وسط عالمٍ يتقلّب على وقع أزمات الطاقة، والتوترات الجيوسياسية، والصراعات الاقتصادية، يبرز الاقتصاد السعودي كواحد من النماذج اللافتة للانتباه. فما بين موارد نفطية هائلة ومشاريع تنموية طموحة تقودها «رؤية 2030»، تسير المملكة على خُطى إصلاحات هيكلية تُعيد رسم ملامح اقتصادها، ساعية إلى تنويع مصادر الدخل وبناء قاعدة إنتاجية غير نفطية. وفي هذا السياق، جاءت زيارة بعثة صندوق النقد الدولي إلى المملكة ضمن مشاورات المادة الرابعة، محمّلة بتقييم شامل وتوصيات مدروسة، لتكشف عن مؤشرات صمود اقتصادي لافت في وجه الأزمات العالمية.
بعثة صندوق النقد إلى السعودية
في تقييمه الأخير، أكد صندوق النقد الدولي أن الاقتصاد السعودي أثبت قدرة كبيرة على الصمود أمام الصدمات العالمية، مع استمرار نمو الأنشطة غير النفطية بوتيرة متصاعدة. ورغم انخفاض عائدات النفط وتراجع بعض الإيرادات المرتبطة بالاستثمار، لم يتزعزع الاستقرار المالي. فقد بقي التضخم تحت السيطرة، وسجّلت معدلات البطالة تراجعاً تاريخياً، ما يعكس متانة سوق العمل وفعالية السياسات الاقتصادية.
وأشار الصندوق إلى أن السعودية، رغم تسجيلها لعجز مزدوج في الحساب الجاري والمالية العامة خلال عام 2024، لا تزال تتمتع بهوامش أمان مالية وخارجية واسعة، تتيح لها المناورة ومواصلة التوسع الاقتصادي دون تهديدات مباشرة على الاستقرار الكلي.
مؤشرات النمو: غير النفطي يتصدّر المشهد
وبحسب تقرير البعثة، فقد سجّل الناتج المحلي الإجمالي غير النفطي نمواً بنسبة 4.2% في عام 2024، مدفوعاً بالاستهلاك الخاص وزخم الاستثمار في القطاعات غير التقليدية. ورغم تراجع إنتاج النفط إلى 9 ملايين برميل يومياً، استمر النمو الكلي للناتج المحلي عند 1.8%، فيما أظهرت بيانات الربع الأول من عام 2025 نمواً غير نفطي بنسبة 4.9% على أساس سنوي، ما يعزز النظرة الإيجابية لمتانة الاقتصاد بعيداً عن النفط.
سوق العمل: مؤشرات قياسية وثقة متزايدة
من أبرز ملامح التحول الاجتماعي والاقتصادي التي أشاد بها الصندوق، الانخفاض الحاد في معدلات البطالة، إذ بلغ معدل بطالة المواطنين 7% في عام 2024، متجاوزاً هدف «رؤية 2030» المعدل البالغ 5%. وكان لافتاً أيضاً انخفاض معدلات بطالة الشباب والنساء إلى النصف خلال أربع سنوات، ما يعكس تحسناً شاملاً في كفاءة سوق العمل ومشاركة القوى البشرية في التنمية.
ورغم التحديات، ظل التضخم مستقراً عند 2.3% في أبريل 2025، مستفيداً من سياسة نقدية حذرة وفعالة، وربط العملة بالدولار، وارتفاع أسعار الفائدة الحقيقية. أما الحساب الجاري، فقد سجّل عجزاً طفيفاً بنسبة 0.5% من الناتج المحلي، نتيجة تراجع الإيرادات النفطية وزيادة الواردات والتحويلات، وهي عوامل قابلها نمو معتدل في قطاع السياحة.
وتم تمويل العجز عبر الاقتراض الخارجي واستخدام جزء من احتياطات البنك المركزي، التي بقيت رغم ذلك قوية بما يكفي لتغطية 15 شهراً من الواردات.
آفاق النمو: مشاريع كبرى وتحديات عالمية
يتوقع صندوق النقد أن يواصل الاقتصاد السعودي غير النفطي نموه ليبلغ 3.4% في عام 2025، بفضل المشاريع الاستراتيجية ضمن «رؤية 2030»، والطلب المحلي القوي، ونمو الائتمان. وعلى المدى المتوسط، يُنتظر أن يقترب النمو من 4% بحلول 2027، قبل أن يستقر عند 3.5% في 2030، مدفوعاً باستضافة فعاليات دولية، وتوسع الاستثمار المحلي والخارجي.
لكن الصندوق لم يغفل التحديات، محذراً من تبعات ضعف الطلب العالمي على النفط، وتزايد التوترات التجارية، والتي قد تؤدي إلى تراجع الإيرادات وارتفاع الدين وتكاليف التمويل.
وأوضح الصندوق أن التوسع في الإنفاق عام 2024 أدى إلى ارتفاع العجز المالي إلى 2.5% من الناتج المحلي، لكنه رأى أن الموقف المالي لا يزال مناسباً بالنظر إلى طبيعة المشاريع التنموية الجارية. وفي عام 2025، يُتوقع أن يرتفع العجز إلى 4.3%، قبل أن يبدأ بالانخفاض تدريجياً ليصل إلى 3.3% بحلول 2030، بفضل ترشيد النفقات وزيادة كفاءة الإنفاق العام.
وقد أوصى الصندوق برفع الإيرادات غير النفطية بنسبة 3.3% من الناتج المحلي غير النفطي، عبر سياسات منها: رفع الضرائب على الأراضي غير المطورة – توسيع قاعدة ضريبة القيمة المضافة – تسريع وتيرة رفع الدعم عن الطاقة، خصوصاً البنزين – مراجعة النفقات الجارية ذات العائد المالي المنخفض.
السياسة النقدية والقطاع المالي: استقرار مدعوم بالثقة
رحّب صندوق النقد بمتانة القطاع المصرفي السعودي الذي لا يزال يحتفظ بملاءة عالية وربحية جيدة، رغم ارتفاع كلفة التمويل. إلا أن النمو القوي في الائتمان يفرض تحديات تمويلية تستوجب تنويع مصادر التمويل، بما في ذلك اللجوء إلى الأسواق العالمية.
ودعا الصندوق إلى متابعة مراجعة الأدوات الاحترازية، وضمان استقرار السياسات النقدية، مع الحفاظ على اتساق سعر الفائدة مع نظيره الأميركي.
كذلك، أثنى الصندوق على الجهود الإصلاحية التي تبنّتها السعودية في مجالات سوق العمل، والحوكمة، وتنظيم الشركات، وتحديث نظام الاستثمار. واعتبر أن هذه الإصلاحات تضع الأساس لاقتصاد متنوع ومستدام، خصوصاً مع التركيز على: تعزيز رأس المال البشري عبر التدريب وتطوير المهارات – دعم الرقمنة ودمج الذكاء الاصطناعي في الخدمات العامة – تسهيل الوصول إلى التمويل – استقطاب الاستثمار الخاص عبر سياسات صناعية تكاملية.
وأكد الصندوق أن السياسات الصناعية يجب أن تُعزز لا أن تحلّ محل الإصلاحات الهيكلية، مع التركيز على جذب رؤوس الأموال لا مزاحمتها.
ختاماً، يمكن القول إن زيارة صندوق النقد الدولي للمملكة جاءت في لحظة حساسة عالمياً، لكنها كانت شاهدة على ديناميكية اقتصادية سعودية مختلفة عن السابق. اقتصاد يُدار بسياسات متوازنة، ومشاريع تنموية ضخمة، وإصلاحات تؤسس لعقود قادمة. ومع استمرار هذه الرؤية، تبقى المملكة في موقع جيد ليس فقط للصمود، بل للقيادة الإقليمية في مجالات الاقتصاد والتنمية المستدامة.
اقرأ أيضاً: لماذا أصبحت السعودية محطة الأثرياء الجدد لعام 2025؟