في أقصى الشمال الغربي من الربع الخالي، حيث تلتقي رمال الصحراء بسلسلة طويق، تضيء قرية الفاو التراثية كعاصمة تاريخية لمملكة كندة الأولى، متميزةً بنظام بناء حضاري رائع، يعكس فنوناً معمارية تروي قصصاً من زمن غابر.
في حضن الصحراء، تنبض آثار قرية الفاو بحكايات الحضارات التي عاشت وازدهرت في هذه البقعة، فكانت تعرف قديماً باسم «ذات كهل»، تيمناً بأكبر الآلهة التي عبدها سكان المنطقة آنذاك، وكانت تحت حكم الملك ربيعة آل ثور، واختارها ملوك كندة عاصمة لهم منذ القرن الرابع قبل الميلاد حتى القرن الرابع الميلادي، أي لمدة ثمانية قرون، قبل أن ينتقلوا إلى شمال الجزيرة العربية لتكون مركز حكمهم.
هذه المنطقة كانت حلقة وصل حيوية في طرق التجارة القديمة، حيث كانت نقطة عبور لا غنى عنها للقوافل المتجهة من جنوب الجزيرة العربية نحو الخليج العربي وبلاد الرافدين، كما أنها تميزت بتفرع دروب التجارة منها، مثل درب البخور نحو منطقة اليمامة والحجاز.
اقرأ أيضاً: كهوف الباحة: حقائق تاريخية ترويها الجدران عن الأجداد
ومن الأمور التي تزيد شهرتها، خاصة بين اللغويين، أنها الموقع الوحيد الذي يعد شهادة على اللغة العربية القديمة، حيث يعود نقشها بالخط السبئي إلى القرن الأول الميلادي، ويُعتقد أن هذه اللغة كانت مقدمة للغة العربية الفصحى، التي وُثّقت لأول مرة في عام 328 ميلادي من خلال نقش نمارة، المعروف أيضاً بنقش شاهد قبر امرؤ القيس بن عمرو بن عدي.
ومن الأسماء التي عُرفت بها القرية أيضاً، «قرية الحمراء» و«ذات الجنان»، وعلى مر العصور، تمكنت المدينة من الصمود أمام هجمات متعددة من الدول المجاورة، وهو ما وثّق في أواخر القرن الثاني الميلادي، لتظل الفاو رمزاً للثبات والقوة عبر الزمن.
يُعزى فضل إعادة اكتشاف قرية الفاو إلى عالم الآثار والمؤرخ السعودي الراحل عبد الرحمن الأنصاري، الذي قاد جهود التنقيب عن هذه القرية المطمورة على مدار أربعين عاماً، وفي كتابه «قرية الفاو: صورة للحضارة العربية قبل الإسلام في المملكة العربية السعودية»، وثق الأنصاري صور ومعلومات عديدة قيمة حول الفاو، ونشر نتائج الأبحاث والتنقيبات في سبعة مجلدات شاملة.
وتُظهر سلسلة المجلدات التوثيقية لحضارة الفاو، التي أصدرتها الإدارة العامة للبحوث والدراسات الأثرية بالتعاون مع كلية السياحة والآثار بجامعة الملك سعود، أن قرية الفاو تزخر بكنوز من الآثار والتحف والأبراج والأسواق التجارية.
اقرأ أيضاً: تسجيل 25 موقعاً تراثياً جديداً في الباحة
تقع القرية على وادٍ يفيض بين الحين والآخر، ما ساهم في شق قنوات لري النخيل والكروم والحبوب، وقد عُرف أهل الفاو بالزراعة، حيث عُثر على 17 بئراً واسعة، كما سقفوا منازلهم بجذوع الأشجار والنخيل، واستوردوا الأخشاب المحلية لصنع أبوابهم ونوافذهم.
وأكدت الحفريات وجود سوق تجاري مركزي مكون من ثلاثة طوابق، يحيط به سبعة أبراج للتخزين، بُني هذا السوق باستخدام كتل من الحجر الجيري والطوب، كما أظهرت مراحل التنقيب زجاجات عطور مصنوعة بأشكال جميلة، ما يدل على ثراء وتطور هذه الحضارة.
ومن التاريخ إلى العصر الحديث، بدأ الاهتمام بالمواقع الأثرية في قرية الفاو في أربعينيات القرن الماضي، عندما أشار بعض موظفي شركة «أرامكو» السعودية إليها في أحاديثهم، وفي عام 1952، قام ثلاثة من موظفي الشركة بزيارة المدينة وكتبوا تقارير حول ما اكتشفوه.
بعدها، توالت الزيارات الاستكشافية من قبل علماء آثار أجانب، وكانت ملاحظاتهم بمثابة الشرارة التي أشعلت أعمال التنقيب في الموقع، فبين عامي 1970 و2003، قام فريق من جامعة الملك سعود بأعمال تنقيب مكثفة، واكتشفوا قطاعين رئيسين في المدينة، ليُعيدوا الحياة إلى قصة حضارة غابرة.
وقد تكونت اكتشافات الفاو من منطقتين: الأولى منطقة سكنية تضم منازل وساحات وشوارع وسوق، بينما الثانية منطقة مقدسة تحتوي على معابد ومقابر.
اقرأ أيضاً: مدينة جدة: معالم تاريخية وحضارية ترسم ملامحها
وفي يوليو 2022، أعلنت هيئة التراث عن اكتشافات جديدة في قرية الفاو بعد إجراء مسح أثري شامل باستخدام تقنيات متقدمة، مثل التصوير الفوتوغرافي الجوي والطائرات دون طيار والرادار المخترق للأرض.
أظهرت النتائج حينها وجود نقوش تعبدية متعددة وبقايا مستوطنات بشرية تعود للعصر الحجري الحديث، إضافة إلى توثيق أكثر من 2807 مقابر في الموقع، كما عُثر على بقايا معبد بُني من الحجارة ومائدة لتقديم القرابين.
تميزت مقابر قرية الفاو بثلاثة أنواع رئيسية تقع في الطرف الغربي منها، النوع الأول هو المقابر العائلية الجماعية، المخصصة للأسر والأفراد ذوي المكانة الاجتماعية والسياسية البارزة، تكون هذه المقابر بعمق يصل إلى خمسة أمتار، وتحتوي على أبواب في الجهات الأربع تؤدي إلى أقبية منحوتة بشكل دائري.
أما النوع الثاني، فهو مقابر النبلاء، التي تتكون من غرفتين: شرقية وغربية، مفصولتين بمهبط يسهل النزول إلى المقبرة، تحتوي هذه المقابر أيضاً على نقر مراقي لتسهيل الحركة، والنمط الثالث هو مقابر عامة الناس، التي تقع شمال شرقي المدينة، تتميز بعمق مهبط يتراوح بين متر وخمسة أمتار، وتنتهي بلحد مقفل يشبه قبور المسلمين اليوم.
اقرأ أيضاً: متنزهان جيولوجيان سعوديان في سباق الجيوبارك العالمية
ومؤخراً، تحديداً خلال الدورة السادسة والأربعين للجنة التراث العالمي، التي عُقدت في مدينة نيودلهي الهندية من 22 إلى 31 يوليو، أعلنت السعودية عن تسجيل «المنظر الثقافي لمنطقة الفاو الأثرية» في قائمة التراث العالمي لمنظمة اليونسكو.
وقد جاءت عملية التسجيل لقرية الفاو نتيجة للجهود الوطنية الكبيرة التي بذلها وفد المملكة لدى اليونسكو، هذه الجهود الحثيثة تؤكد حرص المملكة على المحافظة على تراثها الغني وتعريف المجتمعين المحلي والدولي بأهميته، كما تسهم في تحقيق أهداف رؤية المملكة 2030، الساعية إلى مضاعفة عدد المواقع السعودية المدرجة في قائمة اليونسكو للتراث العالمي وتعزيز المحافظة على التراث الإسلامي والعربي والوطني.
اقرأ أيضاً: فوهة الوعبة تتألق بين أفضل المعالم الجيولوجية العالمية