ترتفع الرافعات في الأفق وتتمدّد الطرق والجسور، ومع ذلك يلحّ سؤال في ذهن المستثمر العادي قبل الخبير: لماذا يواصل جزء معتبر من الرساميل السعودية رحلته إلى الخارج بدل أن يستقر في الداخل؟ ليس لأن السوق المحلية فقيرة بالفرص، بل لأن معادلة العائد والمخاطر والسيولة وتوقيت التنفيذ ما زالت تدفع كثيرين لإرجاء «الرهان المحلي» أو توزيعه على أسواق أعمق وأسرع في التحوّل. وهذا السؤال لا يتقصّد جلد الذات بقدر ما يسعى إلى قراءة متوازنة: ما الذي يدفع الأموال إلى الهجرة المؤقتة؟ وما الذي يعيدها بثقة أكبر؟
خارطة المخاطر أمام استثمار الأموال السعودية محلياً
ارتباط الريال بالدولار يجعل كلفة التمويل تتحرّك مع دورة الفائدة الأميركية؛ ومع تشدّد السياسة النقدية في 2024 وبداية 2025، ظلّ النطاق الفعلي للفائدة لدى البنك المركزي السعودي بين 4.5% و5.0%، ما رفع عتبة العائد المطلوب على المشاريع طويلة الأجل وأبطأ قرارات الإغلاق المالي في بعض القطاعات.
وهذا لا يمنع تنفيذ مشاريع نوعية، لكنه يدفع جزءاً من المحافظ إلى تنويع خارجي مؤقّت ريثما تنخفض الكلفة. في المقابل، تُظهر الأرقام أن الاستثمارات السعودية إلى الخارج ارتفعت إلى 39 مليار ريال في 2024، وهي إشارة إلى نشاط مبرمج في «توزيع المخاطر» أكثر من كونها تصويتاً ضد السوق المحلية.
سوق محلية أعمق… لكن «مخارج» محدودة للمستثمر الكبير
القيمة السوقية للتداول بلغت نحو 2.7 تريليون دولار بنهاية 2024، مع تحسّن السيولة وارتفاع متوسط أحجام التداول، ما يعكس عمقاً متنامياً وقدرة أكبر على تمويل الشركات. ومع ذلك، يبقى عمق «مخارج الاستثمار»—عبر صفقات الطروحات الثانوية أو صفقات الملكية الخاصة الكبيرة—أضيق نسبياً من أسواق راسخة، فتفضّل بعض الصناديق بناء مراكز عالمية إلى أن تتّسع أدوات الخروج المحلية وتمتد سلاسل التوريد.
والتقييمات ليست مبالغاً فيها تاريخياً (متوسط مضاعف ربحية تقدّمي يدور في منتصف المراهقات)، لكن قلة البدائل السائلة في بعض القطاعات تحدّ من سرعة إعادة تدوير رأس المال داخلياً.
دور «الصندوق السيادي»… منافسة أم رافعة؟
الصندوق السيادي (PIF) يظل المحرّك الأبرز لتوسعة القاعدة الإنتاجية؛ تقارير تحليلية عديدة تشير إلى أن أكثر من 70% من استثماراته داخل المملكة، فيما يواصل بناء شراكات خارجية انتقائية لالتقاط التقنيات والخبرات. وهذا والتركيز المحلي لم يمنع النقد البنّاء: صندوق بحجم هائل قد «يزاحم» بعض الاستثمارات الخاصة إذا تسارعت وتيرة الإنفاق من دون إتاحة مساحة تمويلية كافية للقطاع الخاص.
لهذا شدّد تقرير مشاورات صندوق النقد 2024 على «معايرة» برامج الاستثمار تجنباً لمخاطر السخونة والازدحام. الحقيقة الوسط: PIF يفتح قطاعات جديدة ويتحمّل المخاطر الأولية، لكن المطلوب دوماً آليات تضمن تزاحماً إيجابياً لا يطرد الرساميل الخاصة.
من الفكرة إلى التمويل: عنق الزجاجة اسمُه الشركات الصغيرة والمتوسطة
الحلقة الأضعف تاريخياً كانت تمويل الشركات الصغيرة والمتوسطة، إذ شكّلت قروضها نحو 9.4% من محافظ البنوك في 2024، مقارنة بهدف 20% بحلول 2030 ضمن برنامج تطوير القطاع المالي. الفجوة تضيق ببطء مع نمو التمويل غير البنكي ورقمنة الائتمان، لكنها ما زالت تؤخر تحوّل الأفكار إلى شركات قادرة على امتصاص المدّ الاستثماري.
وحين تتأخر قنوات التمويل المبكر والنمو، يبحث رأس المال عن منصات أوسع في الخارج. في المقابل، سجّل مشهد رأس المال الجريء طفرة لافتة مع تمويل قياسي في 2023، ما يوحي بممرّ محلي آخذ في الاتساع إذا استمر الزخم.
ما الذي يغيّر المعادلة ويستعيد «استثمار الأموال السعودية»؟
ثمة ثلاث رافعات عملية: أولاً، تعميق أدوات الخروج المحلية (سوق الطروحات الثانوية، أسواق الدين الخاصة، وصناديق الائتمان) لتعجيل إعادة تدوير رأس المال. ثانياً، استقرار تشريعي يوازن بين الانفتاح وحماية الأمن الوطني—خطوة عزّزها «نظام الاستثمار» الجديد في 2024 لكنها تحتاج ديمومة في التطبيق وتوقعية في القرارات.
ثالثاً، تقليص فجوات التنفيذ عبر سلاسل توريد محلية ومهارات متخصصة تمكّن القطاع الخاص من اللحاق بإيقاع المشروعات العملاقة، فتتحوّل «الهجرة المؤقتة» للأموال إلى عودة دائمة. عندها يصبح السؤال معكوساً: ليس لماذا تخرج الأموال، بل كيف نستقبل عودتها وقد ازدادت خبرةً وتنويعاً.
اقرأ أيضاً: غسيل الأموال في السعودية: العقوبات والتشريعات!

