بين طيات الجبال الشاهقة والسفوح التي تلامس الغيم، حيث تنبت أشجار الطلح والسدر والسمر، ينبض قلب صناعة سعودية لا تُشبه سواها: العسل. ليس مجرد منتج غذائي، بل تراثٌ أصيل ومصدر فخر، ومورد اقتصادي واعد في طور التحول إلى رافعة حقيقية للتنمية. ومع ذلك، وعلى الرغم من الجودة الفريدة للعسل المحلي، لا يزال السوق المحلي يعتمد بدرجة كبيرة على الاستيراد، في مفارقة تدعو إلى التأمل والحلول… تفاصيل جديدة حول العسل السعودي في هذا المقال من أرابيسك لندن – السعودية.
العسل السعودي: فجوة في السوق وفرصة للنهوض
رغم أن المملكة تمتلك ما يفوق مليوني خلية نحل يديرها أكثر من 30 ألف نحّال، فإن الإنتاج المحلي للعسل لا يتعدى 5800 طن سنوياً، بينما يبلغ حجم الاستيراد قرابة 24 ألف طن. وهذا التفاوت الكبير يكشف فجوة في السوق المحلي، ويضع تحديات أمام خطط تحقيق الاكتفاء الذاتي، لكنه في الوقت ذاته يشير إلى فرصة ذهبية للنهوض بصناعة العسل المحلي، خصوصاً في ظل الدعم الذي توفره «رؤية السعودية 2030» لتنمية القطاعات غير النفطية.
شراكة استراتيجية تفتح آفاقاً جديدة
في إطار السعي نحو تعزيز مكانة العسل السعودي، وقّعت الجمعية التعاونية للنحالين في منطقة الباحة اتفاقية استراتيجية مع شركة «عسل الشفاء»، أحد الأسماء البارزة محلياً ودولياً في سوق العسل. وتهدف هذه الشراكة إلى تسويق العسل المنتج محلياً، وتحديداً من الباحة، إضافة إلى فتح قنوات توزيع جديدة وتقديم دعم فني وتدريبي للنحالين.
وتعليقاً على الاتفاقية، أكد سامر كردي، رئيس مجلس إدارة «مجموعة السنبلة»، أن التعاون بين القطاع الخاص والجمعيات الإنتاجية يمثّل نقلة نوعية في بناء قطاع تنافسي. وأوضح أن الاتفاقية تشمل محورين رئيسيين: الأول هو شراء كميات من العسل المحلي وتعبئتها تحت علامة «عسل الشفاء» مع توضيح مصدرها، والثاني هو إطلاق دبلوم مهني معتمد لإعداد نحالين محترفين، بما يضمن استدامة الإنتاج ورفع كفاءته.
وأضاف كردي: «حين نصدّر العسل، فإننا نصدّر جزءاً من ثقافتنا وتراثنا، لا منتجاً فقط»، مشيراً إلى أن التجربة السعودية في القمح أثبتت أن تحقيق الاكتفاء الذاتي ممكن بتكاتف الجهود.
تحديات التسويق والاستيراد
بدوره، يرى الدكتور أحمد الخازم الغامدي، رئيس الجمعية العربية لتربية النحل، أن ضعف التسويق لا يزال يمثل العقبة الأكبر أمام توسع صناعة العسل المحلي، رغم جودته وتنوعه الفريد. وقال إن الاتفاق مع «عسل الشفاء» يمثل نقلة في هذا الاتجاه، لأنه يوفر حلولاً متقدمة في التسويق، إلى جانب التدريب والدعم الفني.
وأوضح الغامدي أن الاعتماد لا يقتصر على استيراد العسل فقط، بل يشمل أيضاً استيراد نحو مليون طرد نحل سنوياً بتكلفة تبلغ 160 مليون ريال. وفي المقابل، تستهدف الحكومة ضخ استثمارات تفوق 400 مليون ريال في القطاع بحلول عام 2030، وذلك من أجل خلق فرص عمل جديدة وتعزيز الأمن الغذائي.
الباحة… عاصمة العسل السعودي
تتربع منطقة الباحة على قمة الإنتاج المحلي للعسل بفضل طبيعتها الجبلية المتنوعة ومناخها المثالي للنحل، حيث تنتج نحو 1100 طن سنوياً. وتشتهر الباحة بثلاثة أنواع من عسل السدر: الجبلي، والساحلي، والمختلط. كما تمتلك بنية تحتية متكاملة تشمل مشاريع إنتاج، وورشاً تدريبية، ومراكز إيواء للنحالين، تديرها الجمعية التعاونية في المنطقة.
وفي إطار سعيها لاستدامة البيئة وتعزيز الإنتاج، أطلقت جمعية النحالين في الباحة مبادرة لزراعة 70 ألف شجرة وشجيرة من النباتات النحلية، مثل الطلح والسدر والسمر. كما تعمل على إنشاء مشاتل تحتوي على 30 نوعاً من النباتات تُباع للنحالين بأسعار رمزية، ما يدعم استقرار السلسلة الإنتاجية من الجذور.
اقرأ أيضاً: منطقة الباحة.. مدينة الغابات الخضراء و الإطلالات الخلابة في السعودية
تأهيل الكفاءات المحلية
من بين أبرز مظاهر التحول في صناعة العسل السعودي، دعم شركة «عسل الشفاء» للمعهد الدولي لتأهيل النحالين، وهو أول معهد من نوعه في المملكة. وقد درّب المعهد أكثر من 4000 نحّال حتى الآن، ويستعد لإطلاق أول برنامج دبلوم مهني في تربية النحل، يمتد لسنة كاملة، على أن تبدأ أول دفعة في شهر سبتمبر.
هذا وتتراوح أسعار العسل المحلي في الأسواق السعودية بين 250 و500 ريال للكيلوغرام، بينما تصل بعض الأنواع النادرة مثل عسل المجرى إلى 1000 ريال، ما يعكس مدى ثقة المستهلكين وجودة المنتج. وتخضع أنواع العسل لرقابة صارمة ومعايير جودة معتمدة، ما يعزز موقعها التنافسي محلياً وخارجياً.
ختاماً، يرى الغامدي أن المملكة تقف اليوم على أعتاب مرحلة جديدة في قطاع العسل، وأن دعم الشركات الوطنية يمثل الأساس المتين لبناء صناعة مزدهرة ومستدامة. ومن خلال تفعيل الشراكات، وتطوير القدرات، والاهتمام بالتسويق، يمكن تحويل العسل من منتج تقليدي إلى مصدر دخل وطني مستدام.