ما بين الرياض وواشنطن تاريخ ممتد من المصالح المشتركة، لكنه يدخل اليوم طوراً جديداً يتداخل فيه وقف إطلاق نار هش في غزة مع سعيٍ إلى ترتيبات أمنية واقتصادية أوسع. صورة المشهد ليست بالأبيض والأسود؛ بل لوحة ألوانها متدرجة: هدنة تُختبر، وسوق نفط تستشرف، ونقاشات دفاعية تعود إلى الطاولة ولكن بقواعد مختلفة عن الأمس. تقرير اليوم يحاول الإمساك بخيط السرد كاملاً، من اللحظة الدبلوماسية الراهنة إلى ما يمكن أن تفضي إليه خلال الأشهر القادمة.
العلاقات السعودية الأميركية بعد هدنة غزة: اختبار الإرادة
تتحرك واشنطن بخطوات سريعة في مسار تثبيت وقف إطلاق النار وإطلاق مسار سياسي جديد، وقد تصدّرت الأنباء مغادرة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى الشرق الأوسط اليوم لتأكيد الهدنة والضغط نحو اتفاق أكثر ثباتاً، مع تلميحات إلى إعادة إحياء مسار التطبيع الإقليمي إذا تهيأت الظروف. هذا التحرك يضع العلاقات السعودية الأميركية في صلب مشهد دبلوماسي تتقدمه قضية غزة بوصفها مدخلاً إلى إعادة هندسة العلاقات الإقليمية ومن ضمنها علاقة واشنطن بالرياض.
على الضفة السعودية، أبدى مجلس الوزراء ترحيباً بالمبادرة الأميركية لإنهاء الحرب وإعادة إعمار القطاع، مع تأكيدات على عدم القبول بضمّ أراضٍ في الضفة الغربية، وهو ما يعكس رغبة في مقاربة متوازنة تجمع بين دعم إنهاء الحرب وتثبيت أسس حل سياسي أوسع. وتُقرأ هذه الرسائل في واشنطن باعتبارها نافذة عمل مع الرياض، لكنها أيضاً مشروطة بمسار واضح لحقوق الفلسطينيين وتوازنات أوسع مع شركاء المملكة.
وفي خلفية المشهد، يعود الحديث عن التطبيع إلى الواجهة، لكن المصادر “الإسرائيلية” نفسها تشير إلى أن أي تقدّم سعودي سيتأثر بتركيبة الحكومة في تل أبيب، وهو قيدٌ سياسيٌ إضافي يحدد سقف التوقعات في المدى القريب. هكذا تصبح العلاقات السعودية الأميركية رهينة نجاح الهدنة وتحوّلها إلى اتفاق مستدام، وتحوّلات السياسة في “إسرائيل” معاً.
الطاقة وسوق النفط: بين «أوبك+» وأولويات واشنطن
لا يمكن فصل السياسة عن السوق. قرار «أوبك+» الأخير برفع الإنتاج زيادةً طفيفة ابتداءً من نوفمبر 2025 أعطى إشارة مزدوجة: حرص على الحصة السوقية من جهة، وتجنب إغراق السوق من جهة أخرى. بالنسبة لواشنطن، التي تراقب تأثير الأسعار على الاقتصاد الأميركي، تُعد هذه الزيادة المحدودة فرصة لتهدئة التضخم دون ضرب مداخيل المنتجين—توازن دقيق يتطلب اتصالات سعودية أميركية مستمرة لضبط الإيقاع.
تزامن ذلك مع توتر تجاري أميركي–صيني انعكس هبوطاً في مؤشرات الخليج وبينها السوق السعودية، بعد إعلان واشنطن تشديد الرسوم على الواردات الصينية. هذا التوتر، وإن بدا بعيداً عن النفط، يؤثر في شهية المخاطرة وحركة الاستثمارات الإقليمية، ويذكّر بأن العلاقات السعودية الأميركية تتحرك داخل اقتصاد عالمي مترابط حيث تقلبات واشنطن مع بكين تصل أصداؤها سريعاً إلى الرياض.
الأمن والدفاع: من اتفاقية ملزمة إلى ترتيبات مرنة
منذ 2024 طُرحت فكرة معاهدة دفاعية رسمية بين الولايات المتحدة والسعودية على غرار معاهدات واشنطن مع حلفاء آسيويين، وهو مسار يحتاج عملياً إلى موافقة ثلثي مجلس الشيوخ وفق النظام الأميركي. تعثر المشروع في نهاية 2024 على خلفية اشتراطات مرتبطة بالمسار الفلسطيني– “الإسرائيلي”، قبل أن يعود النقاش بصيغ أكثر مرونة قد تجمع بين تفاهمات تنفيذية وتوسيع التعاون العسكري والتكنولوجي.
لكن القراءة في واشنطن ومراكز الأبحاث بقيت واضحة: أي اتفاقية كبرى ستقاس بقدرتها على تجاوز تغير الإدارات الأميركية وبمدى اقترانها بمسار سياسي متين في المنطقة.
على خطٍ موازٍ، وقّعت الرياض في سبتمبر 2025 اتفاق دفاع متبادل مع باكستان، بصياغات تُحاكي التزامات الردع الجماعي. وهذا التطور لا يلغي أهمية المظلة الأميركية، لكنه يمنح السعودية هامش مناورة أوسع في هندسة ترتيبات أمنها الإقليمي، ويضيف عاملاً جديداً في حسابات واشنطن حول كيفية مواءمة شراكات المملكة المتعددة دون تعارض.
الجدل البحثي الأميركي انقسم بين من يرى الاتفاق خطوة رمزية، ومن يحذر من انعكاساته النووية والسياسية على توازنات جنوب آسيا والخليج معاً، وهو سجال سيصاحب أي تحديث في العلاقات السعودية الأميركية خلال المرحلة المقبلة.
الاقتصاد والاستثمار والتكنولوجيا: فرص متبادلة تحت رقابة المخاطر
اقتصاد المملكة يسعى إلى تنويع مصادره تحت مظلة «رؤية 2030»، فيما تبقى الولايات المتحدة شريكاً استثمارياً وتكنولوجياً محورياً. لكن المشهد لا يخلو من حساسيات: القيود الأميركية على تصدير بعض التقنيات الحساسة، والهواجس من تسرب المعرفة إلى منافسين استراتيجيين، مقابل رغبة سعودية في امتلاك سلاسل قيمة كاملة في قطاعات الطاقة المتجددة والصناعات المتقدمة والذكاء الاصطناعي.
لذلك تبدو المرحلة المقبلة مرشحة لصياغات «ذكية» للتعاون: مراكز أبحاث مشتركة، نقل معرفة مضبوط، وصفقات تسليح مرتبطة بمكوّنات صناعية محلية—كلها قنوات تُبقي العلاقات السعودية الأميركية في خانة «الفوز المشترك» إذا أُحسن تصميمها. ولأن الأسواق لا تنتظر، ستختبر الشركات سرعة الحكومتين في تحويل الإعلانات إلى مسارات تنفيذية واقعية تضمن الاستقرار التنظيمي والشفافية.
القيم وحقوق الإنسان: ملف لا يغيب وإن تغيّرت لهجته
حتى في ذروة التقارب السياسي، ظل ملف حقوق الإنسان حاضراً في جزء من النقاش الأميركي الداخلي. أظهرت خبرة السنوات الماضية أن سقف هذا الملف يرتفع ويهبط تبعاً لموازين القوى داخل واشنطن وسياقات الإقليم، لكنه لا يختفي. فالمراكز البحثية الأميركية التي تابعت مسار «الصفقة الكبرى» منذ 2024 شددت على أن ربط الضمانات الأمنية بمسارات سياسية إقليمية واحترام قواعد القانون الدولي يسهّل تمرير أي تفاهمات طويلة الأمد. بالنسبة للرياض، المعادلة تقوم على تثبيت مصالحها الأمنية والتنموية دون فتح الباب لِاشتراطات تُقيد هامش حركتها السيادي، وهو ما يجعل «لغة الصفقات» أقل صخباً وأكثر تقنية وتركيزاً على النتائج.
سيناريوهات 2025–2026: إلى أين تتجه البوصلة؟
إذا نجحت الهدنة في غزة بالتحول إلى اتفاق دائم يُعيد ترتيب العلاقة “الإسرائيلية” –الفلسطينية، فستمتلك واشنطن والرياض أرضية أيسر لاستئناف مسارٍ أوسع قد يشمل خطوات تطبيع مدروسة وتفاهمات أمنية–اقتصادية متوازنة. أمّا إذا تعثّر المسار، فالأرجح أن تسير العلاقات السعودية الأميركية في مسارين متوازيين: تعاون تكتيكي قوي في الطاقة والأمن ومكافحة التهديدات العابرة للحدود، مع إبقاء الملفات الخلافية في «ثلاجة» إدارة الأزمات.
وفي الحالتين، ستحرص الرياض على تنويع شراكاتها مع آسيا وأوروبا، فيما تسعى واشنطن إلى تثبيت دورها بوصفها الشريك الأمني الأوثق والأكثر قدرة على توفير التكنولوجيا المتقدمة والردع الموثوق. ويظل عامل النفط -من خلال قرارات «أوبك+» الدقيقة – صمام ضغط متبادلاً، تُستخدم ذبذباته لضبط الإيقاع بين الاحتياجات المحلية في الولايات المتحدة ومتطلبات الاستدامة المالية والبرامج التنموية في المملكة.
الدرس الأبرز أن العلاقات السعودية الأميركية لا تُختزل في تصويت داخل مجلس الشيوخ أو بيان قمة؛ إنها معادلة مركبة تتقاطع فيها تكلفة الطاقة مع أمن الممرات البحرية، وتكنولوجيا الاتصالات مع إعادة إعمار غزة، وميزان القوى الإقليمي مع الحسابات الانتخابية في واشنطن. ومع اجتماع هذه العناصر في أكتوبر 2025، تبدو اللحظة راهنة على اختبارين: تثبيت الهدنة كجسر سياسي قابل للحياة، وصياغة حزمة تعاون واقعية تحترم اختلاف الأولويات مع حفظ جوهر التحالف.
والنتيجة المتوقعة ليست انفراجاً سحرياً ولا قطيعة درامية، بل خطوات متراكمة تُبقي المصالح المشتركة حيّة وتدفع الخلافات إلى مساحة قابلة للإدارة، ريثما تنضج التسويات الكبرى.
اقرأ أيضاً: تحالف السعودية وباكستان: علاقات تاريخية تتوج بالدفاع المشترك

