كتب: محسن حسن
في ظل حالة التحول الإيجابي الدائمة التي تحيط بكافة القطاعات الحيوية والتشغيلية في المملكة العربية السعودية منذ إطلاق رؤية 2030 وحتى الآن، تمكنت البلاد من تحقيق طفرات ملحوظة وقوية في سلم أولويات التطوير والتحديث والأخذ بأعلى معدلات ومعايير التكنولوجيا والتقنيات الفائقة. وكان من بين ما حققته المملكة في هذا السياق ذلك الإنجاز الأحدث وغير المسبوق في مجال الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته المختلفة؛ حيث أصبحت منذ العام 2024 تحتل المرتبة الأولى على مستوى العالم العربي ومنطقة الخليج، بينما تحتل المركز الرابع عشر عالمياً وفق المؤشر الدولي للذكاء الاصطناعي.
وبالنظر إلى التقدم السعودي المتلاحق في مجال الذكاء الاصطناعي والذي شهد خلال السنوات الأخيرة صعوداً حثيثاً لأكثر من 16 مرتبة ضمن قائمة تضم أكثر من 80 دولة يشملها هذا المؤشر العالمي، فإن الملاحظ هو حرص القيادة السعودية بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز وولي عهده الأمير محمد بن سلمان، على الارتقاء بمكانة المملكة وأحقيتها في أن تصبح رائدة دولية وإقليمية في هذا المجال، خاصة مع ما حققته وتحققه الاستراتيجية الوطنية والحكومية الحثيثة فيما يخص الاستثمار في تقنيات الذكاء الاصطناعي، حيث نجحت تلك القيادة في تعزيز النظم البيئية والتجارية الممهدة لتحقيق مكانة أكبر في الريادة السعودية التقنية خلال السنوات القادمة.
سوق رائجة
وتنظر القيادة السعودية إلى مجال الذكاء الاصطناعي باعتباره من بين الأسواق الاقتصادية الرائجة على كافة الصعد والمستويات محلياً وإقليمياً ودولياً، ليس هذا فحسب، وإنما هي تؤمن بأن هذا المجال هو من بين المجالات المهيأة على الدوام لخدمة التطلعات الاقتصادية والاستثمارية التي تتبناها استراتيجيات الإصلاح الوطنية في البلاد، وذلك وفق عدة اعتبارات، لعل أهمها أن هذا المجال صالح في نفسه وصالح بالنسبة لغيره أيضاً؛ إذ يؤدي الاعتماد عليه إلى بروز أنماطه ومستوياته القابلة للاستخدام والتوظيف ضمن بيئات مهنية وتشغيلية مختلفة، كما أنه من جهة أخرى يقدم آليات وجيهة من شأنها رفع مستوى الكفاءات الوطنية العاملة في كافة القطاعات، وهو بدوره ما يساعد على تنمية المواهب وتعزيز الإنتاج وتطوير منطلقات البحث العلمي والتطوير ، إلى جانب إسهامه في الارتقاء بالبنية التحتية التقليدية والمؤتمتة، وهو ما يتوافق كلياً مع منطلقات التنويع الاقتصادي التي تتبناها المملكة من أجل الخروج من أسر الريع النفطي؛ حيث تهدف خطط الإصلاح السعودية الراهنة في هذا الإطار، إلى بلورة اقتصاد ذكي رائد، معزز بالبيانات، وقادر على تبني ورعاية سوق اقتصادية جديدة وناشئة للاستثمارات الذكية، وهو الهدف الذي يمثل أولوية قصوى في سلم أولويات الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي، والتي تدرك حجم التحديات التي يجب التغلب عليها وتذليلها في هذا السياق، خاصة مع اشتداد وتيرة التنافسية الدولية والإقليمية في هذا المجال.
ميدانية رقمية
وبالنظر إلى حجم التجاوب المجتمعي من حيث التعاطي الإيجابي للسعوديين مع تقنيات الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته الميدانية المختلفة، يتبين مدى النمو الإيجابي للديناميكية الاقتصادية والخدمية التي يحققها هذا المجال في البيئة المحلية والجماهيرية للبلاد؛ حيث زاد وعي السعوديين كثيراً بالجدوى الاجتماعية والصحية المترتبة على تطبيق الخدمات الإلكترونية، وهو بدوره ما يساعد الحكومة السعودية، على ضخ المزيد من الاستثمارات التقنية في السوق المحلية، وعلى زيادة معدلات الاعتماد على التقنيات الرقمية، ومن ثم، فقد أصبح من الطبيعي أن يعتاد المواطن السعودي على مظاهر توظيف التطبيقات التقنية في الخدمات المختلفة، بما في ذلك توظيف روبوتات الذكاء الاصطناعي، والتي أصبح تطويرها الدائم في المملكة، سبباً أساسياً من أسباب نمو السوق التقنية، وانتشار تكنولوجيا التعلم الآلي والتحكم الذاتي وتطبيقات الاستشعار، خاصة مع انتشار توظيف الروبوتات في مختلف الصناعات والخدمات المصرفية، وأيضاً في مختلف المعاملات التجارية والصحية، وهو الأمر الذي أسهم بدوره في تغيير الثقافة التقنية للسعوديين، بحيث انتقل السلوك التقني الجماهيري، وخاصة سلوك الشباب، من التقليد والنمطية، إلى التركيز على الابتكار واختبار الدهاء التقني والتكنولوجي، وتوظيفهما في مجمل القطاعات الخدمية والإنتاجية، وبالتالي تغيرت توجهات الاستهلاك في الأسواق السعودية المحلية المختلفة. وهذه الميدانية الرقمية في المجتمع السعودي، رفعت من سقف التحول الرقمي، وفتحت آفاقاً جديدة للتوظيف والحد من البطالة، إلى جانب النمو الاقتصادي المدعوم بظهور العديد من الشركات الناشئة والمبادرات التقنية والاستثمارية المقدمة من مستثمرين محليين أو دوليين.
اقرأ أيضاً: الروبوت سارة أول مرشدة ذكية للسياحة السعودية
جغرافية تقنية
وفي إطار الميدانية الرقمية الجماهيرية المشار إليها، والتي تشهدها مناطق المملكة العربية السعودية، كان منطقياً أن تتغير ملامح الجغرافيا التقنية في عموم البلاد، وأن تنتشر المراكز والمنشآت الابتكارية والبحثية والتشغيلية والمعاهد والكليات المتخصصة في المجال التقني والتكنولوجي؛ فهناك على سبيل المثال مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية (KACST)، والتي يزينها العديد من مراكز الابتكار المتقدم مثل (معمل التقنيات العميقة)، و(الكراج) الذي يمثل ملتقى الشركات الناشئة والعاملة في مجال الابتكار والتكنولوجيا، وهو يضم الكثير من برامج مسرعات الأعمال، وخاصة مسرعة أعمال الذكاء الاصطناعي التوليدي المسمى (غاية).
وإلى جانب مراكز بحثية وتقنية عديدة تغطي عموم المناطق السعودية، وخاصة في العاصمة الرياض، لا تخلو الجغرافيا التقنية من منشآت قوامها العمل التقني عن بعد، ومن ذلك مثلاً (مستشفى صحة الافتراضي) أحد أكبر المستشفيات الرقمية ذات الاستدامة البيئية عالمياً، والذي يقوم بتقديم خدماته الطبية والعلاجية عن بعد وعبر تقنيات الذكاء الاصطناعي. ومن الطبيعي ألا تخلو منظومة التقنيات الوطنية في المملكة من تطبيقات الذكاء الاصطناعي المستخدمة في مجال الفضاء والفلك، وذلك عبر وكالة الفضاء السعودية، وخاصة مركز مستقبل الفضاء الذي يعتمد أعلى معايير التوظيف الفائق لتقنيات الذكاء الاصطناعي في مجال استكشاف الفضاء، خاصة في ظل تخصيص ميزانيات ضخمة للدعم المالي والاستثماري، بلغ معه اقتصاد الفضاء السعودي أكثر من 30 مليار ريال سعودي، كما بلغت معه سوق الفضاء السعودية 7.1 مليار ريال سعودي وفق تقديرات العام 2024 المنصرم، وهو ما أفرز طاقات سعودية وبشرية خلاقة في مجال الفضاء، حيث باتت المملكة تمتلك العديد من رواد الفضاء الوطنيين، إلى جانب البدء في تخريج سلسلة من رائدات الفضاء من النساء بعد ظهور (ريانة برناوي) أول رائدة فضاء سعودية وعربية.
اقرأ أيضاً: هل حقاً ستطلق السعودية قمراً لدراسة مناخ الفضاء؟!
تفوق سعودي
ووفق مجمل التقييمات والمؤشرات التقنية المتخصصة، تمتلك المملكة العربية السعودية مقومات نجاح أكثر من غيرها خليجياً وعربياً من حيث القدرة على بلوغ مراتب مستقبلية أعلى في مجال الريادة التقنية وريادة الذكاء الاصطناعي؛ حيث يهيمن هذا الأخير على أكثر من 65% من عموم الأهداف الاستراتيجية لرؤية 2030 السعودية وفق البيانات الرسمية الصادرة عن الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي، وهو ما يؤكده حجم الدعم التقني الموجه من قبل الصناديق السيادية السعودية، وعلى رأسها صندوق الاستثمارات العامة، ذلك الذي ساهم منذ إطلاق الرؤية وحتى الآن، في أن تستحوذ المملكة على بنية تحتية متطورة للذكاء الاصطناعي، سيصعب على المنافسين الإقليميين بلوغها مستقبلاً، حيث ستتمتع فيها مراكز البيانات الاستطلاعية بقدرة تتجاوز الــ 2.100 ميجاوات مقابل 500 ميجاوات لأقرب المنافسين وهي الإمارات العربية المتحدة، في حين سيعزز من القدرة السعودية المستقبلية على احتكار منظومة الذكاء الاصطناعي الإقليمية، مكانة المملكة الطاقية والمالية في الأسواق الدولية، إلى جانب تحالفها التكنولوجي مؤخراً مع العملاق الأمريكي، ما سيمكنها حتماً من تضخيم قواعد ومراكز البيانات الذكية والتقنية، خاصة مع استمرار الدعم الرسمي والاستثماري المقدم لتلك المنظومة من قبل الحكومة السعودية، ذلك الدعم الذي سيكون من بين أولوياته الراهنة والمستقبلية، القيام بتأسيس شركة كبرى للذكاء الاصطناعي تحت رعاية صندوق الاستثمارات العامة، وبقيمة استثمارات جريئة تزيد على 9.5 مليار دولار، هذا إلى جانب القيام بتأسيس شراكات استثمارية كبرى مع رواد التقنية والذكاء والتكنولوجيا من الشركات العالمية والدولية المشهود لها بالباع الطويل في هذا المجال، مثل شركات: google cloud، و Amazon Web Services، و Oracle، و Equinix، وهي الشراكات التي سيتجاوز حجم أموالها الاستثمارية في المملكة حدود الــ 40 مليار دولار، والتي ستساهم خلال السنوات القليلة القادمة في تعزيز البنية التحتية السعودية للذكاء الاصطناعي سواء عبر التطوير أو من خلال إنشاء مناطق ومراكز لتقنيات هذا المجال.
اقرأ أيضاً: رقائق الذكاء الاصطناعي: ما موقع السعودية وسط التنافس العالمي الشديد؟!
تحديات ورهانات
وبالطبع، فإن نجاح المملكة العربية السعودية، في الاستحواذ الدائم على الريادة الإقليمية في مجالات الذكاء الاصطناعي الكلية والجزئية، لن يكون سهلاً، وإنما سيكون على الدوام محفوفاً بالتنافسية الإقليمية المستمرة في هذا المجال، هذا إلى جانب التحديات اللوجيستية الضخمة والكبيرة التي يفرضها طلب الريادة المستمرة في مجال حيوي مثل هذا المجال، والتي سيكون من بينها توفير الطاقة المستدامة واللازمة لتشغيل مراكز ومناطق الذكاء الاصطناعي ذات السعة التخزينية القصوى والمتنامية من الحوسبة السحابية، وهو ما سيقتضي مثلاً رفع القدرة الطاقية لمراكز بيانات الذكاء الاصطناعي في المملكة من 300 ميجاوات حالياً إلى أضعاف أضعاف هذا المعدل مستقبلاً، وهو ما تسعى إليه المملكة بكل طاقتها التشغيلية والطاقية والاستثمارية، ويساعدها في ذلك حالة الصراع التقني الدولي والإقليمي بين كل من الولايات المتحدة الأمريكية من جهة، والصين من جهة ثانية، ذلك الصراع الثنائي الذي يسعى خلاله كل طرف إلى استقطاب شركاء من كل حدب وصوب، الأمر الذي رحبت في ظله واشنطن بتلبية الكثير من الطموحات التقنية والتكنولوجية للرياض ولمنطقة الخليج ككل، بما في ذلك إلغاء القيود المفروضة من إدارة الرئيس بايدن السابقة على تصدير رقائق الذكاء الاصطناعي الإلكترونية، الأمر الذي سيساعد الدول الخليجية وفي المقدمة منهم المملكة العربية السعودية، على تسريع وتيرة إنتاج النموذج السعودي المحلي من الذكاء الاصطناعي على غرار النماذج المتعارف عليها الآن مثل (GPT-OpenAI-DeepSeek) وغيرها، وبالطبع، سيكون من بين التحديات السعودية الماثلة في هذا السياق، القدرة على سرعة رفع معدلات التعلم التقني، وتحسين جودة الخريجين التقنيين من الشباب، وخاصة في مجال الذكاء الاصطناعي، وجميع هذه التحديات وغيرها، تضعها في الحسبان القيادة السعودية، وتعمل جاهدة على تذليلها وعلى تعبيد الطريق نحو تجاوزها والتغلب عليها، وذلك في إطار من السعي الدائم نحو اجتذاب المزيد من الخبرات الواعدة من شتى البقاع والدول للإفادة منها في توطين ما تحتاج إليه من تقنيات وآليات وأنماط علمية ومعرفية، من شأنها الإسراع في وتيرة النهوض بالثروة البشرية السعودية نحو آفاق أكثر قدرة على الاستقلالية الوطنية في مجال التقنية والذكاء الاصطناعي.
اقرأ أيضاً: دليل استخدام الذكاء الاصطناعي التوليدي بالتعليم العام