حددت الأمم المتحدة يوم الثالث من ديسمبر يوماً عالمياً سنوياً للاحتفاء بالأشخاص من ذوي الإعاقة والاحتياجات الخاصة، وهو اليوم الذي تم تحديده لأول مرة عام 1992 أي منذ إحدى وثلاثين سنة.
وبدورها تحرص الغالبية العظمى من دول العالم على استغلال وتوظيف هذه المناسبة في تعزيز المكانة الاجتماعية والاقتصادية والإنسانية لهذه الفئة المجتمعية التي يعاني معظمها من الإقصاء والتهميش على مستويات عدة أبرزها المشاركة السياسية والثقافية، إلى جانب معاناتها من أوضاعها المعيشية والصحية الخاصة، والتي تفرض عليها المزيد من المعاناة والألم.
كتب: محسن حسن
وعلى مدار سنوات عديدة ماضية، لم تتخل المملكة العربية السعودية يوماً ما، عن بذل كافة الجهود الرسمية والشعبية الكفيلة بتحقيق مكانة اجتماعية عادلة وكريمة للأشخاص من ذوي الإعاقة، بحيث يصبحون على درجة متساوية مع جميع الفئات المجتمعية الأخرى، من حيث ضمان حصولهم على الحقوق الشاملة، وهو ما تفعله القيادة السعودية، ليس انطلاقاً من إلهامات المواثيق والأعراف الدولية، وإنما تماشياً مع النهج الإسلامي القويم، الداعي إلى وجوب الاهتمام بجميع الفئات المجتمعية، وعلى رأسها كبار السن والعجزة وأصحاب الاحتياجات الخاصة.
ومنذ انطلاق رؤية المملكة 2030 ارتقت استراتيجية التطوير المجتمعي السعودية بدعائم التعزيز والمساندة لذوي الإعاقة، إلى الدرجة التي قررت خلالها القيادة السياسية أن تصبح شؤون هذه الفئة ركيزة أساسية ومحورية في أي خطوة من خطوات التطوير الحالية والمستقبلية، حيث نصت وثيقة الرؤية على تعهدها بما نصه (سنمكن أبناءنا من ذوي الإعاقة من الحصول على فرص عمل مناسبة، وتعليم يضمن استقلاليتهم واندماجهم، بوصفهم عناصر فعالة في المجتمع، كما سنمدهم بكل الأدوات والتسهيلات التي تساعدهم على تحقيق النجاح) وهو ما تمت البرهنة على جديته في السنوات الماضية، من خلال إنجازات عدة في صالح هذه الفئة، وكذلك من خلال ما تمخضت عنه جلسة مجلس الوزراء السعودي المنعقدة مؤخراً في قصر السلام بجدة، وتحديداً خلال شهر أغسطس الماضي، عندما قام خادم الحرمين الشريفين، الملك سلمان بن عبد العزيز، بإقرار ما يعرف بــــ (نظام حقوق الأشخاص ذي الإعاقة) والذي ينص صراحة على منح هؤلاء الأشخاص حقوقاً جديدة غير منقوصة، منها حق التمكين والتدريب، والحصول على الخدمات، والاستقلالية الاقتصادية، وفق أعلى مستويات الجودة ومعاييرها المقدمة للآخرين من الأسوياء.
ويعد الإقرار الجازم والصارم باعتبار ذوي الاحتياجات الخاصة أساساً متيناً من أساسيات تخطيط وتطوير النظم الصحية السعودية، بل واعتبارهم معياراً حيوياً من معايير تقييم هذه النظم من حيث القوة أو الضعف، من أهم مظاهر الاهتمام القيادي الذي ترتب عليه ظهور أهداف وحقوق جديدة لأصحاب الهمم، لعل أهمها توجه المؤسسات والشركات والهيئات السعودية المختلفة لدراسة وفهم قضاياهم الحقوقية، وتذليل الصعاب والتحديات التي تحول دون تمكينهم إنسانياً ومعيشياً بشكل مستقل، ومساعدتهم على تعزيز الثقة بالنفس عبر إشراكهم في كافة الأنشطة والسماح لهم بالتعبير عن قدراتهم ومواهبهم الخاصة.
كما أن (سياسات مكافحة التمييز) ضمن الاستراتيجية الوطنية للتطوير بالمملكة، ضمنت منح ذوي الاحتياجات الخاصة حقوقاً متساوية مع الجميع ضمن نظام الرعاية الصحية الشاملة، والذي نجح مؤخراً في تحقيق إنجازات غير مسبوقة صحياً في المجتمع السعودي، بعد أن ارتفع متوسط أعمار السعوديين ليصبح 74 عاماً، متجاوزاً المعدل العالمي البالغ 70 عاماً، مقابل تراجع وفيات الرضع بنسبة تزيد على 95% بالتزامن مع ارتفاع مستويات التطعيم بنسبة فاقت 135% خلال العقود الثلاثة الماضية.
و لا تقف الخدمات المقدمة لذوي الإعاقة في المملكة العربية السعودية، فقط عند حدود الجوانب الصحية المشار إليها، وإنما تتجاوزها إلى أنماط خدمية أخرى تشهد بها خريطة التنمية البشرية الجديدة في البلاد؛ فبحسب التصريحات الرسمية الصادرة عن وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية، تمتلك السعودية حالياً منظومة فاعلة للتأهيل الاجتماعي الشامل والموجه لذوي الإعاقة، قوامها أكثر من 200 مركز حكومي وخاص، بالإضافة لأكثر من 75 جمعية خيرية، تقوم جميعها بمهمة الدعم المتكامل لهذه الفئة ولذويها من الأسر والعائلات، من تدريب مهني ومهاري وتثقيف أسري وإرشاد نفسي وبيئي إلى جانب العديد من البرامج والأنشطة الرياضية والبدنية والترويحية، وذلك على مدار ساعات اليوم، ضمن استراتيجية شاملة، تهدف إلى تأهيل عناصر هذه الفئة مهنياً وتعليمياً، تمهيداً لدمجهم وظيفياً واقتصادياً في المجتمع، وتحويلهم من فئات عاطلة إلى فئات منتجة وفق تقييمات دقيقة لقدراتهم وحالاتهم، وهو ما أفضى خلال العام الحالي 2023، إلى تأهيل أكثر من خمسة آلاف منهم لسوق العمل المحلية.
وقد حرصت حكومة المملكة مؤخراً على تعزيز منظومة الدعم المالي المقدم لذوي الهمم، وذلك من خلال برامج ومبادرات عديدة للدعم والإعانات الاجتماعية، تبنتها الخطط والاستراتيجيات المستدامة من أجل تحريك عجلة الاقتصاد عبر النهوض بمستوى التنمية البشرية للسعوديين بصفة عامة، وللفئات من ذوي الإعاقة بصفة خاصة؛ حيث استفاد أكثر من 850 ألفاً من عناصر هذه الفئة من تلك البرامج والمبادرات، عبر حصولهم على فرص حقيقية للدعم المالي المباشر أو غير المباشر.
وتشجيعاً للتفاعل المجتمعي المنشود تحقيقه تجاه الفئات المختلفة من ذوي الاحتياجات الخاصة، أطلقت وزارة التنمية البشرية السعودية، مبادرات إضافية لتحسين جودة الخدمات في البيئات الاجتماعية الحاضنة لهذه الفئات، وبالطبع استحوذت مراكز التأهيل المهني الشاملة على النصيب الأكبر من تلك المبادرات؛ حيث تم إتاحة أكثر من ثلاثة آلاف فرصة عمل تطوعية للانضمام لهذه المراكز، الأمر الذي أسهم في تضييق الفجوة بين مجتمع الأسوياء والأشخاص من ذوي الإعاقة، وفتح المجال مشرعاً أمام ظهور الدعم المجتمعي؛ الطوعي والخيري تجاه هؤلاء الأشخاص، بشكل يقلل كثيراً من معاناتهم، ويعينهم على الاندماج والعمل والإنتاج.
وبشكل إجمالي، سنجد أن حجم الدعم الحكومي والأهلي المقدم لذوي الاحتياجات الخاصة، يزداد ويتنامى بشكل مطرد في المملكة، وهو ما يعكس الاهتمام البالغ بهذه الفئة، خاصة بعد صدور القانون والنظام المعني بإدارة شؤونها في المجتمع السعودي ومؤسساته المختلفة؛ فعلى مستوى الدعم الحكومي مثلاً، بلغت أعداد المشمولين بالدعم المالي حتى العام الحالي 2023 ما يقرب من 420 ألف شخص، كما استفاد أكثر من 900 ألف شخص من برامج وخدمات التصنيف والتقييم لدرجات الإعاقة، والمقدمة من وزارة التنمية البشرية، بينما يتمتع أكثر من 180 ألفاً من ذوي الاحتياجات الخاصة من السعوديين بالدعم المقدم عبر بطاقة(تسهيلات) الإلكترونية، والمعنية بتخفيف الأعباء المالية عن هذه الفئة خلال استخدام مرافق ووسائل النقل المختلفة، ويتمتع كذلك ما يزيد على 285 ألفاً من الفئة ذاتها، بالإعفاء الممنوح لهم من رسم التأشيرة خلال السفر، في حين يستفيد جميع المنتمين لهذه الفئة من كافة التطبيقات التقنية وجهود الأتمتة التي تقوم بها الوزارة، وذلك في خدمات متعددة مالية وإدارية وعينية، بالإضافة لخدمات التحديث والتصنيف، والتي يستفيد منها أكثر من 265 ألف شخص من ذوي الإعاقة.
علماً أن قيام الوزارة باعتماد الدليل الموحد للخدمات الاجتماعية المقدمة لذوي الاحتياجات الخاصة في مراكز التأهيل المختلفة، ساعد إلى حد كبير، في تذليل وإزاحة الكثير من الصعوبات السابقة التي كانت تواجه عناصر هذه الفئة وتسبب لهم الكثير من المعاناة.
ومن الجدير بالذكر في ختام هذا العرض، أنه إذا كان الاهتمام السعودي بضبط السلوك المجتمعي والحكومي، وتوجيهه توجيهاً إيجابياً نحو تقديم الرعاية الكاملة والمتكاملة لذوي الإعاقة من السعوديين، ينبع من اعتبارات إنسانية طوعية بين الجميع حكومة وشعباً، إلا أنه ينبع أيضاً من ارتفاع نسبة الإعاقة بالنسبة لعدد السكان، والتي تزيد على 7%، بواقع 3.7% هي نسبة الإعاقة لدى الذكور، و3.4% هي نسبة الإعاقة لدى الإناث، حيث تستحوذ العاصمة الرياض على العدد الأكبر من هذه الفئة بنسبة تزيد على 58.12% وهي النسبة الأعلى بين أماكن ومدن المملكة، بينما تستحوذ نجران على العدد الأقل، بنسبة تصل إلى 0.86%، وهي تقديرات سابقة تعود للفترة من 2017-2018، وبالتالي يظهر أهمية ترقية العناية الشاملة بهذه الفئة المجتمعية، وهو ما لم تقصر فيه المملكة في السابق عندما رحبت عام 2008 بالتوقيع على الاتفاقية الدولية لحقوق ذوي الإعاقة، كما لم تقصر فيه حالياً رؤية 2030، والتي وضعت ضمن أولوياتها حماية ذوي الإعاقة من الإيذاء عبر إقرار قانون الحماية من الإيذاء، وتوفير حياة كريمة لهم من خلال المنح والمساعدات الشهرية، إلى جانب تأهيلهم نفسياً وبدنياً وإشراكهم كعناصر منتجة وفاعلة في المجتمع.