على طاولة الحوار في موسكو، جلس وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان ونظيره الروسي سيرغي لافروف، ليس فقط لمناقشة القضايا الساخنة في الشرق الأوسط والعالم، بل لتجديد الالتزام بعلاقات بدأت قبل قرن وتستمر في التوسع على مختلف المستويات. فاللقاء الذي عُقد في خامس أيام يوليو، لم يكن مجرد زيارة بروتوكولية، بل حمل في طياته رسائل سياسية دقيقة، وإشارات واضحة نحو بناء تحالفات متوازنة، تعيد رسم ملامح المشهد الإقليمي والدولي. وكان التبادل التجاري والاقتصادي محوراً بارزاً في المحادثات، حيث يتجه البلدان لتعميق شراكتهما في مجالات استراتيجية.
السعودية وروسيا: الأولوية لوقف النار في غزة ودعم الدولة الفلسطينية
ركز الوزير السعودي في تصريحاته على أن الأوضاع الإنسانية المتدهورة في غزة تستدعي تحركاً عاجلاً من المجتمع الدولي، مجدداً موقف بلاده الداعم لوقف دائم لإطلاق النار، وإنهاء معاناة المدنيين في القطاع.
وأوضح بن فرحان أن المملكة ترى أن الحل الجذري يكمن في تحقيق تسوية عادلة وشاملة للصراع الفلسطيني – «الإسرائيلي»، تستند إلى مبادرة السلام العربية وقرارات الأمم المتحدة ذات الصلة، وتفضي إلى إقامة دولة فلسطينية مستقلة على حدود 1967، وعاصمتها القدس الشرقية، مؤكداً أن السلام ليس مجرد خيار مطروح، بل هو الاستراتيجية الوحيدة الكفيلة بتحقيق الأمن والاستقرار والتنمية في المنطقة.
إيران والملف النووي
وفيما يتعلق بالملف الإيراني، شدد الوزير السعودي على أهمية استئناف المفاوضات حول البرنامج النووي الإيراني، داعياً إلى تعاون شفاف وكامل من جانب طهران مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وذلك من أجل تجنّب أي تصعيد محتمل في المنطقة.
أشار إلى أن الحوار هو السبيل الوحيد للحفاظ على أمن المنطقة، وأنه من الضروري العودة السريعة إلى الطاولة الدبلوماسية، بعد التوترات المتصاعدة في السنوات الأخيرة.
توافق سعودي – روسي بشأن قضايا المنطقة
وخلال اجتماعهما، أكد الوزيران أن العلاقات بين الرياض وموسكو تشهد تطوراً لافتاً، لا سيما في ظل التحديات الدولية الراهنة. وشهد اللقاء تأكيداً مشتركاً على أهمية الاستمرار في التشاور الثنائي وتنسيق المواقف حيال مختلف القضايا الإقليمية والدولية.
وأشاد الأمير فيصل بما وصفه بـ «التفاهم العميق» بين البلدين، وخصوصاً ضمن إطار التعاون في «أوبك بلس»، معتبراً أن ذلك يعكس نضج العلاقات الثنائية وروح الشراكة المتقدمة في قطاع الطاقة.
السياحة والتبادل الثقافي: بوابة لتعزيز التفاهم الشعبي
كذلك، تناول الجانبان أيضاً جانباً مختلفاً من العلاقات، حيث أعرب بن فرحان عن تطلعه إلى دخول اتفاقية الإعفاء من التأشيرات بين البلدين حيّز التنفيذ قريباً، مشيراً إلى أن ذلك سيشجع مزيداً من التبادل السياحي والتجاري والثقافي.
ومن جهته، كشف لافروف أن عدد السياح السعوديين إلى روسيا ارتفع بستة أضعاف مقارنة بالعام الماضي، بينما استقبلت السعودية أكثر من 36 ألف سائح روسي خلال عام 2024، في مؤشر واضح على تنامي الروابط الشعبية والثقافية.
الأزمة السورية: وحدة الأرض والسيادة أولوية مشتركة
ولم تغب الأزمة السورية عن طاولة المباحثات بين البلدين، حيث أكد لافروف أن روسيا والسعودية تتفقان على ضرورة معالجة تبعات الحرب السورية، والعمل على الحفاظ على وحدة وسيادة سوريا.
وأشار إلى أن الجانبين يدعمان حلاً سياسياً شاملاً تحت مظلة الأمم المتحدة، يُراعي مصالح جميع المكوّنات السورية، ويضمن استقرار البلاد بعد أكثر من عقد من النزاع.
أوكرانيا واليمن: مواقف متوازنة ومساعٍ للسلام
وأعرب الوزير الروسي عن تقديره للموقف السعودي «المتوازن» من الحرب الأوكرانية، مثنياً على رغبة الرياض الصادقة في لعب دور إيجابي في حل النزاع، بما في ذلك تقديمها كمنصة ممكنة لعقد محادثات روسية – أميركية مستقبلية.
وفي الملف اليمني، أثنى لافروف على جهود المملكة في دعم الاستقرار، معرباً عن ثقته في أن الحل ممكن عبر الحوار الشامل لجميع القوى السياسية، وتفعيل دور المبعوث الأممي هانس غروندبرغ.
لقاءات مستقبلية وتعزيز الشراكات
هذا وكانت قد أعلنت موسكو أنها ستستضيف في 15 أكتوبر المقبل أول قمة روسية – عربية، مع ترحيبها بمشاركة المملكة فيها. كما سيُعقد الاجتماع الوزاري الثامن للحوار الاستراتيجي الخليجي – الروسي في مدينة سوتشي يوم 11 سبتمبر.
كما أشار لافروف إلى أن روسيا ستكون ضيف شرف في منتدى بطرسبورغ الاقتصادي الدولي التاسع والعشرين، وهو حدث يتزامن مع الذكرى المئوية للعلاقات الدبلوماسية بين السعودية وروسيا.
الاقتصاد والتجارة: توسيع آفاق التعاون
على الصعيد الاقتصادي، عبّر الوزيران عن اهتمام مشترك بتوسيع التعاون التجاري والاستثماري، وأعلن لافروف أن المملكة ستستضيف قريباً اجتماع لجنة التعاون التجاري والاقتصادي الثنائية، والذي من المتوقع أن يفتح آفاقاً جديدة في مجالات الطاقة، والبنية التحتية، والتقنيات الحديثة.
وشهدت العلاقات الاقتصادية بين السعودية وروسيا تطوراً لافتاً في السنوات الأخيرة، إذ بلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين خلال عام 2023 نحو 2.2 مليار دولار أمريكي، بزيادة قاربت 20% مقارنة بالعام الذي سبقه، وفقاً لبيانات رسمية روسية وسعودية. وتنوّعت الصادرات الروسية إلى المملكة بين الحبوب (خاصة القمح والشعير)، ومنتجات المعادن والحديد، ومعدات النقل والطاقة، فيما صدّرت السعودية إلى روسيا منتجات بتروكيميائية، ولدائن بلاستيكية، ومعدات صناعية.
وفي الربع الأول من العام الجاري 2025، تضاعف حجم التبادل التجاري تقريباً أربع مرات مقارنة بنفس الفترة من عام 2024، حسب تصريحات نائب رئيس الوزراء الروسي ألكسندر نوفاك، وأن التجارة الثنائية نمت بنحو 62% خلال سنة 2024.
وتسعى موسكو والرياض إلى رفع مستوى التبادل ليصل إلى 5 مليارات دولار سنوياً خلال السنوات المقبلة، من خلال إزالة الحواجز الجمركية وتفعيل اتفاقيات تسهيل التجارة. كما أبدت الشركات الروسية اهتماماً متزايداً بالاستثمار في مشاريع الطاقة المتجددة والهيدروجين الأخضر داخل السعودية، في ظل رؤية المملكة 2030.
ويُذكر أن البلدين يتعاونان بشكل وثيق ضمن إطار مجموعة “أوبك بلس”، حيث تلعب موسكو والرياض دوراً محورياً في ضبط إيقاع سوق النفط العالمية، وهو ما ساهم في تعزيز الاستقرار رغم التقلّبات الحادة في أسواق الطاقة خلال السنوات الماضية.
كما ازداد عدد المشاريع المشتركة بين القطاعين الخاصين في البلدين، بما في ذلك مشاريع تقنية بين صندوق الاستثمارات العامة السعودي وصندوق الاستثمار الروسي المباشر (RDIF)، الذي دعم بدوره التعاون في مجالات التكنولوجيا الحيوية والصحة والذكاء الصناعي.
وفي ختام اللقاء، عبّر الجانبان عن ارتياحهما لمستوى التعاون الثنائي، وتطلعهما إلى ترسيخ شراكة شاملة لا تقتصر على السياسة والاقتصاد، بل تشمل كذلك التعليم، والثقافة، والسياحة، وتبادل الخبرات. وقد حضر المباحثات من الجانب السعودي كل من الأمير مصعب بن محمد الفرحان، والدكتور سعود الساطي، والسفير عبد الرحمن الأحمد، والمستشار محمد اليحيى، في دلالة على أهمية التنسيق متعدد المستويات بين البلدين.
اقرأ أيضاً: وزيرا خارجية السعودية وروسيا يبحثان المستجدات الإقليمية هاتفياً