تحتضن المملكة العربية السعودية ثمانية مواقع مدرجة في قائمة التراث العالمي لليونسكو، بدءاً من مدائن صالح في عام 2008م، وصولاً إلى المنظر الثقافي لمنطقة الفاو في عام 2024م… ومن بين هذه المواقع الثمانية، تمتاز منطقة حمى الثقافية بآثارها ونقوشها التي تعود إلى آلاف السنين، وفي هذا المقال، سنعرفكم على هذه المنطقة المميزة وأهميتها التاريخية.
منطقة حمى الثقافية
آثار، آبار، نقوش ورسومات تروي أنماط الحياة في استمرارية ثقافية تمتد لـ 7000 عام – هذا ما ستجده في منطقة حمى الثقافية، التي تعدّ إحدى طرق القوافل القديمة، وإحدى أجمل المناطق التاريخية في العالم.
تقع هذه المنطقة في نطاق جبلي جنوب غرب السعودية، وتمتاز باحتوائها على مجموعة مذهلة من الفن الصخري، حيث تنطق الصخور برسوم ونقوش تصوّر لنا مشاهد من الصيد، الحيوانات، النباتات، وتفاصيل الحياة اليومية التي تعود لعصور غابرة.
كانت المستوطنة القديمة في نجران أحد المحطات التجارية الحيوية على طريق البخور الشهير -الطريق الذي ربط جنوب الجزيرة العربية بحضارات العالم القديم- ويؤكد المؤرخون أن القوافل التجارية القادمة من اليمن كانت تمر بها قبل أن تتابع مسيرها شمالاً.
وفي مقالٍ للعالم المصري الشهير زاهي حواس، المتخصص في الآثار، تحدث عن القيمة التاريخية العميقة لمنطقة حمى الثقافية، قائلاً:
“ويعود أقدم موقع أثري في منطقة حِمَى الثقافية إلى الفترة الأشولية من العصر الحجري القديم، حيث عُثر على قواطع حجرية وسكاكين، وشهدت المنطقة استيطاناً بشرياً، وأنشطة معيشية في العصور الحجرية، مثل الصيد والرعي والصناعة، بالإضافة إلى المقابر الركامية والمواقد والمستوطنات وورش تصنيع الفؤوس، بالإضافة إلى الأواني والمدقات، والسهام وغيرها، ومن المواقع التي اكتشفت فيها معثورات تؤرخ لعصور ما قبل التاريخ. وعُثر في عان جمل على أدوات صوانية منحوتة تعود إلى عصر البليستوسين 120 ألف – 12 ألف سنة قبل الوقت الحاضر. وعُثر فيه على قبور بُنيت بواسطة أحجار مصفوفة بطريقة المذنبات الأسطوانية الطويلة التي تعود إلى العصر البرونزي قبل نحو 7 آلاف سنة من الوقت الحاضر”.
ويعود تاريخ الاستيطان البشري في منطقة بئر حمى إلى ما وفرته طبيعتها من موارد غنية بالحياة البرية والمياه، إضافة إلى التضاريس الفريدة من الحجر الجيري، ويعدّ فن النقوش الصخرية في السعودية، والذي جذب اهتماماً واسعاً في السنوات الأخيرة، من بين أغنى الفنون الصخرية في العالم، إلى جانب نظائره في أستراليا والهند وجنوب إفريقيا.
وقد شهدت المنطقة أولى عمليات الاستكشاف الحديثة عام 1951 على يد بعثة “فيلبي-ريكمانز-ليبين”، ثم نُشرت دراستها لاحقاً على يد الباحث إي. عناتي بين عامي 1969 و1972، وتبيّن أن هذه النقوش محفورة على تكوينات من الحجر الرملي، ويُعتقد أن تاريخها يعود إلى الفترة بين عامي 300 و200 قبل الميلاد… ولكن هذه النقوش لم تحظَ باهتمام فعلي إلا بعد عام 1976، حين بدأت إدارة الآثار السعودية بالتحقيق في مواقع مثل جوبا وغيرها، وتم تسجيل 250 صورة صخرية في موقع غرب آبار بئر حمى القديمة.
وتغطي منطقة حمى للفنون الصخرية مساحة واسعة تبلغ 557 كيلومتراً مربعاً، وتضم أكثر من 550 لوحة صخرية تحتوي على مئات الآلاف من النقوش والرسوم، إذ تشير أحدث الإحصاءات إلى وجود 1293 رسماً بشرياً، و5121 رسماً لحيوانات، إضافة إلى 3616 نقشاً ثمودياً، و2775 نقشاً بخط عربي جنوبي قديم، وثلاثة نقوش نبطية،.
وفي عام 2023، أعلنت هيئة التراث عن اكتشاف وتوثيق سادس أقدم نقش عربي مبكر، وذلك في جبل الحقون بمنطقة حمى الثقافية في نجران، وجاء الاكتشاف ضمن أعمال المسح التي أجرتها الهيئة، حيث يعود النقش إلى كعب بن عمرو بن عبد مناة، الذي وثّق مروره عبر الطريق التجاري وسجّل النقش مستخدماً الرموز النبطية ذات القيم العددية، ويُقدّر تاريخه بنحو عام 380م.
اقرأ أيضاً: أشيقر.. جوهرة تاريخية و أقدم القرى في السعودية
أهمية المنطقة التاريخية ومعالمها
تستقي منطقة حمى الثقافية أهميتها التاريخية من الحضارات التي تعاقبت عليها عبر آلاف السنين، ما أدى إلى ظهور آثار ونقوش متعددة في أكثر من 100 موقع داخل المنطقة، وقد أزاحت الاكتشافات الأثرية -التي أجرتها فرق سعودية ودولية- النقاب عن حضارات تعود إلى العصر الحجري، مثل ما وثّقته البعثة السعودية اليابانية بالتعاون مع “الجايكا” عام 2002م، حيث تم تسجيل نحو 90 نقشاً موزعاً بين مواقع مختلفة كحمى، العريسة، الخشيبة، المسماة، النصلة العليا، كوكب وغيرها.
ومن هنا، نأخذكم في جولة إلى أبرز معالم المنطقة، بين الآبار والنقوش والآثار:
آبار حمى
لعبت الآبار التاريخية في منطقة حمى دوراً مهماً في تعزيز أهمية المنطقة كممر للقوافل التجارية القديمة التي كانت تنقل البضائع من جنوب الجزيرة العربية إلى الشام ومصر وبلاد الرافدين، إذ شكّلت محطة حيوية تتزود منها القوافل بالماء خلال رحلاتها الطويلة.
النقوش
تعدّ “رسمة الصياد” من أبرز النقوش الصخرية في المنطقة، ويعود تاريخها إلى الألف الثاني قبل الميلاد، تقع هذه الرسمة في منطقة نجد خيران، على ارتفاع نحو 80 متراً في أعلى الجبل، وتطلّ غرباً وبالقرب منها عدة مواقع أثرية مثل عان جمل والقارة والخشيبة وشسعا والجفرة والمنشاف… ويصوّر هذا النقش صياداً يطارد الوعول ويحمي جماله، ويُعتقد أن أحد المسافرين هو من نقش هذه اللوحة.
اقرأ أيضاً: قرية لينة مقر الآبار في المملكة
أبرز المواقع الأثرية في منطقة حمى الثقافية
جبل الكوكب
من المواقع الغنية بالفنون الصخرية، تنوعت الرسوم والكتابات على صخوره بسبب البيئة المتنوعة المحيطة به، إذ تعكس نقوش الجمل والخيول أهمية هذه الحيوانات في حياة سكان المنطقة، الذين اعتنوا بها واحتفوا بها عبر فنونهم، كما تكشف عن مهارة الفنان القديم وتنوع أساليبه.
وادي شسعا
هو كنز من النقوش والرسوم الصخرية المنتشرة على صخرتين بارزتين وسط الرمال، تقع الصخرة الأولى في الجنوب، وتحوي لوحة كبيرة مليئة برسومات البقر والحمير، إلى جانب كتابات عربية جنوبية وآدمية ونقوش عربية كوفية، أما الصخرة الثانية، فتزخر بلوحات متعددة تصور نخيلاً وامرأة ونقوشاً نبطية.
وفي هذا الموقع أيضاً، تمتد سلسلة صخرية تنتهي بقمة، عليها عشرون لوحة من النقوش والرسوم التي تحكي قصصاً عن شخصيات تاريخية مثل “قتباني” من مملكة قتبان القديمة، و”حنكي” من القبائل التي ذُكرت في نقوش قرية الفاو.
وادي المسمى
وهو جبل صخري من الحجر الجيري يبلغ ارتفاعه 1275 متراً، يحتضن في أجزائه السفلى لوحات صخرية مكتظة برسومات صغيرة ومتنوعة، تجد فيها بقراً صغيراً، وجمالاً مع جُمّالين، ونساءً وفرساناً، إضافة إلى عدة كتابات ثمودية.
موقع الخشيبة
يحمل هذا المكان على واجهات صخوره مئات النقوش والرسوم التي تروي تاريخاً يمتد لآلاف السنين، فقد تم تسجيل 262 نقشاً صخرياً، تنوعت طرق نقشها بين النقر بأداة حادة والحز عبر حك الصخور الرملية، وقد كشفت التنقيبات أن بعض هذه النقوش يعود للعصر الحميري، فيما كتبت نقوش أخرى بالخط الكوفي القديم.
ويمتاز الموقع بوجود 190 نقشاً باللغة العربية الجنوبية، أغلبها يحمل أسماء أعلام، كما يحتوي على 50 نقشاً ثمودياً مكتوبة بأبجدية عربية شمالية، تتميز ببساطتها وتحمل أسماءً بسيطة أو مركبة، رغم قلة عددها مقارنةً بالنقوش الأخرى.
وهكذا، وبعد أن تعرفنا على أبرز آثار منطقة حمى الثقافية، يتضح لنا لماذا تستحق هذه المنطقة إدراجها ضمن قائمة التراث العالمي، فتسجيلها على قائمة اليونسكو يسهم في الحفاظ على التراث الثري للمملكة، ويعزز مكانتها كأحد أبرز مراكز الحضارة الإنسانية، ويتناغم مع الإستراتيجية الوطنية للثقافة المستندة إلى رؤية المملكة 2030.
