للقارة الأوروبية، وهي المساحة التي تشكل قوة شرائية واستهلاكية يحركها أكثر من 440 مليون نسمة، وهذه المواصفات مجملة، تمثل بيئة مثالية للاقتصاد السعودي الباحث عن الشغف والزخم المالي والاستثماري والتجاري. بل وتمثل أيضاً مصدراً من مصادر الانتشار الحضاري والثقافي والتراثي للبيئة السعودية الآخذة في التجدد والتحضر والتطوير. في حين تشكل المملكة العربية السعودية بالنسبة للاتحاد الأوروبي ركيزة أساسية من ركائز العلاقات الدولية في منطقة الخليج والشرق الأوسط، ومصدراً رئيساً من مصادر الطاقة، إلى جانب ما تمثله من قوة مالية واستثمارية وتجارية لها تأثيرها بين سكان القارة الأوروبية.
وفي واقع الحال، إن مقتضيات الإصلاح السعودي الشامل تحتم على واضعي استراتيجيات التحديث المستقبلية، إعداد مخططات دقيقة واحترافية لتحقيق الإفادة القصوى لعموم القطاعات المحلية والوطنية من الشراكة مع دول الاتحاد الأوروبي، وذلك لأن التحولات السعودية الراهنة لا تقتصر على قطاع دون آخر وإنما تستهدف جميع القطاعات بالإصلاح والتطوير وفق منظور حداثي يمكن مواكبته عبر الاحتكاك والتبادل الشامل مع النمط الأوروبي المتنوع والقادر على التفاعل إذا ما أتيحت له فرص هذا التفاعل والاحتكاك، وهو ما تضعه الطموحات والتطلعات السعودية الراهنة والمستقبلية نصب أعينها بكل تأكيد.
اقرأ أيضاً: السعودية تعزز مكانتها ضمن أكبر الأسواق العالمية في تخزين الطاقة