وسط عالم يتقلب تحت وطأة الأزمات الاقتصادية، وصدمات الديون، وقلق المستثمرين من المجهول، تبدو الحاجة إلى ملاذات آمنة أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى. ومع اتساع رقعة المخاطر في الاقتصادات الناشئة وتذبذب الثقة في سنداتها، تظهر المملكة العربية السعودية كلاعب استثنائي، لا لأنها تملك الاحتياطيات النفطية الهائلة فحسب، بل لأنها تقدم سرداً اقتصادياً قائماً على الانضباط المالي، ورؤية إصلاحية طويلة الأمد. وفي هذا السياق، باتت السندات السعودية خياراً مفضلاً لدى كبار المستثمرين العالميين، ليس فقط كمصدر للعائد، بل كمرآة لاستقرار نادر في زمن التقلبات.
السندات السعودية: سوق ناشئة بمواصفات متقدمة
رغم تصنيفها ضمن الأسواق الناشئة، فإن السعودية تقدم تجربة مالية تشبه في نضجها وتجربتها الاقتصادات المتقدمة. وفي حديث لها مؤخراً، أكدت كارين خير الله (Karine Khairallah)، رئيسة قسم استراتيجية الاستثمار والبحوث لمنطقة أوروبا والشرق الأوسط وأفريقيا في شركة State Street Global Advisors – إحدى أكبر شركات إدارة الأصول في العالم بأصول تفوق 4.6 تريليون دولار – أن المملكة تقدم «سرداً اقتصادياً كلياً مقنعاً» يرتكز على قاعدة مالية متينة واستراتيجية نمو طموحة.
وأضافت خير الله أن نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي في السعودية لا تزال منخفضة نسبياً، إذ بلغت 29.9% حتى ديسمبر الماضي، وهي أقل بكثير من المتوسط العالمي، ما يعزز ثقة المستثمرين بسيادتها المالية وقدرتها على سداد التزاماتها دون ضغوط.
نمو مدفوع بالإصلاحات..
بعيداً عن الصورة النمطية المرتبطة بالنفط، تشير بيانات الربع الأول من عام 2025 إلى أن الاقتصاد السعودي نما بنسبة 3.4% على أساس سنوي، بفضل نمو الأنشطة غير النفطية بنسبة 4.9%، والتي أصبحت المحرك الرئيسي للناتج المحلي الإجمالي.
ويمثل هذا التحول في تركيبة الاقتصاد، بدعم من رؤية السعودية 2030، نقطة جذب كبيرة للمستثمرين، حيث يعكس جدية الدولة في تنويع مصادر الدخل وبناء اقتصاد مرن ومستدام.
«رؤية 2030».. رافعة سوق الدين
لم تكن «رؤية 2030» مجرد خطة طموحة لتنمية السعودية، بل أصبحت محفزاً رئيسياً لتطوير سوق السندات والصكوك في المملكة. تقول خير الله إن الحكومة وصندوق الاستثمارات العامة قاما بزيادة إصدارات أدوات الدين لتمويل مشاريع استراتيجية كبرى مثل نيوم، بما في ذلك التمويل الأخضر، مما أدى إلى تشكيل منحنى عائد متنوع يدعم عملية تسعير شفافة ويعزز نضج السوق.
ويُعد إدراج السندات السعودية في مؤشر J.P. Morgan للأسواق الناشئة عام 2019 علامة فارقة، إذ أتاح للسوق الوصول إلى قاعدة أوسع من المستثمرين الدوليين وزاد من عمقها وسيولتها.
تصنيفات ائتمانية تعزز الثقة
ما يدعم جاذبية السندات السعودية أيضاً هو تحسّن التصنيفات الائتمانية الصادر عن كبريات وكالات التصنيف. في نوفمبر 2024، رفعت Moody’s تصنيف المملكة إلى A1، بينما رفعت Standard & Poor’s تصنيفها إلى A+ في مارس 2025. وهذه التصنيفات تضع السعودية ضمن أعلى درجات الجدارة الائتمانية في الأسواق الناشئة، وتعكس ثقة المؤسسات العالمية في مسارها المالي والإصلاحي.
وعندما تُدرج سندات دولة ما في مؤشرات عالمية مثل J.P. Morgan Emerging Markets Bond Index، فإن ذلك يجبر الصناديق الاستثمارية المرتبطة بهذه المؤشرات على تخصيص حصة من محافظها لتلك الدولة.
وفي حديثها، توضح «خير الله» أن هذه الخطوة لا تضمن فقط تدفقات رأسمالية مستقرة، بل توسّع من قاعدة المستثمرين لتشمل كيانات ضخمة كصناديق التقاعد وصناديق الثروة السيادية، ما يسهم في تحسين السيولة وتخفيض تكاليف الاقتراض على المدى الطويل.
الدَّين السعودي… بين الحاجة والانضباط
رغم أن السعودية زادت من إصداراتها للدَّين لتمويل مشاريع التنمية، إلا أن نسبة الدين لا تزال عند مستويات مطمئنة، كما تؤكد خير الله. ومع أن معدلات الفائدة الحالية تُسهم في إبقاء كلفة خدمة الدين منخفضة، فإن المخاطر المستقبلية تكمن في أي ارتفاع حاد لأسعار الفائدة أو استمرار التوسع في الاقتراض دون نمو اقتصادي مكافئ.
لذلك، ترى خير الله أن الحفاظ على الاستدامة المالية يتطلب مواصلة جهود تنويع الاقتصاد وتعزيز الإيرادات غير النفطية.
اقرأ أيضاً: «سيسكو لايف 2025»: السعودية منصّة الإقلاع نحو عالم ذكي!
ختاماً، يمكن القول أنّه مع بحث المستثمرين عن الأمان في ظل عالم مليء بالتحديات، تبرز السعودية كوجهة جذابة لا تنبع قوتها من مواردها الطبيعية فقط، بل من التزامها بالإصلاح والانضباط المالي وتطوير السوق. ولم تعد السندات السعودية مجرد أدوات تمويلية اليوم، بل أصبحت مرآة لاقتصاد يتحول، ولسوق تنضج، ولسياسة مالية تبني جسور الثقة مع العالم.
وإذا كانت الأسواق الناشئة غالباً ما ترتبط بمخاطر مرتفعة، فإن المملكة تقدم نموذجاً مغايراً: سوق ناشئة، لكن بثقة سيادية، واستقرار يشبه الاقتصادات المتقدمة، ورؤية تجعل من أدوات الدين السعودية أكثر من مجرد أوراق مالية…