مدائن صالح: عندما تبوح الصخور بأسرار الحضارات!

تعدّ مدائن صالح إحدى المواقع التاريخية المهمة في المملكة العربية السعودية، سواء بفضل موقعها الجغرافي الإستراتيجي الذي كان قديماً نقطة وصل بين جنوب الجزيرة العربية وبلاد الشام والعراق ومصر، أو بفضل معالمها الأثرية الغنية والتي تشهد على حضارات عديدة تعاقبت عليها منذ قديم الزمان، كما أنها تحمل عدة روايات مشوقة عدة… في هذا المقال سوف نعود بالزمن لنتعرف على تاريخها الثري، وعلى أهم معالمها التي جعلت منها الموقع الأول في السعودية ضمن قائمة التراث العالمي لمنظمة اليونسكو.

أين تقع مدائن صالح؟

تقع على بُعد نحو 22 كيلومتراً شمال شرق مدينة العلا -التي تشهد تطوراً كبيراً ضمن أهداف رؤية السعودية 2030- و400 كيلومتر شمال غرب المدينة المنورة، كما تبعد حوالي 500 كيلومتر جنوب شرق مدينة البتراء في الأردن.

ويمتاز هذا الموقع بسماته الصحراوية اللافتة، حيث تنتشر التكوينات الصخرية بأشكال وأحجام متنوعة، وتزدان الصخور بألوان رملية حمراء وصفراء وبيضاء، كما تحيط به الكثبان الرملية من جميع الجهات.

اقرأ أيضاً: محمية عروق بني معارض: سحر الصحراء الحيّ!

 تاريخ عريق

مدائن صالح، أو كما تسمّى “الحِجر”، ورد ذكرها بهذا الاسم في معجم البلدان لياقوت الحموي، وفي اللغة، “الحِجر” هو ما يُحجَر عليه ويُمنع من الوصول إليه، ويُطلق أيضاً على العقل واللُّب، و”الحِجر” هو اسم ديار ثمود، وتقع في وادي القرى بين المدينة المنورة وبلاد الشام، ويروى إن “الحِجر” كانت تعرف بمدائن صالح أو قرى صالح.

عرفت المنطقة قديماً كذلك باسم “أجرا”، مثلما ذكرها المؤرخ والجغرافي اليوناني سترابو، بينما أشار إليها المؤرخ الروماني بلينيوس الأكبر في موسوعته التي نشرها ما بين عامي 77 و79 ميلادية باسم “هجرا”، أما الاسم المعروف اليوم، مدائن صالح، فقد بدأ استخدامه في بدايات العصر الإسلامي.

وبحسب الدراسات الأثرية، كانت مدينة الحِجر مسكونة منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد من قبل المعنيين الثموديين، فقد ورد ذكر هذه المنطقة وقصة قوم ثمود الذين عُرفوا بالقوة وكانوا ينحتون من الجبال بيوتاً في عدة سور من القرآن الكريم، كما جاء في الآية: ﴿وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ﴾.

أرسل الله إليهم نبيّه صالحاً عليه السلام، يدعوهم لعبادته وترك عبادة الأصنام، طلبوا منه آية ليؤمنوا، واشترطوا عليه أن يُخرج لهم ناقة من صخرة كبيرة، فاستجاب الله دعاء نبيّه وأخرج الناقة، فآمنوا مؤقتاً، ثم ارتدّوا عن دينهم وعقروا الناقة، متحدّين النبي بأن يأتيهم بالعذاب، فكان عقابهم أن أهلكهم الله بالصيحة.

وفي رواية أخرى يُقال غن قوم ثمود هم من فلول الهكسوس الذين طردهم الملك أحمس من مصر، وبعد استقرارهم في شبه الجزيرة العربية، بدأوا بنحت بيوتهم في الجبال على نمط القبور المصرية القديمة متأثرين بطباع المصريين، فقد كان يوجد بينهما علاقة ولكنها متقلقلة، ازدادت أو ضعفت بحسب التحالفات القبلية، ومن المرجح أن علاقة قوية ربطت بينهما منذ عصر الدولة الحديثة، خاصة بعد أن غزا سرجون الثاني (722–705 ق.م) مصر، ثم وجّه حملاته نحو شمال الحجاز حيث هزم الثموديين.

وبعد هزيمتهم ورحيلهم، استقر اللحيانيون في منطقة الحِجر خلال القرن التاسع قبل الميلاد، وفي القرن الثاني قبل الميلاد، جاء الأنباط وسيطروا على المدينة، وأسقطوا دولة بني لحيان، وحوّلوا بيوت الحجر إلى معابد ومقابر.

ومن المعتقد أن الأنباط هم أول من عمّر مدائن صالح بشكلها المنظم، وقد رجّح الباحثون أن أصلهم يعود إلى الجزيرة العربية، وصفهم المؤرخ ديودور الصقلي بأنهم بدو رحّل لا يعرفون الزراعة، ولا يشربون الخمر، ويعيشون في أرض وعرة صخرية. يُرجّح نسب الأنباط إلى نابت بن إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، وكانوا عرباً استخدموا اللغة الآرامية في كتاباتهم ونقوشهم، وشاركوا في عبادة بعض الأصنام المعروفة مثل اللات والعُزّى.

أسس الأنباط مملكة واسعة امتدت من عاصمتهم السياسية البتراء شمالاً، إلى الحِجر جنوباً، التي اتخذوا منها عاصمة تجارية لهم على طريق التجارة القديم… وقد ازدهرت مملكتهم حتى القرن الثاني الميلادي، إلى أن فقدوا سيطرتهم بعد أن احتل الرومان مدائن صالح عام 106 ميلادي، بقيادة كورفُس بالما بأمر من الإمبراطور تراجان.

وبعد ظهور الإسلام، عادت الحياة إلى مدائن صالح عبر طرق الحج القادمة من الشام ومصر، حيث أصبحت محطة رئيسية يستريح فيها الحجاج لمدة يومين ليتزودوا بالماء والطعام، وقد ازدهرت الحركة التجارية فيها في تلك الحقبة، وذكرها العديد من الرحالة مثل ابن بطوطة والمقدسي وياقوت الحموي.

اقرأ أيضاً: «قرية الفاو» حكايات تاريخية منسية ترويها الصحراء

المعالم الأثرية في مدائن صالح

تضم هذه المنطقة العريقة أكثر من 100 مدفن تم نحتها بعناية في الصخور الرملية وتقسيمها إلى مجموعات حسب قربها وتشابه النقوش والزخارف، وقد استخدم الأنباط هذه القبور لتكريم موتاهم، وزيّنوها برموز دينية ونقوش توضح أسماء أصحابها ومكانتهم، وفيما يلي نذكر أهم المعالم والمواقع التي تم بناء المدافن فيها:

• جبل أثلب

يقع شرق مدائن صالح وهو من أعلى جبالها، وقد كان موقعاً إستراتيجياً لمراقبة القوافل التجارية، ومن المرجح أنه تحوّل إلى مركز ديني… من أبرز معالم هذا الموقع “الديوان” -قاعة منحوتة في الصخر يعتقد أنها كانت مخصصة للاجتماعات أو الطقوس الدينية-، وإلى جانبه، تنتشر المحاريب والمساجد القديمة.

ويظهر الجبل براعة الأنباط في إدارة المياه، فقد أنشأوا خزانات وقنوات لتجميع مياه الأمطار وربطها بالآبار، وبلغ عدد الآبار المكتشفة حوالي بئراً 130.

• مقابر قصر البنت

هي مجموعة من المقابر المحفورة في جبل البنات، تضم 33 مدفناً تتنوع من حيث الحجم والتفاصيل الزخرفية، يحمل بعضها نقوشاً بأسماء أصحابها، والبعض الآخر مزيّن بتماثيل آدمية وحيوانية تدل على تنوع الفنون النبطية وثراء من دُفن هناك.

• قصر الفريد

من معالم الحِجر المتفردة -كما يدل اسمه- نُحت في كتلة صخرية منفردة جنوب شرق الموقع على ارتفاع نحو 22 متراً، ويتميز بواجهته الفخمة التي تضم أربعة أعمدة بدلاً من اثنين على عكس ما ظهر في غيره من المدافن.

• الجبل الأحمر

يقع شمال قصر الفريد، ويتألف من كتلتين صخريتين، الأولى تضم 18 مقبرة، يُعتقد أنها من أقدم مدافن الحجر، وتمتاز بتنوع واجهاتها وبعضها يحمل نقوشاً بأسماء أصحابها، أما الكتلة الثانية، فهي أصغر في الحجم وتحتوي على مدفن وحيد.

• مقابر قصر الصانع

في جنوب مدخل مدائن صالح، تقع هذه المجموعة من المقابر لتشكل مشهداً فريداً على جانبي سكة الحديد التي تمر بين كتلتين صخريتين، تحتضن الكتلة الغربية مقبرة ذات واجهة كاملة، بناها “ملكيون العراف” تخليداً لوالده “حنين هفستيون” الذي كان قائداً لحامية عسكرية، ويعود تاريخها إلى أبريل في السنة الـ17 من حكم الملك النبطي الحارث الرابع، أما الكتلة الشرقية، فتضم ست مقابر بسيطة غير مكتملة، تأثرت بعوامل الزمن والتعرية، ولا يظهر عليها أي زخارف أو نقوش واضحة.

• مقابر الخريمات

تعدّ هذه المجموعة من أغنى مجموعات الحِجر من حيث التنوع الفني، وتتكون من سبع كتل صخرية تحتوي على 53 مدفناً متجاوراً، تحمل واجهاتها تفاصيل نبطية مختلفة مثل التيجان والأفاريز والزخارف.

• محطة سكة حديد الحجاز والقلعة الإسلامية

هذان المعلمان من المعالم الإسلامية في مدائن صالح، افتُتحت محطة الحِجر عام 1907م ضمن مشروع سكة حديد الحجاز، وضمت 16 مبنىً لخدمة الحجاج والمسافرين، فيها استراحات وسكن للموظفين وورش صيانة وقلاع حراسة وخزانات مياه، وكانت محطة مهمة على طريق الحج التاريخي.

أما القلعة فتقع شمال الحِجر على طريق الحج الشامي، بناها والي دمشق أسعد باشا العظم على الطراز العثماني، وتتكون من طابقين، يحيط بها سور بارتفاع أكثر من 8 أمتار، وتحتوي على أبراج مراقبة، وبئرين للماء، ومصليين.

اقرأ أيضاً: أسرار زُبالا الأثرية: القرية السعودية التي مرّ بها الحجيج وخلّدتها كتب التاريخ

ماذا قالوا عن مدائن صالح؟

يقف العالم مذهولاً أمام عظمة هذا المكان المهيب، وبراعة الإنسان القديم الذي استطاع في بيئة صحراوية قاسية أن يبدع هذا الفن المعماري الخالد، ويجعل من المكان أعجوبة تحكي حجارتها قصة حضارات عظيمة.

لم يُخفِ الملك تشارلز، ملك بريطانيا، انبهاره عند زيارته للعلا قبل سنوات -كان لا يزال ولياً للعهد- ووصف مدائن صالح بأنها من المعالم السياحية المذهلة، وأنها تشكّل علامة بارزة على خارطة السياحة العالمية.

أما عالم الآثار الشهير زاهي حواس فقال عنها:

«لو أن الرحالة القدماء وصلوا إلى الجزيرة العربية وزاروا مدائن صالح، لاختيرت ضمن عجائب الدنيا القديمة».

جدير بالذكر أنه في عام 2019، كشفت الهيئة الملكية لمحافظة العلا عن خطتها الطموحة لتحويل العلا إلى وجهة تراثية عالمية مستدامة، وكانت مدائن صالح في مقدمة هذا المشروع الهائل الذي بدأنا نرى ثماره فعلياً، وتناغماً مع رؤية 2030 ستسهم الهيئة في إضافة 120 مليار ريال للناتج المحلي السعودي بحلول عام 2035، وسيتم استثمار جزء كبير منه في تطوير العلا نفسها.

اقرأ أيضاً: ماذا تتضمن اتفاقية الشراكة بين «فيلم العلا» و«إم بي إس مينا»؟