في عالمٍ متسارع الأحداث وتغيّر التحالفات، قد تمرّ بعض الزيارات الدبلوماسية دون ضجيج، لكنها تحمل بين طيّاتها إشارات دقيقة تعكس تحوّلات استراتيجية كبرى. ومن بين هذه الزيارات التي تستحق التوقف عندها، تبرز مؤخراً زيارة الأمير خالد بن سلمان، وزير الدفاع السعودي، إلى العاصمة الإيرانية طهران. الزيارة التي تبدو للوهلة الأولى بروتوكولية، لكنها في عمقها تجسيدٌ لمسارٍ جديد في العلاقات السعودية – الإيرانية وربما الخليجية – الإيرانية، رسمته بكين وبدأت الرياض وطهران في تعبيد طرقه بحذر وعناية…
زيارة تحمل رسائل متعددة
التقى الأمير خالد بن سلمان، بالمرشد الأعلى علي خامنئي، والرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، بالإضافة إلى كبار القادة العسكريين وعلى رأسهم اللواء محمد باقري، رئيس أركان القوات المسلحة. وجاء هذا اللقاء بناءً على توجيهات القيادة السعودية، حاملاً رسالة خطية من خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز.
وأوضح الأمير خالد في منشور له عبر منصة «إكس»، أنّ لقاءه مع المرشد الأعلى تناول العلاقات الثنائية، وسبل تعزيزها، إلى جانب مناقشة أبرز الملفات الإقليمية ذات الاهتمام المشترك، في وقتٍ تبدو فيه منطقة «الشرق الأوسط» على صفيحٍ ساخن.
وقد نقلت وكالة «تسنيم» الإيرانية عن خامنئي تأكيده على أهمية العلاقة بين البلدين، قائلاً إنّها مفيدة لكلا الطرفين، ويمكن من خلالها تحقيق تكامل استراتيجي بين الرياض وطهران.
أبعاد اللقاءات الأمنية والعسكرية
لم تقتصر اللقاءات على الجانب السياسي فحسب، بل شملت جوانب أمنية وعسكرية، إذ التقى الأمير خالد بن سلمان باللواء محمد باقري، الذي أشار إلى أنّ العلاقات مع السعودية تشهد تطوراً منذ التوقيع على «اتفاق بكين» عام 2023، مؤكداً استعداد إيران لتوسيع التعاون الدفاعي مع المملكة.
واللافت أنّ باقري عبّر أيضاً عن تقدير طهران للمواقف السعودية حيال الأزمة في غزة، ما يكشف عن تقاطع مهم في الرؤى السياسية للبلدين تجاه القضايا الإقليمية الساخنة.
زيارة في توقيت حساس
يشار إلى أن هذه الزيارة تأتي في لحظة إقليمية حرجة، حيث تشهد المنطقة تطورات سريعة على الصعيدين السياسي والعسكري، سواء فيما يخص الملف النووي الإيراني أو الأوضاع في فلسطين واليمن وسوريا. وتأتي أيضاً بعد سلسلة من الاتصالات الثنائية رفيعة المستوى، أبرزها المكالمة الهاتفية التي جمعت الرئيس الإيراني الجديد، مسعود بزشكيان، بولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، والتي بحثت تطورات المنطقة وتعزيز التعاون بين البلدين.
كذلك، سبقت الزيارة مفاوضات أميركية – إيرانية غير مباشرة في مسقط، ما يجعل من زيارة الأمير خالد بن سلمان جزءاً من مشهد دبلوماسي أوسع يتم رسمه في المنطقة.
رسائل سعودية برؤية إستراتيجية
في تعليقه على الزيارة، أكّد المحلّل السياسي السعودي عبد اللطيف الملحم، أنّ زيارة وزير الدفاع إلى طهران تعبّر عن رؤية سعودية استراتيجية تهدف إلى بناء توازن إقليمي جديد، يقوم على الشراكة عوضاً عن الصدام، وعلى الحوار عوضاً عن التصعيد. ويعتبر الملحم أنّ القيادة السعودية تسعى إلى تحويل المنطقة من ساحة نزاعات إلى فضاء للتنمية والتكامل الاقتصادي حسب تعبيره لصحيفة «الشرق الأوسط».
كما يرى أنّ هذه الزيارة تعكس التزام المملكة بتطبيق بنود «اتفاق بكين»، وتحقيق تقارب فعّال مع طهران، بما يسهم في تعزيز الأمن الإقليمي، وتطلعات شعوب المنطقة.
من المصالحة إلى الفعل السياسي
ومنذ استئناف العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران برعاية صينية في مارس 2023، توالت اللقاءات والزيارات المتبادلة بين الطرفين. فبعد زيارة وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان إلى طهران، زار عدد من كبار المسؤولين الإيرانيين الرياض، من بينهم وزير الخارجية الأسبق حسين أمير عبد اللهيان، ووزير الخارجية الحالي عباس عراقجي.
كما شارك الرئيس الإيراني السابق إبراهيم رئيسي في القمة العربية – الإسلامية في الرياض، في نوفمبر 2023، إلى جانب زيارة النائب الأول للرئيس الإيراني للمملكة في العام التالي.
اتفاق بكين: منصة للاستقرار الإقليمي
شكّل الاتفاق الثلاثي بين السعودية وإيران والصين نقطة انطلاق لمسار جديد في العلاقات الخليجية – الإيرانية، قائم على الالتزام المتبادل باحترام سيادة الدول، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، وتفعيل مبادئ القانون الدولي.
وفي هذا السياق، عقدت اللجنة الثلاثية المشتركة اجتماعين؛ الأول في بكين، والثاني في الرياض، تم خلالهما التأكيد على التزام البلدين بجميع بنود الاتفاق، واستمرارية الصين في دعم خطوات التقارب بين الطرفين.
وفي تصريح سابق لصحيفة «الشرق الأوسط»، أوضح نائب وزير الخارجية الإيراني مجيد تخت روانجي، أنّ التعاون السعودي – الإيراني يشكّل نموذجاً ناجحاً للحلول الإقليمية المتعددة الأطراف، مشيراً إلى أنّ البلدين يعتزمان مواصلة العمل المشترك لضمان أمن المنطقة وازدهارها.
وحينها، تطرق روانجي إلى أهمية تعزيز التعاون السياسي، والأمني، والاقتصادي، والقنصلي، انطلاقاً من القواسم المشتركة بين الشعبين، والروابط الثقافية والتاريخية التي تجمعهما.
اقرأ أيضاً: اللقاء الأوّل من نوعه منذ عقود بين السعودية وإيران
خطوة نحو شرق جديد..
ختاماً، قد تكون زيارة وزير الدفاع السعودي إلى إيران قصيرة في مدتها، لكن دلالاتها الاستراتيجية عميقة، فهي ليست مجرّد لقاءات بروتوكولية، بل جزء من تحوّل دبلوماسي واسع يطال الخليج والشرق الأوسط بأسره. وهي زيارة تعكس في جوهرها وجود رغبة حقيقية مشتركة في التهدئة، والانخراط في مسارات تفاهم تقي هذه المنطقة من مسارات الفوضى الراهنة.