مملكة تعيد تعريف الممكن حين تجعل من وفرة الموارد نقطة انطلاق لا سقف لها، لا نهاية. في السعودية اليوم، الطاقة ليست مجرد وقودٍ يدير المصانع ويُنير المدن، بل منصة كبرى لإعادة تموضع اقتصادي وجيوسياسي، ورافعة لمعمارٍ إنتاجي جديد يتجاور فيه النفط الأقل كلفة مع الشمس والرياح والهيدروجين النظيف، وتُصاغ حوله سلاسل قيمة محلية عميقة وحلول تقنية متقدمة.
هذا التحول لا يتكئ على الشعارات، بل على معادلة محسوبة: موثوقية الإمداد، وانخفاض الكلفة، واتساع النطاق، تمهيداً لاقتصاد رقمي وصناعات كثيفة الاستهلاك للطاقة مثل الذكاء الاصطناعي ومراكز البيانات والمعادن الحيوية؛ وكلها تحتاج طاقة مستقرة ونظيفة لتزدهر.
تحوّل الطاقة في السعودية: من وفرة النفط إلى تنويع يقود المستقبل
لغة الأرقام لا تُجامل. تقرير متخصص أشار إلى أنّ المملكة تدخل «مرحلة تاريخية جديدة» تُشبه من حيث الأثر لحظة اكتشاف النفط في الدمام عام 1938، لكنها هذه المرة تقوم على مزج ميزات قطاع النفط مع الطاقات المتجددة منخفضة التكلفة والهيدروجين النظيف.
وتقدّم السعودية نفسها مورداً «الأكثر تنافسية وموثوقية» في عالمٍ يتّسع لاقتصاد البيانات، مدفوعةً بنموذج «المشتري الرئيس» في الكهرباء الذي يسمح بالتخطيط المركزي والمناقصات التنافسية وشراء المعدات مبكراً لتفادي اختناقات سلاسل الإمداد. وهكذا تتشكّل بنية سوق تمنح المستثمرين وضوحاً وتُخفض التكاليف وتسرّع التنفيذ.
من دلائل هذا النضج التنظيمي أن مشروعات الشمس والرياح في السعودية تسجّل قيماً قياسية عالمياً: تعرفة الشعيبة الشمسية عند 1.04 سنت لكل كيلوواط ساعة، ومشروع نجران عند 1.09 سنت، بينما وقّعت المملكة عقد محطة رياح الدوادمي بتعرفة 1.33 سنت، ما يجعلها الأرخص عالمياً. بالتوازي، تُباع إمدادات الغاز محلياً بنحو 2.15 دولار لكل مليون وحدة حرارية، في بيئة تُسجّل فيها تكاليف التخزين بالبطاريات 409 دولارات لكل كيلوواط ساعة؛ وكلها عناصر تخلق أفضلية سعرية حاسمة في تحوّل الطاقة في السعودية.
هذه القفزة السعرية ليست هدفاً في ذاتها، بل وسيلة لمراكمة القدرة المركبة بسرعة. المملكة تستهدف رفع المتجدد من 3 غيغاواط في 2020 إلى 64 غيغاواط عبر مشروعات مطروحة بنهاية العام، مع ربط نحو 12.3 غيغاواط بالشبكة فعلياً حتى الآن، وأتمتة 30% من الشبكة بحلول 2026، إضافة إلى برنامج إحلال الغاز محل حرق السوائل في محطات بقدرة 23 غيغاواط لخفض الانبعاثات ورفع الكفاءة.
وتحوّل الطاقة في السعودية هنا يتحرك على سكةٍ مزدوجة: توسيع المتجدد بسرعة، وتحديث الحراري بما يقلّص البصمة الكربونية دون التفريط بالموثوقية.
ركيزة الهيدروجين
على خطٍ موازٍ، تتبلور ركيزة الهيدروجين النظيف كصناعة تصديرية واعدة. مشروع الهيدروجين الأخضر في نيوم، الأضخم عالمياً، صُمم لإنتاج نحو 600 طن يومياً من الهيدروجين (على هيئة أمونيا خضراء) عند التشغيل التجاري، وقد أعلن المطوّرون الوصول إلى نحو 80% من الإنجاز عبر مواقع المحطة والرياح والشمس وشبكات النقل مع مطلع 2025؛ مع إقفالٍ مالي سابق بقيمة 8.4 مليارات دولار يوفّر قاعدة تمويل صلبة.
وهذه الصناعة ستستفيد من مزج المتجدد الرخيص مع البنية التحتية والغاز ومشروعات احتجاز الكربون التي تقودها أرامكو لتطوير الهيدروجين منخفض الانبعاثات والوقود الاصطناعي.
الإستراتيجية الأوسع تُدار تحت مظلة مبادرات السعودية الخضراء وأهدافها: خفض 278 مليون طن سنوياً من الانبعاثات بحلول 2030، والوصول إلى صافي صفري في 2060، مع هدف أن تُشكل الطاقات المتجددة 50% من توليد الكهرباء في 2030. كما تتقدم المملكة سريعاً في أسواق تخزين الطاقة، واضعةً نصب عينيها سعة إجمالية تبلغ 48 غيغاووت-ساعة بحلول 2030، مع مسار قد يضعها ثالث أكبر سوق عالمياً بحلول 2026؛ وهي قفزة لازمة لمواءمة منحنى الإنتاج الشمسي والرياح مع الطلب وتشغيل الشبكة بكفاءة.
لذلك، فإن تحوّل الطاقة في السعودية بهذا المعنى ليس مجموعة مشروعات متناثرة، بل منظومة تتكامل فيها سياسات السوق والتمويل والبنية التحتية والتقنيات التمكينية.
وتكتمل الصورة حين ننظر إلى آثار هذا التحوّل على الاقتصاد الحقيقي. انخفاض كلفة الكيلوواط ساعة وثبات الإمدادات يخلقان بيئة جذابة لقطاعات الذكاء الاصطناعي ومراكز البيانات والصناعات المتقدمة، حيث تمثل الطاقة بين أكبر عناصر التكلفة. ومع برنامج إحلال الوقود السائل، وتوسّع الشبكة الذكية، وتطوير قدرات التخزين، تتعزز قدرة المملكة على استقطاب سلاسل توريد جديدة، ورفع المحتوى المحلي، وتوليد وظائف نوعية، وتحسين ميزان المدفوعات عبر تقليص حرق السوائل وفتح أسواق تصدير للهيدروجين الأخضر والأزرق.
هذه الحلقات المتداخلة تشرح لماذا يبدو تحوّل الطاقة في السعودية مشروعاً لبناء موقعٍ قيادي في الاقتصاد منخفض الكربون، لا مجرد استجابة بيئية ظرفية.
ضبط الإيقاع بين الطموح والموثوقية
الدرس الأهم في التجربة السعودية هو رفض «الاستبعاد المرحلي» المتعجل لأنواع الوقود مقابل مسار منخفض الكربون قائم على التكلفة والموثوقية والنطاق، مع إبقاء كل الخيارات التقنية مطروحة—من التوسع المتجدد وتخزين الطاقة، إلى الهيدروجين والالتقاط الكربوني وحتى المفاعلات المعيارية الصغيرة كخيارٍ بعيد المدى.
بهذا الضبط للإيقاع، تُبنى جسور بين الحاضر والمستقبل، ويُعاد تعريف دور الدولة في تنظيم السوق وتحفيز الاستثمار وإدارة المخاطر. إنها صيغة قابلة للتعلّم منها في المنطقة والعالم، وتمنح تحوّل الطاقة في السعودية معنىً يتجاوز العناوين إلى منهجٍ عملي لصناعة القيمة المضافة.
اقرأ أيضاً: 15 ألف ميغاواط.. ما تفاصيل اتفاقات الطاقة الجديدة التي وقعتها السعودية؟!

