في منطقة لطالما عانت من الاضطرابات الأمنية والتحديات العابرة للحدود، يبدو أن دمشق والرياض قررتا الانطلاق في مسار أمني جديد، عنوانه الشراكة العملية لمواجهة المخاطر المشتركة. فالتعاون الأمني بين سوريا والسعودية، الذي طالما ظلّ محاطاً بسرّية، بدأ يخرج إلى العلن تدريجياً، كاشفاً عن تنسيقٍ واسع لم يُسلّط عليه الضوء إعلامياً إلا في مناسبات محدودة، وذلك لأسباب تتعلق بالسلامة والأمن.
تنسيق أمني سعودي سوري
أكد المتحدث باسم وزارة الداخلية السورية، نور الدين البابا، في تصريحات خاصة أن هناك عمليات أمنية مشتركة بين الجانبين السوري والسعودي، تُدار بتنسيق رفيع المستوى، لكنها لا تُعلن على نطاق واسع بسبب اعتبارات أمنية حساسة. وأشاد البابا بما وصفه بـ «الخبرة العميقة والهيكلية المتقدمة» التي تتمتّع بها وزارة الداخلية السعودية، لافتاً إلى أن الجانب السوري استفاد كثيراً من التجربة السعودية في إدارة الشؤون الأمنية.
وأشار البابا إلى أن التعاون لا يقتصر على تبادل المعلومات فقط، بل يشمل أيضاً دعماً فنياً وهيكلياً في تنظيم الإدارات الأمنية السورية، مما يفتح المجال لإحداث تغييرات بنيوية في آليات العمل داخل وزارة الداخلية السورية.
تدريبات مرتقبة ومشاورات متواصلة
وفي إطار هذا التقارب الأمني المتزايد، كشف المسؤول السوري عن وجود خطط مستقبلية لتنظيم تدريبات أمنية مشتركة، تتضمن إرسال أفراد ووحدات من الشرطة السورية لتلقي تدريبات في السعودية. وقد سبقت هذه الخطط سلسلة من اللقاءات والاجتماعات بين مسؤولي الداخلية في البلدين، كان آخرها في مطلع شهر يونيو الماضي، حين التقى وزير الداخلية السعودي الأمير عبد العزيز بن سعود بن نايف، نظيره السوري اللواء محمد أنس خطاب، لبحث سبل تطوير التعاون الأمني.
وخلال اللقاء، شدد الوزير السعودي على أن المحادثات تأتي بتوجيه مباشر من خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، وولي العهد الأمير محمد بن سلمان، وذلك في إطار دعم استقرار سوريا ومساعدة مؤسساتها الأمنية على النهوض من جديد.
مكافحة الجريمة المنظمة والإرهاب في قلب التعاون
وفي تفصيل لأبرز مجالات التعاون بين الطرفين، أوضح البابا أن التركيز ينصبّ على مكافحة الجريمة المنظمة، وعلى رأسها تهريب المخدرات، لاسيما «الكبتاغون»، بالإضافة إلى التصدي لخلايا تنظيم «داعش» الإرهابي وبقايا الفلول التي ما زالت تشكل تهديداً أمنياً في بعض المناطق السورية.
وأشار إلى أن شهر آذار الماضي شهد عمليات تخريبية وإرهابية مرتبطة بتنظيم داعش، ما استدعى تعزيز التنسيق الأمني مع الجانب السعودي في هذا المجال الحساس، خاصة أن كلا البلدين يتشاركان القلق ذاته من تمدد هذه الشبكات الإرهابية.
ضبط شحنات مخدرات… بجهود مشتركة
وفي الأسبوع الأخير من يونيو، سجّل التعاون الثنائي نقطة بارزة، حين أعلنت وزارتا الداخلية في البلدين عن عملية نوعية ناجحة أسفرت عن ضبط كميات كبيرة من مادة «الإمفيتامين» المخدرة، كانت مخبأة داخل منشآت صناعية في محافظتي إدلب وحلب، وُجهت للاستخدام في عملية تهريب إلى خارج البلاد.
وأكد البابا أن المعلومات التي قادت إلى هذا الإنجاز قدّمها الجانب السعودي، مشيراً إلى أن العملية ساهمت في إحباط تهريب عشرات آلاف الأقراص من «الكبتاغون»، كانت في طريقها إلى المملكة. ولفت إلى أن المستودع الذي ضُبطت فيه المواد يعود إلى «بقايا النظام البائد»، في إشارة إلى الجماعات الخارجة عن سيطرة الدولة والتي تستغل حالة الانفلات في بعض المناطق.
لقاءات استراتيجية وتبادل خبرات
ولا يقتصر التعاون على العمليات الميدانية فقط، بل يمتد إلى المستوى الاستراتيجي عبر زيارات متبادلة واجتماعات رسمية. ففي نيسان الماضي، استضافت وزارة الداخلية السعودية وفداً أمنياً سورياً رفيع المستوى، حيث اطلع الوفد على تجربة الرياض في إدارة الملف الأمني، وناقش الجانبان سبل الاستفادة من الأنظمة التقنية والإدارية الحديثة المعتمدة في المملكة.
وتناولت المحادثات حينها سبل مكافحة الإرهاب، وضبط الحدود، ومحاربة الجريمة المنظمة، إضافة إلى تنسيق الجهود في مكافحة تهريب المخدرات، وهو ملف بات يُشكّل أولوية أمنية لكلا الدولتين في ظلّ تفشي هذه الآفة بالمنطقة.
أفق جديد للتعاون الأمني الإقليمي
تبدو ملامح المرحلة المقبلة مرشحة لمزيد من الانفتاح والتنسيق بين دمشق والرياض، في ضوء توافق الطرفين على أن استقرار سوريا هو جزء لا يتجزأ من استقرار المنطقة ككل. وتكمن أهمية هذا التعاون في شموليته، حيث يتجاوز البعد الأمني الضيق ليصل إلى دعم مؤسسي حقيقي يمكن أن يسهم في إعادة بناء الجهاز الأمني السوري وفق معايير حديثة.
ولعل الجانب الأبرز في هذا التقارب هو ما يصفه مراقبون بـ «التحوّل البراغماتي» في العلاقات العربية مع دمشق، والذي يعكس إدراكاً متزايداً بأن الأمن الإقليمي يتطلب تواصلاً فعّالاً بين مختلف العواصم، بعيداً عن الاصطفافات السياسية السابقة.
اقرأ أيضاً: السعودية وسوريا: من رفع العقوبات إلى الدعم المالي الجديد والاستثمارات!