في عالمٍ يتهاوى فيه ميزان العدالة الدولية وتتآكل فيه مصداقية الشعارات الغربية حول النظام الدولي القائم على القوانين/القواعد، خرج الأمير تركي الفيصل، الرئيس الأسبق لجهاز الاستخبارات السعودي وسفير المملكة الأسبق في كل من واشنطن ولندن، بمقال ناري حمل كثيراً من الوضوح السياسي والجرأة الدبلوماسية، ليضع فيه إصبعه على الجرح الملتهب في الشرق الأوسط: النووي الإسرائيلي، الازدواجية الغربية، والحرب على إيران. وفي مقاله المنشور بتاريخ 26 يونيو/حزيران 2025، لم يتردد الأمير في كسر حاجز الصمت الذي لطالما أحاط بمفاعل «ديمونا» الإسرائيلي، ليطرح سؤاله الصارخ: لماذا لم تُقصف المنشآت النووية الإسرائيلية كما قُصفت مواقع أخرى بحجة الخطر النووي؟
أين القنابل الموجهة على «ديمونا»؟
استهل الأمير تركي الفيصل مقاله بتساؤل استنكاري لاذع: «في عالم تسود فيه العدالة، كنا سنشهد قاذفات B2 الأمريكية تُمطر مفاعل ديمونا وغيره من المواقع النووية الإسرائيلية بالقنابل الخارقة للتحصينات». وهذا الاستهلال لم يكن مجرد نداء عاطفي، بل اتهام مباشر للمجتمع الدولي بازدواجية المعايير، مذكراً أن إسرائيل تمتلك رؤوساً نووية خارج إطار معاهدة عدم الانتشار النووي، دون أن تخضع لأي رقابة من الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
كما أشار الفيصل إلى أن «إسرائيل»، بخلاف إيران، لم توقّع على معاهدة عدم الانتشار، ولم تسمح لأي جهة دولية بتفتيش منشآتها، وهو ما يجعل الصمت الغربي تجاهها مثار شك وتساؤل مشروع.
«إسرائيل» وإيران.. معايير مزدوجة
انتقد الأمير تصريحات الزعماء الغربيين الذين يبررون الهجوم «الإسرائيلي» على إيران استناداً إلى تصريحات إيرانية عدائية ضد «إسرائيل»، مشيراً في الوقت ذاته إلى أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ومنذ عام 1996، لم يتوقف عن الدعوة لتدمير النظام الإيراني.
ورأى أن الاستقواء الإسرائيلي بالدعم الغربي شجّع تل أبيب على تنفيذ «عدوان غير قانوني» ضد إيران، تماماً كما فعلت في الأراضي الفلسطينية على مدى عقود، وسط صمت دولي أو دعم ضمني.
وفي هذا السياق، اعتبر الأمير أن ما يحدث يكشف انهيار ما يسمى بـ «النظام الدولي القائم على القواعد»، الذي طالما تغنّى به الغرب، لكنه سقط في اختبار النزاهة أمام الشعوب العربية.
الموقف العربي.. ضمير مستيقظ
رغم سوداوية المشهد الدولي، حرص الأمير تركي على إبراز الموقف العربي المبدئي من هذه النزاعات، مؤكداً أن الموقف الشعبي والرسمي العربي، الرافض للعدوان والداعي للسلام العادل، يمثل نموذجاً لما يجب أن تكون عليه المواقف الدولية الأخلاقية.
وشدّد على أن الملايين من أبناء الشعوب الغربية، من مختلف الديانات والأعراق، أظهروا وعياً أخلاقياً متقدماً من خلال دعمهم المتواصل للقضية الفلسطينية، وهو ما بدأ يُحدث تحولاً تدريجياً في مواقف بعض قادتهم السياسيين.
ترامب.. بين وعود السلام وطبول الحرب
وفي لهجة تحمل الكثير من التحدي والتحفّظ، انتقد الأمير تركي الفيصل قرار الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بإعطاء الضوء الأخضر لاستهداف ثلاث منشآت نووية إيرانية، معتبراً أن ترامب وقع في فخ نتنياهو الذي «ضلّله بانتصارات مزيفة وعدوان غير شرعي» على حدّ تعبيره.
وذكّر الأمير بموقف ترامب السابق عندما عارض غزو العراق قبل أكثر من عقدين، متسائلاً: أين ذهبت تلك الشجاعة السياسية الآن؟ ثم حذّر من تكرار سيناريو «النتائج غير المقصودة» التي اجتاحت العراق وأفغانستان، مؤمناً بأن إيران لن تكون استثناءً.
خيار السلام لا يزال ممكناً
رغم نبرة الانتقاد الحادة، أبقى الفيصل نافذة صغيرة مفتوحة، داعياً الرئيس ترامب إلى الاستماع إلى أصدقاء الولايات المتحدة في مجلس التعاون الخليجي، الذين «يريدون السلام كما يدّعي، وليس الحرب كما يفعل».
وأكّد أن هذه الدول تسعى لاستقرار المنطقة من خلال الحوار والدبلوماسية، وليس من خلال المغامرات العسكرية، مشدداً على ضرورة أن يرفض ترامب ازدواجية المعايير التي يتبعها كثير من الزعماء الغربيين.
كما أشار الأمير إلى تناقض صارخ في المواقف الغربية: ففي حين تُفرض العقوبات على روسيا بسبب غزوها لأوكرانيا، تُمنح «إسرائيل» الحصانة الكاملة وهي تقصف الفلسطينيين وتعتدي على دول الجوار.
وقال في هذا الصدد: «من المثير للسخرية أن القادة الغربيين يواصلون ترديد شعارات زائفة عن مبادئهم المعلنة، في وقت بدأت شعوبهم ترفض هذا النفاق، وتتحرك من أجل العدالة في فلسطين».
موقف شخصي.. على خطى فيصل
وفي ختام مقاله، أعلن الأمير تركي الفيصل عن قرار رمزي لكنه حاد في دلالاته: مقاطعة زيارة الولايات المتحدة حتى يرحل دونالد ترامب عن المشهد السياسي. واستشهد بموقف والده، الملك فيصل بن عبد العزيز، الذي رفض زيارة واشنطن بعد أن نكث الرئيس الأمريكي هاري ترومان بوعود سلفه روزفلت، وساهم في قيام «إسرائيل».
ختاماً، إن هذا الإعلان، من رجل كان يوماً ما حلقة الوصل الأقوى بين السعودية والولايات المتحدة، يحمل رسالة قوية بأن مواقف السعودية، شعباً وقيادة، لن تقبل بالاستسلام أمام تحولات خطيرة تُعيد رسم الشرق الأوسط على أنقاض المبادئ.
اقرأ أيضاً: غزة على طاولة الحوار مجدداً: اللجنة الخماسية تلتقي مبعوث ترامب