الفنون الصخرية في جبة والشويمس

تعيش الشعوب اليوم فوق آثار شعوب سابقة، لتكتشف بعد آلاف، وأحياناً ملايين السنين، بقايا أسلافها الذين تركوا إرثاً حضارياً غنياً. هذا ما نسميه التاريخ والآثار، التي تستغلها الدول وتتفاخر بقدمها ومكانتها كموطن للإنسان القديم. وتبرز الفنون الصخرية في منطقتي الجبة والشويمس في حائل كمثال حي على هذا الإرث، حيث ترك الإنسان القديم بصماته المميزة على الصخور، لتتحول هذه المواقع اليوم إلى وجهات سياحية هامة يزورها الناس للاطلاع على حياة وأساليب معيشة الأجيال السابقة. في هذا المقال، سنستعرض أبرز هذه المواقع ونتعرف على قيمتها التاريخية والفنية.

وضعت الفنون الصخرية في منطقة حائل شمال السعودية بصمتها في سجل مواقع التراث العالمي اليونسكو. وتتكون من عدة مناطق لكن تم نسبها إلى منطقتين شكلّا أبرز هذه المواقع، وهي موقع جبل أم سنمان في مدينة جبة، وموقعي راط والمنجور في الشويمس.

نقلت الفنون الصخرية المنتشرة في مواقع متعددة بمنطقة حائل تاريخ الإنسان القديم الذي عاش في تلك المنطقة، فتحدثت نقوشه على واجهاته الصخرية عن أقدم وسائل الإنسان بنقل حضارته مثل الحزّ والحفر الغائر، وعبر من خلاله عن الحياة اليومية التي عاشتها تلك الحضارات، والعبادات التي مارسوها.

كما رسمت هذه الفنون ملامح حياة الإنسان في العصر الحجري الحديث، أي قبل نحو أربعة عشر ألف سنة في فترة ما قبل التاريخ. وأظهرت الرسومات أشكالاً آدمية في مشاهد متعددة، إلى جانب أنواعٍ مختلفة من الحيوانات التي استخدمها الإنسان أو قام بصيدها، مثل الأبقار الوحشية والوعول والغزلان والنعام والماعز الجبلي. وتضمنت صوراً تجريدية لأشخاص بشرية في احتفالات جماعية أو ممارسات دينية أو معارك ومبارزات، مما يعكس نمطاً فنياً متناغم مع وقائع تلك الاحتفالات، بالإضافة إلى مشاهد الصيد وصور الحيوانات المفترسة مثل الأسود والنمور.

امتزجت العصور في منطقتي جبة والشويمس بحائل، فتركت مزيجاً حضارياً يمكن التمييز بين عصوره، فقد احتوت المنطقة على رسوم تعود إلى الفترات التاريخية السابقة للإسلام، كثرت فيها صور الجمال، ووسوم القبائل، ومشاهد الغزو والمبارزات الفردية، وتجاورت معها كتاباتٌ بخط المسند الشمالي. وتُعد الرسومات التي تتضمن الجمل من أكثر الموضوعات انتشاراً في تلك الفترة. كما وُجدت أيضاً نقوش تعود إلى الفترة الإسلامية المبكرة مكتوبة بالخط الكوفي، وبعضها مؤرخ بالقرن الثاني الهجري.

يشير الخبراء أن منطقتي جبة والشويمس كانتا تتمتعان بمناخ مطير، نظراً إلى طبيعة البيئة في العصور التي أُنتجت فيها الرسوم، حيث وُجدت في جبة بحيرة كبيرة استوطن حولها الناس، في حين كانت الشويمس منطقة غنية بالأحراش والمراعي العشبية الطويلة (بيئة السافانا) قبل أن يصيبها التصحر. أما الرسوم التي تنتمي إلى الفترات التاريخية اللاحقة، فقد أُنتجت في فترة عمّ فيها الجفاف، وهو ما تؤكده الدراسات الأثرية الحديثة في الموقعين، حيث تم العثور على طبقات أثرية تحت بعض واجهات الرسوم، وهي بقايا للإنسان الذي نفذ تلك الأعمال الفنية، في مشهد يُعد من الحالات النادرة في مواقع الفنون الصخرية عالمياً.

دخلت الفنون الصخرية في جبة والشويمس رسمياً ضمن قائمة التراث العالمي لمنظمة اليونسكو عام 2015م، خلال انعقاد لجنة التراث العالمي في مدينة بون الألمانية، تحت شعار “متحدون مع التراث”. وقد ضمّت اللجنة في تلك الدورة 24 موقع جديد على قائمة التراث العالمي، كان من بينها موقع الفن الصخري في حائل، تأكيداً لأهميته الثقافية والتاريخية الفريدة التي تُمثل شهادة حية على إبداع الإنسان وتفاعله مع بيئته منذ آلاف السنين.

رسوم ونقوش ورقصة العرضة

تزخر الرسوم الصخرية في منطقة جبة بتنوع فني مميز، حيث تضم مجموعة واسعة من الرسومات التي تجسّد مناظر حيوانية وبشرية ونباتية ورمزية. ويحتوي جبل جبة وحده على نحو 5,431 نقشاً عربياً قديماً (ثمودياً)، ما يجعله من أغنى مواقع النقوش الصخرية في الجزيرة العربية ويعكس غنى التراث الإنساني في المنطقة.

بينما تركز النقوش الآدمية على عدة أنماط فنية مميزة في تصوير الإنسان. من أبرزها العودية وهي أشكال بسيطة مرسومة بخطوط مستقيمة تمثل الأطراف، وتعد من أقدم الأساليب التصويرية في الفن الصخري. وهناك أيضاً الرؤوس المقنّعة، التي تتميز بشكلها الدائري ووجود عصي تشبه الرايات، مما قد يشير إلى رمزية طقسية أو دينية. أما النمط الثالث فهو التجريدي، حيث تُرسم قسمات الوجه بأسلوب تجريدي أو معدل، مع الاحتفاظ بالملامح الأساسية للجسد أو الرأس، ما يعكس وجود فن متطور في التعبير الإنساني.

تم العثور كذلك على نقوش للأسلحة التي استخدمها الإنسان في عصور ما قبل التاريخ والفترات التاريخية، مثل السهام والأقواس. بعض هذه الرسومات يظهر أشخاصاً في وضعية الوقوف وهم يمسكون بالقوس والسهم، وهو ما يوحي بمشاهد للصيد أو النشاطات القتالية.

من النقوش اللافتة أيضاً تلك الموجودة في الجهة اليسرى من جبال الشويمس، والتي تُظهر مشهداً يشبه رقصة العرضة التقليدية المنتشرة في حائل ونجد. صور الفنانون القدماء الرجال والنساء بأجساد بشرية ورؤوس خيول، تؤدي حركات جماعية متناغمة، ما يُعتقد أنه أقدم تصوير فني لرقصة جماعية احتفالية في شبه الجزيرة العربية، ويُبرز عمق الرمزية الثقافية والطقسية في الفنون الصخرية القديمة.

مواقع متعددة للفنون الصخرية

تضم منطقة حائل عدداً كبيراً من مواقع الفنون الصخرية الهامة، والتي تعكس تاريخاً طويلاً من النشاط البشري والفني في المنطقة. من أبرز هذه المواقع:

جبة: تقع على بعد نحو 100 كم شمال غرب مدينة حائل، وتُعد واحدة من أكبر وأهم المواقع في المملكة. تتركز الرسوم والنقوش في هذه المنطقة على صخور جبل أم سنمان والصخور المحيطة بالتلال المجاورة مثل عنيزة، والغرا، ومويعز، وشويحط، والمركابة وتعود إلى أربع فترات زمنية مختلفة، وتشمل نقوشاً ثمودية ورسومات صخرية متنوعة.

الشويمس: إلى الجنوب الغربي من مدينة حائل، وعلى بعد حوالي 320 كيلو متراً، تقع مواقع “راطا” و”المنجور”، غرب قرية الشويمس الحالية، في منطقة حجرية رسوبية تعرف بجبلي راطا والمنجور، يخترقها وادي راطا وتحيط بها منطقة الحرة.

جانين: تبعد نحو 70 كم شمال شرق مدينة حائل، وتحتوي على عدد من النقوش الثمودية إلى جانب نقوش أخرى تعكس تاريخ المنطقة الفني والثقافي.

الشملي: تقع على بعد حوالي 180 كم جنوب غرب مدينة حائل، وتضم مجموعة من الرسوم والنقوش الصخرية الثمودية، التي توثق أنشطة الإنسان القديمة في المنطقة.

الصبة: تبعد نحو 52 كم عن مدينة حائل، وتحتوي على 12 موقعاً أثرياً مهماً يضم نقوشاً ورسوماً صخرية.

الغوطة: تقع على بعد 10 كم شمال شرق جبة، وهي تلة محاطة بالرمال من جميع الجهات، وتحتوي على رسوم حيوانية ونقوش ثمودية تعكس طبيعة البيئة القديمة والحياة البشرية في المنطقة.

شكلت حياة الإنسان في العصور السابقة مصدر فضول دائم لعلماء الآثار ومحبي التاريخ على حد سواء. وتأتي الفنون الصخرية في منطقتي جبة والشويمس لتثري هذا الفضول بشكل استثنائي، إذ تمنح زائريها لمحة عميقة عن حياة الإنسان القديم، وتتيح لهم فهماً أوسع لأنماط المعيشة والأنشطة الاجتماعية والدينية في تلك الحقبة. ومن خلال زيارتها، يغادر الزائر وبجعبته رصيد غني من التصورات والمعرفة حول تاريخ المنطقة وإبداع أسلافنا.

اقرأ أيضاً: درب زبيدة