في منطقة الحدود الشمالية، وفي مدينة عرعر تحديداً، تُشتهر صناعة السمن البري باعتبارها إحدى الحرف التقليدية المهمة، التي تحمل معها نفحات التراث الغني لمنطقة الحدود الشمالية.
في ظل سوق شعبي نشط يتيح للنسوة الطاهيات والحرفيات تسويق منتجاتهن، نجحت المرأة في استثمار هذه الثروة الطبيعية في تحقيق عوائد اقتصادية متنوعة، فارتباط السمن البري بالثقافة المحلية يعود إلى عراقة العلاقة بين المجتمع والثروة الحيوانية، حيث تعد هذه الصناعة جزءاً لا يتجزأ من الهوية الاجتماعية والاقتصادية للمنطقة، التي تضم أكثر من 7 ملايين رأس من الماشية والإبل.
وتنشط النسوة بصناعة السمن البري خلال فصل الشتاء خصوصاً، حيث يزداد الطلب عليه من قبل الأهالي، كونه مكوناً أساسياً في أكلات شعبية عديدة، وهو أيضاً عنصر لا غنى عنه في موائد الولائم.
اقرأ أيضاً: الفقع السعودي أكلة حجازية بنكهة سماوية
ومن الأكلات الشعبية التي يضاف إليها السمن، نجد الخميعة والفتية والعصيدة والثريد، ويفضلها بشكل خاص من قبل كبار السن، وتشدد أم ندى، البائعة ومربية الأغنام، على أن السمن مادة ممتازة، ويشهد إقبالاً كبيراً خلال فصل الشتاء، حيث يفضل الكثير من الزبائن شراءه لما له من فوائد ونكهة مميزة.
تتكون الخميعة من التمر، وخبز البر، والسمن البري، ولتحضيرها يُقطع الخبز ويُخلط مع التمر، ثم يُعجن بالسمن والحليب، أما المحموسة، فهي تتكون من قطع لحم صغيرة ومتوسطة تُقلى مع البصل وقطع من الشحم، وأحياناً تُضاف بعض الخضراوات، وتُقدم مع الخبز.
أما الفتيتة، فهي تُعد من السمن البري والخبز، حيث يُقطع الخبز ويُفتّت في إناء منفصل مع السمن، وتجسد هذه الأكلات التراث الغذائي الغني في المنطقة، وتعد جزءاً لا يتجزأ من المائدة الشمالية.
وقد ارتبطت هذه الصناعة بمنطقة الحدود الشمالية، المعروفة بطابعها الرعوي، حيث شهدت مدينة عرعر قبل 70 عاماً أكبر تجمع للسمن في سوقها الشهير، الذي كان يُباع من قبل تجار سعوديين وعراقيين، ولا تزال نساء عديدات في المنطقة متمسكات بهذا التراث العريق، ومحافظات على هذه الحرفة التي تمثل جزءاً من هويتهن الثقافية.
اقرأ أيضاً: مجبوس السمك أكلة تراثية بنكهة عالمية
وللسمن البري مراحل مهمة لا يمكن الاستغناء عن واحدة منها، ومن بعدها يصل إلى مرحلة التسويق والبيع، تبدأ العملية بحلب الأغنام، ثم يُسكب الحليب في قدر كبير ويُسخن حتى الغليان، بعد ذلك، يُترك الحليب ليبرد قليلاً، وتضاف إليه الخميرة، في هذه المرحلة، يتم استخراج مشتقات أخرى مثل اللبن.
بعد هذه الخطوات، يتحول الحليب إلى “الخاثر”، وهو اللبن الذي يتم وضعه في وعاء مصنوع من جلد الضأن أو الماعز يُعرف بالصميل، وتبدأ عملية “الخض” لمدة تزيد عن نصف ساعة، حيث يتشكل اللبن والزبد، ويتم خلطهما لعدة أيام، ثم تُذاب الزبدة في قدر على النار، فتتحول إلى سمن عربي.
يُفرغ السمن في وعاء جلد آخر يُسمى “النحو” أو “الظرف”، المصنوع بنفس طريقة الصميل، بعد ذلك، يُخزن السمن كموؤنة للمنزل أو يُباع، وأحياناً يُضاف إليه عسل التمر “الدبس” لإضفاء نكهة مميزة.
وتشارك النساء في منطقة الحدود الشمالية في عرض منتجات السمن البري كجزء من إرثهن الثقافي، وذلك خلال المهرجانات والمناسبات الوطنية، ويحتضن السوق الشعبي في عرعر العديد من صانعات السمن والحرف اليدوية الأخرى، إضافة إلى قاعة “الخزامى” التي تهدف إلى تدريب الأسر المنتجة وتعزيز مهاراتهن.
اقرأ أيضاً: كل حنيذ واتحلى بالمشغوثة من أكلات جنوب السعودية
يُذكر أن مهرجان السمن الدولي الأول في منطقة الحدود الشمالية، كان قد أُقيم في عام 2023 كنسخة تجريبية لـ 53 أسرة منتجة متخصصة في صناعة السمن ومشتقاته فرصة عرض منتجاتهن والتسويق لها بطريقة جذابة، واستمر لمدة 6 أيام.
وتضمن المهرجان فعاليات متعددة، مثل معرض السمن والإنتاج الأسري والتجاري، إضافة إلى معارض دولية لإنتاج السمن والصناعات التحويلية، كما ضم ركناً للتحضير المباشر، وركناً لتاريخ السمن، وركن “الطباخ الصغير”.
ويعد سوق السمن الشعبي في مدينة عرعر من أقدم الأسواق، حيث صمد أمام التحديث والتطور على مدار أكثر من 70 عاماً، رغم تغير نشاطه من بيع السمن فقط إلى دكاكين بسيطة تعرض مستلزمات محبي الصحراء مثل الخيام والأواني، إلا أن السوق لا يزال يحتفظ بسحره.
وتعود تسمية السوق إلى وفرة السمن البري في تلك الفترة، فقد كان يُباع في معظم المحلات، إضافة إلى ذلك، كان يُعرض فيه “التمن العراقي” والتمر والسكر والأقط والدلال، إلى جانب الخيام وملحقاتها، والتي كانت تُستورد من العراق وبلاد الشام، ما جعل منه علامة مميزة في المنطقة.
اقرأ أيضاً: رحلة ممتعة في عالم الأطباق النجدية الشعبية