شهدت العاصمة السعودية الرياض في الرابع عشر من شهر مايو 2025 استضافة قمة رباعية بين الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة العربية السعودية وسوريا وتركيا، وهي الاستضافة التي تخللتها لقاءات أمريكية مؤثرة، تأتي في سياق مرحلة فارقة من التحولات الإقليمية والتفاعلات الدولية.
كتب: محسن حسن
أظهرت مؤشرات التفاعل الإقليمي والدولي بشأن مستقبل العلاقات الأمريكية السعودية، تعاظم الدور السعودي وتنامي تأثيره العميق في مجريات الأحداث والقضايا المحورية والمصيرية الماسة بأمن واقتصاد المنطقة والعالم، نظراً لما أصبحت عليه المملكة، من انفتاح سياسي، على التعاطي الوازن مع مجمل القضايا والأطراف، ما أصبحت معه الرياض، لاعباً رئيسياً في توجيه السياسات الدولية، ووسيطاً إقليمياً بارزاً منوطاً به الإسهام الفاعل في إقرار السلم والأمن الدوليين.
السعودية في حلة جيوسياسية جديدة
ومن دلائل الحضور السعودي المتجدد في الوقت الراهن، قدرة القيادة السعودية المتطورة بزعامة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز وولي عهده الأمير محمد بن سلمان، على تكييف السياسة الخارجية مع القوى الدولية، وفق تجانس واضح بين الأهداف الاستراتيجية من جهة، والنهج الواجب اتباعه من أجل تطويع المعطيات وتهيئة الأجواء الدبلوماسية المناسبة لتحقيق تلك الأهداف من جهة أخرى.
هذا هو الأمر الذي تظهر معه تلك القيادة، في حلة جديدة من الجيوسياسية المرنة والفاعلة والمرتكزة إلى مصداقية اقتصادية واستثمارية قادرة على الوفاء بوعودها، وواعية بمتطلبات المرحلة، ولديها الفهم العميق لأسس التعاطي مع المتغيرات الدولية والإقليمية، جنباً إلى جنب، مع حرصها على انتهاج سياسات مرنة تراعي المصالح المتبادلة مع جميع الأطراف، وبالشكل الذي يحتفظ معه جميع الحلفاء بقدر كبير من الاتزان الضامن للاستقرار والاستدامة وتقدبم إيجابيات البناء والتشييد والنهضة على سلبيات العداء والهدم والتخلف.
يجعلنا هذا أمام قوة سعودية صاعدة وملتزمة بالحضور الفاعل والمتجاوب مع كافة العوامل المعتبرة في سلم أولويات الاستقرار الإقليمي والدولي، ودون إخلال بمقتضى العضويات الأممية والمعاهدات الدولية.
براجماتية المال
ولعل حرص المملكة ـــ منذ قيامها بتطبيق استراتيجية ورؤية 2030 الإصلاحية ـــ على انتهاج سياسات مالية براغماتية (عملية) من الناحية الاقتصادية والاستثمارية، قد أتاح لها نوعاً من الانفتاح الإيجابي وغير المسبوق على الأسواق المختلفة الطاقية وغير الطاقية، سعياً نحو تغيير المسارات الاقتصادية الوطنية نحو وجهتها الأكثر تنوعاً من حيث الموارد والمداخيل، وإسهاماً فاعلاً في الخروج من أسر الريع النفطي، إلى براحات اقتصادية واستثمارية غير نفطية.
وهو ما تأتي في سياقه الاستجابة السعودية الأخيرة لتطلعات الإدارة الأمريكية بقيادة دونالد ترامب، والتي كان من بين أهدافها توسيع نطاق التفاعل السوقي والمالي بين الجانبين الأمريكي والسعودي، خاصة مع حاجة البلدين المتبادلة إلى تعزيز الشراكة الاستراتيجية القائمة على مراعاة المصالح الثنائية بينهما، مع ما ينبني على تلك الشراكة من أوجه الانخراط الفاعل في حفظ الأمن والسلم الدوليين.
توسيع نطاق الشراكات
وهناك مجموعة من العوامل الدافعة إلى حرص الإدارتين الأمريكية والسعودية، على توسيع نطاق الشراكات الاقتصادية والاستثمارية بينهما، ويأتي في مقدمة هذه العوامل، التطور الاقتصادي والمالي الكبير الذي شهدته/تشهده المملكة العربية السعودية في السنوات الأخيرة، والذي باتت معه كافة القطاعات الوطنية ساعية نحو التحديث المستمر لآليات الإصلاح المالي والتجاري والاقتصادي على كافة الصعد والمستويات، وهو الأمر الذي يتيح فرصاً واعدة لتوسيع تلك الشراكات بين البلدين.
حيث تقتضي خطط التطوير والإصلاح في المملكة، استقطاب الخبرات الدولية في كافة المجالات، وبالطبع تمتلك الولايات المتحدة الأمريكية النصيب الأوفر من تلك الخبرات والكوادر، في حين يجد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أن السوق السعودية من بين الأسواق الجديرة بتحقيق تطلعات ونجاحات اقتصادية لإدارته، كما أن إدراك كلا الطرفين ما يمثله الطرف الآخر من ثقل سياسي واستراتيجي فاعل في بنية العلاقات الدولية يساهم في تعزيز أوجه التلاقي؛ حيث تدرك الإدارة الأمريكية الراهنة، وقبلها إدارات أمريكية أخرى، ما يمثله الدور السعودي في إدارة شؤون المنطقة وفي دعم الاستقرار فيها.
يأتي ذلك خاصة في مرحلة باتت فيها المملكة تتعاطى بإيجابية شديدة مع جميع الأطراف في محيطها الإقليمي والدولي، ما يجعلها من وجهة النظر الأمريكية ـــ على وجه الخصوص ـــ تشكل حجر الزاوية في خلخلة الكثير من العقبات والتحديات التي قد تواجه واشنطن مستقبلاً في المنطقة والعالم، ومن جهتها تدرك القيادة السعودية، تلك القيمة الاستراتيجية والاقتصادية والسياسية التي يمثلها الحليف الأمريكي في تحقيق الأهداف والمصالح الإقليمية العامة، والوطنية الخاصة، إلى غير ذلك من عوامل الجذب المتبادل، والتي تمثل البراجماتية المالية والاقتصادية، وجهاً أصيلاً من أوجه فاعليته ونجاحه.
رمزية استثنائية
وبالنظر إلى حجم المشاركة الدولية (العربية/الإسلامية) الموسعة في القمة الأمريكية/السعودية، و التي استطاعت المملكة العربية السعودية خلالها استقطاب العديد من قادة المنطقة من أكثر من 50 دولة، فإن الرمزية الاستثنائية، تمثلت في تقديم الرياض من جهتين باعتبارها الوجهة الإقليمية والدولية والأمريكية المفضلة لاحتضان القرارات والتحالفات المستقبلية بشأن القضايا الدولية.
حيث أكدت المشاركة العربية والإسلامية في هذه القمة، على مكانة المملكة باعتبارها ركيزة محورية لا غنى عنها في إقرار أمن واستقرار المحيطين الدولي والإقليمي.
كما كان لاختيار ترامب أن تكون زيارته الخارجية الأولى بعد توليه منصبه الجديد، إلى السعودية، على خلاف المتبع من الإدارات الأمريكية السابقة، الأثر الأكبر في منح المملكة بعداً استراتيجياً عملياً في أعين المجتمع الدولي، حيث أشار بما لا يدع مجالاً للشك أو الريبة، إلى أن الإدارة الأمريكية تعول كثيراً على الدور الحيوي الشامل الذي تلعبه الرياض في التقليل من التحديات الحالية والمستقبلية التي تواجهها المنطقة، وفي حل مشكلاتها العالقة.
كما حملت الزيارة ضمن سياقاتها غير الاعتيادية، رسالة واضحة، مفادها أن التوجهات الجديدة لإدارة ترامب، ترى في الحليف السعودي وسيطاً مؤتمناً يمكن اللجوء إليه لطرح أية مبادرات متعلقة بقضايا المنطقة وقضايا المجتمع الدولي، بما في ذلك القضايا والملفات الشائكة بين واشنطن والكرملين أو واشنطن وبكين أو غير ذلك من ملفات إقليمية.
اقرأ أيضاً: «العصر الذهبي» بدأ: ماذا حملت زيارة ترامب التاريخية للرياض؟
دلالات قبول
وحين نتتبع اللقاءات التي شهدتها قمة واشنطن/الرياض ومعها الخلاصات والنتائج التي تكشفت عنها، سندرك إلى أي حد يمكن اعتبار كل ذلك من قبيل المؤشرات الدالة على مدى القبول والترحيب الذي تحظى به القيادة السعودية لدى الجانب الأمريكي، وأيضاً على مدى ما ستشهده السنوات المقبلة من شراكات وتحالفات وكيانات جديدة ستكون الإدارة الأمريكية طرفاً فيها مع دول المنطقة.
ولعل من بين أهم التحولات غير المتوقعة، والتي تمخضت عنها الزيارة، ترحيب واشنطن بالانفتاح الإيجابي على واقع سوريا الجديدة تحت قيادة رئيسها المؤقت أحمد الشرع، وإعلان ترامب عن مدى ما يشعر به من انطباعات مريحة ومطمئنة تجاه شخصية الشرع وتجاه سعيه الدؤوب نحو استقرار سوريا ونحو تحقيق مصالح السوريين، الأمر الذي هيأ للقيادة السعودية فرصاً غير مسبوقة تم توظيفها بكفاءة وحرفية وتكتيك سياسي مدروس من أجل إقناع الرئيس الأمريكي بجدوى العمل السريع على رفع العقوبات المفروضة على سوريا منذ سنوات عديدة، ما جعل من الجهود السعودية والتركية في هذا السياق، سبباً مباشراً من أسباب انخراط الرئيس الأمريكي في التجاوب السريع نحو إحداث تحول كبير في سياسة الولايات المتحدة تجاه سوريا، إلى الدرجة التي سارع خلالها الرئيس ترامب بالإعلان عن نيته رفع جميع العقوبات المفروضة على سوريا.
متغيرات قادمة
وانطلاقاً من هذا التجاوب الأمريكي مع التوصيات والطروحات السعودية تجاه الوضع السوري، يمكننا التأكيد هنا، على أن المرحلة القادمة من عمر إدارة الرئيس ترامب في واشنطن، يمكن أن تشهد ترتيبات واستراتيجيات جديدة وغير مطروقة من قبل، ربما تتبلور خلالها دعوة أمريكية صريحة لإنشاء تحالف أمريكي مع كل من السعودية وسوريا وتركيا، وربما مع بعض الأطراف الأخرى ذات الجدوى الاقتصادية والأمنية والاستراتيجية، من أجل دعم الاستقرار العام في سوريا.
وبالطبع، فإن الأثر التركي في تكوين مثل هذا الحلف المتوقع، سيكون حاضراً بقوة من عدة جهات، أولاها العلاقة الإيجابية التي تجمع بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان والرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وثانيها الرغبة التركية في دعم النظام الحالي للرئيس الشرع في سوريا، لما سيترتب عليه من استقرار الحدود التركية السورية واستقرار محيطها، وثالثها، الانفتاح الإيجابي الكبير الذي تشهده العلاقات السعودية التركية، وهو ما سيمنح الدور السعودي قدراً أكبر من التأثير في إدارة شؤون المنطقة والعمل على استقرارها، وخاصة العمل على استدامة الحركة التجارية الدولية بالتنسيق مع الشركاء الإقليميين، ما يمكن الجزم في ظله إجمالاً، بأن المحور السعودي/التركي/السوري، سيلعب دوراً بارزاً في مستقبل المنطقة والعالم، عبر الحليف الأمريكي، وهو الدور الذي سيترتب عليه غالباً، تمدد أدوار مقابل انكماش أدوار أخرى.
اقرأ أيضاً: النووي السعودي شيء والتطبيع شيء آخر.. ترامب يرتجل حلّ مفاجئ ضدّ الكيان!
شراكة موسعة
وختاماً، تكشف الاتفاقيات الجديدة بين واشنطن/الرياض، عن تعاون فاعل وموسع وطموح على كافة الصعد والمستويات، حيث ستتجاوز قيمة الاستثمارات السعودية في الأسواق الأمريكية حد الــ 600 مليار دولار، وربما تصل إلى تريليون دولار على الأرجح خلال السنوات القادمة.
في حين ستحقق المملكة العربية السعودية حداً جيداً من تطلعاتها في مجال التعاون العسكري مع الجانب الأمريكي؛ حيث نصت الاتفاقيات على قيام وزارة الدفاع الأمريكية بتعزيز وتحديث القدرات الدفاعية الخاصة بالقوات المسلحة السعودية، والموافقة على إمداد هذه القوات بالمعدات والطائرات الأمريكية الصنع وأنظمة الصواريخ الموجهة اللازمة، وذلك وفق صفقة تحديث عسكري تم تقديرها بأكثر من 3.4 مليار دولار، وبإجمالي صفقات دعم لوجيستي وعسكري ودفاعي تبلغ أكثر من 140 مليار دولار، وهو ما سيعزز قدرة المملكة على رفع كفاءة أنظمتها الجوية، وعلى توطين نسبة لا بأس بها من الصناعات العسكرية وخاصة صناعة الطائرات فوق أراضيها.
عموماً، ستشهد المصالح الاقتصادية المتبادلة بين الدولتين تطوراً محورياً؛ خاصة بعدما تم توقيع اتفاقية شراكة ثنائية على مستوى الاقتصاد والاستراتيجية، وعلى مستوى الدفاع والطاقة، إلى جانب قيام كل من وزارة الطاقة الأمريكية ووزارة الصناعة والثروة المعدنية السعودية، بالتوقيع على مذكرات تعاون مشتركة في مجال استثمار الموارد والثروات التعدينية، وجميع هذه الأوجه من الشراكة والتعاون، سيعود بالنفع المتبادل على العمالة والتوظيف لدى الجانبين، إذ ستوفر هذه الاتفاقيات الدفاعية والشراكات الاقتصادية آلاف الفرص والوظائف الجديدة المباشرة وغير المباشرة لكل من الشباب السعودي والأمريكي على السواء.
اقرأ أيضاً: كيف تطورت العلاقات الاقتصادية السعودية الأمريكية خلال مئة عام؟!