في زمنٍ تتداخل فيه لغة الصواريخ مع نداءات الدبلوماسية، وتضيع فيه الحقيقة بين ضجيج الطائرات والبيانات النارية، برزت المملكة العربية السعودية كلاعبٍ غير تقليدي في مشهدٍ متوتر بين قوتين من أطراف الإقليم: «إسرائيل» وإيران. لم ترفع الرياض صوتاً للتهديد، ولم تُشهِر سلاحاً في وجه أحد، لكنها كانت هناك، في الخلفية الهادئة، تمارس نوع من أنواع التأثير: تصنع التهدئة.. السفير الإيراني يخرج عن صمته ويكشف العديد من الحقائق حول العلاقة ما بين السعودية وإيران والحرب مع «إسرائيل».. فمن هو وماذا قال؟
الحرب مع «إسرائيل»: السفير الإيراني يعود بخبرة ثلاثة عقود
لم يكن اختيار الدكتور علي رضا عنايتي لمنصب سفير إيران في الرياض وليد المصادفة. فالرجل الذي بدأ مسيرته الدبلوماسية في جدة عام 1990، ثم تولى منصب القائم بالأعمال في الرياض مطلع الألفية، عاد بعد أكثر من عشرين عاماً ليقود واحدة من أهم البعثات الإيرانية في المنطقة. هذه العودة لم تكن مجرد استعادة لعلاقات مقطوعة، بل كانت تتويجاً لتاريخ طويل من التفاعل مع الشأن الخليجي والخبرة في دهاليز الدبلوماسية الإقليمية.
ومنذ توقيع اتفاق استئناف العلاقات بين السعودية وإيران في العاشر من مارس 2023، تحققت – وفقاً لعنايتي – إنجازات تعادل حصيلة سنوات. فقد فتحت السفارات، وتوسّعت الحركة الدينية والسياحية، ووُضعت لبنات لتعاون اقتصادي واعد. السفير الإيراني لم يُخفِ إعجابه بسرعة التطورات، مؤكداً أن العلاقات تسير وكأن الانقطاع لم يكن، ما يعكس – حسب وصفه – «جوهراً راسخاً» في العلاقات الثنائية.
مواقف «مشرفة» في زمن التصعيد
وفي لقاء له مؤخراً، توقّف السفير عند التصعيد العسكري الأخير بين «إسرائيل» وإيران، ووصف الاعتداءات الإسرائيلية بـ “السافرة”، خصوصاً أنها وقعت بينما كانت طهران منخرطة في مفاوضات غير مباشرة مع واشنطن. اللافت في هذا السياق كان الموقف السعودي، الذي رآه عنايتي «مشرفاً» وداعماً للتهدئة. فقد تلقى وزير الخارجية الإيراني أول اتصال من نظيره السعودي، تبعه بيان رسمي من الرياض، ثم اتصال مباشر من ولي العهد الأمير محمد بن سلمان بالرئيس الإيراني لإدانة الاعتداءات.
وأبدى السفير عنايتي تقديره الكبير لولي العهد السعودي، مشيراً إلى أن الأمير محمد بن سلمان «كان دائماً معنا» في اللحظات الحرجة، ليس فقط عبر بيانات الإدانة، بل من خلال اتصالات مباشرة لعبت دوراً في منع تفاقم الأوضاع. وأضاف: “جهود المملكة في الضغط لمنع التصعيد نُظر إليها في طهران كخطوات مسؤولة تستحق التقدير”.
زيارة خالد بن سلمان لطهران: “نقطة انعطافة تاريخية”
ووصف السفير زيارة وزير الدفاع السعودي الأمير خالد بن سلمان إلى طهران بأنها لحظة مفصلية في تاريخ العلاقات الثنائية، مؤكداً أن اللقاءات التي جرت مع الرئيس الإيراني والمرشد الأعلى أوجدت شعوراً بأن البلدين شريكان في صياغة مستقبل الإقليم. وتابع قائلاً: “نحن نخطط للبناء على نتائج هذه الزيارة لتحويل العلاقات من مستوى روتيني إلى علاقات استراتيجية جذرية”.
ولم تقتصر مؤشرات التحسن على النخبة السياسية، بل انعكست على التبادل البشري أيضاً. فقد أشار عنايتي إلى أن نحو 400 ألف إيراني زاروا السعودية خلال عام واحد، منهم أكثر من 200 ألف معتمر. هذا الرقم، وفق تعبيره، يعكس “إقبالاً شعبياً لافتاً ويعزز جسور التفاهم الحضاري والديني بين الشعبين”.
الاقتصاد والتجارة… أفق واسع ينتظر التفعيل
وعلى الرغم من التقدم السياسي والديني، أقر السفير بأن العلاقات الاقتصادية لا تزال بحاجة إلى مزيد من الجهود لتأخذ موقعها الطبيعي. فقد أشار إلى وجود عدة اتفاقيات قيد النقاش، من بينها اتفاق لتشجيع الاستثمار المتبادل، وآخر لتفادي الازدواج الضريبي، بالإضافة إلى مشروع اتفاق للنقل البري يربط شمال الخليج بآسيا الوسطى، مروراً بالمملكة وسلطنة عمان.
كما أوضح عنايتي أن بلاده تؤمن بنموذج أمني إقليمي يرتكز على التعاون الاقتصادي والثقافي بدلاً من التحالفات العسكرية. وفي رده على من يتهم إيران بلعب دور مهدد للاستقرار، قال: “نحن لسنا دخلاء على الإقليم، بل جزء منه. وإذا حدثت خلافات سياسية فهي لا تفسد للود قضية، ويمكن تجاوزها بالحوار”. وكرر السفير التأكيد على أن أمن المنطقة يجب أن يكون “شاملاً وغير مجزأ”، وأن التنمية هي مفتاح الاستقرار الحقيقي.
إيران والسعودية… شراكة لا تنافس
واختتم السفير حديثه بالتشديد على أن بلاده لا تسعى للهيمنة أو المنافسة، بل لشراكة عادلة مع جيرانها، وخص بالذكر السعودية التي وصف دورها بـ “المركزي”. وأعرب عن أمله في أن تتحول هذه العلاقة إلى نموذج يُحتذى به في الإقليم، مؤكداً أن “التاريخ قد يمنحنا فرصة واحدة لبناء شرق أوسط مختلف… ويبدو أن هذه الفرصة الآن”.
اقرأ أيضاً: صندوق النقد في بعثة إلى السعودية.. ما الهدف وإلامَ توصّل؟!