كتب: محسن حسن
أثارت الأحداث الأخيرة في لبنان، والتي شهدت اغتيال الأمين العام لحزب الله، ودخول البلاد مجدداً في دائرة المحن والحروب، ردود فعل واسعة النطاق في المنطقة العربية، على خلفية الاحتمالات التي أصبحت راجحة بشأن إمكانية توسيع نطاق الصراع والصدام العسكري في المنطقة، الأمر الذي استدعى بدوره، دخولاً جزئياً متزايد الزخم لبعض الأطراف الإقليمية مثل إيران واليمن والعراق وسوريا، وهي الوضعية التي كانت إحدى تداعيات حالة الإفلاس السياسي والاستراتيجي والعسكري للمشهدين الإقليمي والدولي، وخاصة ما يتعلق بالموقف الأمريكي ضمن سياق هذا المشهد، والذي ساهم بفاعلية في عجز المجتمع الدولي عن التوصل إلى اتفاق يُنهي حالة الحرب، ويُعيد الجميع إلى طاولة المفاوضات.
وقد كان الموقف السعودي واضحاً للجميع، تجاه الأحداث الأخيرة في لبنان، وهو التحذير الشديد من مخاطر التوسع في نطاق التأزيم العسكري في هذا البلد، نظراً لما يمكن أن يؤول إليه هذا التوسع، من تفتيت لوحدة اللبنانيين، وتفكيك لسيادة دولتهم الوطنية، في ظل ظروف معيشية تعاني التشظي السياسي والاجتماعي والاقتصادي، ما يعني أن الوضعية الراهنة، تقتضي العمل السريع على تطويق الصدام، وانتزاع فتيله قبل أن يتسبب في دخول أطراف جديدة إلى حلبة المواجهات، وتحويل لبنان إلى مركز من مراكز الصراع الإقليمي المفضي إلى توترات غير مأمونة العواقب من الناحية الاستراتيجية والأمنية.
وكان مما أوضحته القيادة السعودية للمجتمع الدولي، أن سيادة لبنان ووحدة أراضيه واستقرار سكانه في هذه الأونة، يمثل أولوية قصوى لراغبي حفظ الاستقرار في المنطقة والعالم، خاصة مع تأثير الأزمة الأخيرة على حركة السكان الديموغرافية إقليمياً، فمنذ اندلاع أزمة السابع من أكتوبر، وفي ظل الأوضاع الراهنة، شهد الجنوب اللبناني وعموم لبنان حتى الآن، نزوح أكثر من مليون و 200 ألف نسمة بحسب تقديرات الأمم المتحدة، والعدد في ازدياد، وهو ما يمثل ضغوطاً لوجيستية وأمنية كبيرة على حدود إقليمية مضطربة لدول المنطقة، الأمر الذي قد يساعد على بروز قوى وأنشطة مهددة لاستقرار المنطقة ككل.
اقرأ أيضاً: السيسي وبن سلمان: أوقفوا النار في غزة ولبنان
وفي حقيقة الأمر، لقد ولّدت التداعيات اللبنانية الأخيرة، العديد من الأسئلة المتعلقة بمستقبل نفوذ حزب الله، فرغم أن هذا الحزب يمتلك من القيادات البديلة ما يمكنه من استكمال سياساته واستراتيجياته ونفوذه في لبنان، إلا أن المتوقع هو ارتباك الحزب على مستوى التعاطي مع الأحداث القادمة، حتى في حال توقفت الحرب، وذلك نظراً لغياب قيادة متمرسة سياسياً وعسكريا، وحلول قيادة أخرى مكانها لا تزال في طى التعلم والتجريب ودراسة المواقف. وهذا الارتباك المتوقع للحزب، سيكون في الغالب الأعم، دليلاً ميدانياً عما قريب، على مدى فداحة الخسارة التي تكبدها الحزب باغتيال أمينه العام، كما سيمثل اختباراً حقيقياً للقوى السياسية في لبنان، لتبرهن على مدى استعدادها لتولي مهمة لملمة أشلاء الوضع اللبناني وإنقاذه وفق توافقات جديدة، ربما لم يكن لها أن تتاح في ظل وجود قيادة الحزب التي تم تحييدها، خاصة مع شكوى الكثير من اللبنانيين من عمق التأثير السلبي للاعتبارات الدينية والمذهبية والطائفية في البلاد، وكونها كانت دوماً، معوّقة لتحقيق الاستقرار السياسي في البلاد.
وبخلاف الأسئلة المتعلقة بمستقبل نفوذ حزب الله في لبنان، تثار تساؤلات أخرى بخصوص مستقبل الدور السعودي في هذا البلد، وهل سيختلف هذا الدور حالياً ومستقبلاً في ظل مستجدات الأوضاع؟، وللرد على مثل هذه التساؤلات لابد من التأكيد على جوهر المرونة السعودية التاريخية في التعاطي مع الوضع اللبناني على مدار السنوات والعقود الماضية، حيث كانت الرياض حريصة دوماً على تمكين اللبنانيين من آليات عملية وبراغماتية تتيح لهم إدارة العملية السياسية في الدولة اللبنانية بمعزل عن التدخلات السافرة لحزب الله، وبحيث تتحقق سيادة لبنان واستقلاليته كدولة بعيداً عن المنحى الطائفي والمذهبي، ولكن لم يكن باستطاعة أغلب الحكومات اللبنانية امتلاك رؤية مكتملة لإدارة الدولة تتيح هذه البراغماتية الشار إليها.
وبصفة عامة، ورغم الاعتبارات المشار إليها، فقد كان الدور السعودي في دعم لبنان واللبنانيين تاريخياً، وخاصة في أوقات المحن والأزمات والحروب؛ ففي أعقاب الحرب الأهلية اللبنانية، سعت المملكة من خلال اتفاق الطائف عام 1989م، إلى إفراغ الشحن الطائفي وتبخيره بين سكان وطوائف هذا البلد، فكان أن قامت بتعزيز لغة الحوار بين الفرقاء السياسيين وفرقاء المذهب والطائفة، وتبنت كافة الدعوات والمبادرات الرامية إلى بناء جسور الإخاء والتسامح بين جميع الطوائف اللبنانية، سعياً نحو تمكين البلاد والسكان من استئناف وتيرة بناء الدولة وتمتين علاقاتها الدبلوماسية بالعالم الخارجي ومواصلة ترميم البنية التحتية وإقامة المؤسسات الرسمية والمدنية، بعد أن دمرتها الحرب الأهلية، ولكن رغم هذا الدور السعودي الإيجابي، إلا أن اتفاق الطائف لم يتم استغلاله جيدا، في ظل إصرار قوى الداخل اللبناني على التشرذم والانقسام والاستقلال الحزبي المرتكز إلى مصالح طائفية وشخصية لا تلقي بالاً إلى الجهود الرامية إلى تحقيق المصلحة العامة للبلاد.
ومن جهة أخرى، فإنه لا يخفى على أحد في المنطقة، أن أحد مظاهر عزل اللبنانيين عن محيطهم العربي هو سياسات حزب الله المتجهة دوماً إلى تنميط سياسات الدولة اللبنانية وفق التوجهات الخاصة للحزب ووفق ما يضمن لنفوذه السياسي أن يستمر، مقابل إقصاء أي نفوذ آخر محتمل، وهو ما كان واضحاً وجلياً في معظم التشكيلات الحكومية التي مر بها لبنان على مدار سنوات وربما عقود. وقد كان تواجد الشخصيات المعتدلة والوازنة في منصب رئاسة الوزراء في لبنان، يشكل أحد أوجه التوازن في المشهد السياسي اللبناني، ولكن تطبيق آلية الاغتيالات السياسية لتلك الشخصيات، كان يُعيد الوضع اللبناني إلى المربع الأول من الانقسام والفرقة والتفكك على كافة المستويات، ولكن بصفة عامة، ظلت القيادات السعودية المتعاقبة، بمنأى عن اتخاذ أية إجراءات تمس سيادة لبنان واللبنانيين، ورغم أن علاقة حزب الله بإيران لم تكن خافية التأثير السلبي على الوضع اللبناني عموماً، إلا أن تلك القيادات لم تسمح بتواجد سعودي مباشر فوق الأراضي اللبنانية، تجنباً لإشعال فتيل الصدام بينها وبين الحزب الممثل الشرعي لإيران فوق الأراضي اللبنانية.
اقرأ أيضاً: البلطجة السياسية!
ووفق الطرح السابق، اتسمت جهود المملكة بمرونة شديدة في التعاطي مع الوضع اللبناني، كان من ملامحها الراسخة، التصريح الدائم بأهمية وحدة الشعب اللبناني، وأهمية إقرار سيادة الدولة اللبنانية، واستقلالها في تقرير شؤونها الداخلية دون أية تدخلات خارجية صريحة أو مراوغة، وبالطبع، فقد كان من المسلمات لدى قيادات المملكة على اختلاف مراحلهم وشخصياتهم ووجهات نظرهم، أن الشعوب هي من تستطيع تقرير مصيرها، وأن رغبة اللبنانيين أنفسهم في تصحيح مسار الدولة اللبنانية، هو الفيصل في تحرير البلاد من أسر الصراع المذهبي والطائفي والحزبي، والوصول بالوضع العام إلى بر الأمان والاستقرار، ومن ثم، فلم تكن المملكة أبداً في حاجة إلى اعتماد أساليب مراوغة أو احتيالية للتعاطي مع الوضع اللبناني، وإنما كانت صريحة على الداوم في المطالبة باستقلالية القرار اللبناني وبسيادة الدولة اللبنانية.
وبالنظر إلى عاطفة اللبنانيين تجاه العلاقات القائمة بين الرياض وبيروت، على اختلاف توجهاتهم السياسية، نجد أن الجميع في لبنان دوماً ما كان ينظر إلى أية أدوار سعودية في البلاد، على أنها من قبيل الرغبة الصادقة في الإصلاح وفي توطين الخير والازدهار للشعب اللبناني ولجميع الطوائف والتيارات المتعايشة في هذا البلد، وهذه العاطفة ليست من فراغ؛ فالملك عبد العزيز كان له دور بارز في حصول لبنان على الاستقلال، وخلال الحرب الأهلية وما تلاها من أزمات، لم تتردد القيادة السعودية يوماً في الوقوف إلى جانب اللبنانيين مادياً ومعنوياً، وعلى كافة الصعد والمستويات، ولذلك فإن الشعب اللبناني ينظر إلى المملكة باعتبارها السند الإقليمي والعالمي اقتصادياً وسياسياً وقت الاضطراب والحصار والحرب، وهو ما تفعله المملكة حالياً بالمناسبة تجاه الأوضاع المتأزمة بعد الضربات الإسرائيلية الأخيرة؛ حيث أمر خادم الحرمين الشريفين الملك(سلمان بن عبد العزيز) بإرسال مساعدات فورية للشعب اللبناني، هذا على الصعيد الإنساني، بينما على الصعيد السياسي والدولي، طالبت المملكة ممثلة في قيادتها، المجتمع الدولي، بتحمل مسؤولياته تجاه الوضع في لبنان، مؤكدة أن توسيع نطاق الحرب لن يعود بالأمن والاستقرار لا في المنطقة ولا في العالم.
اقرأ أيضاً: فيصل بن فرحان يناقش تطورات لبنان مع بلينكن وبارو
وفي الختام، ليس واضحاً بعد، فيما إذا كانت المملكة ستغير من استراتيجيتها في لبنان خلال المرحلة القادمة أم ستستمر في نفس النهج التاريخي الراهن، ورغم عدم الوضوح هذا، إلا أن الراجح هو أن الأوضاع الحالية ستتمخض عن مفاجآت غير سارة لدعاة استمرار الحروب في المنطقة، حيث سيجد هؤلاء أنفسهم خارج اللعبة السياسية إقليمياً ودولياً، وبحدوث ذلك، سيكون الحديث وقتها ممكناً عن صفقات إقليمية دولية، لعل في مقدمتها صفقة سعودية أمريكية، وربما صفقة سعودية إيرانية بوساطة جديدة على غرار اتفاق العُلا الذي تمخض عن تغيير استراتيجية المملكة تجاه سوريا، وأعاد العلاقات الدبلوماسية بين البلدين مجدداً إلى الواجهة، وهو ما قد يترتب عليه، مجملاً، ظهور أوجه جديدة من التعاطي السعودي، ليس مع الوضع اللبناني فحسب، وإنما مع الوضع الإقليمي والدولي ككل، ولكن على كل حال، ستبقى التوازنات قائمة ضمن سياق الوضع اللبناني، وسيبقى النهج السعودي معولاً دوماً على أحقية الشعب اللبناني وقوى الداخل، في تولي المهمة الأساسية المتعلقة بتحديد المسار المستقبلي للوضع السياسي والاجتماعي والاقتصادي في بلد أصبح يُتهم، لدى بعض الأوساط، نتيجة أحواله وأحوال اقتصاده، وأحوال شعبه ومؤسساته المتردية، بأنه دولة مارقة.
اقرأ أيضاً: هاريس ومستقبل العلاقات السعودية مع البيت الأبيض.. سؤال المرحلة!