خطوات صغيرة تكسر صمت عقود؛ لقاء هنا، تصريح هناك، وقداس يُقام في قاعة فندق على عجل. ما كان يُعد ضرباً من الخيال بات اليوم سؤالاً مشروعاً في المجال العام: هل تقترب المملكة من لحظة الاعتراف العلني بوجودٍ كنسي قبطي منظم؟ سؤال تتداخل فيه السياسة بالدين، وتتشابك فيه مصالح المجتمعات المغتربة مع مسار الإصلاح الداخلي، لتصنع سرديةً جديدة عن المملكة وموقعها في خريطة المنطقة.
الوجود الرسمي للكنيسة القبطية في السعودية: بين الإشارات والوقائع
المؤشر الأوضح خرج من فم صاحب الشأن. البابا تواضروس الثاني الذي علّق على أنباء بناء كنيسة قبطية أو عقد أول قداس رسمي قائلاً إن «لا شيء على أرض الواقع حتى الآن»، لكنه أبدى تفاؤلاً بأن المستقبل «لا يمنع» ذلك، في إشارة إلى تحولات «مفرحة» يلمسها في الحياة السعودية. هذا التصريح، وإن بدا حذراً، يفتح باب التأويل حول اقتراب الوجود الرسمي للكنيسة القبطية في السعودية عندما تنضج الظروف المؤسسية والقانونية.
الحديث لم يأتِ من فراغ. قبل هذا التفاؤل الحذر، ظهرت بواكير ثقةٍ متبادلة عبر زيارات ولقاءات رفيعة؛ ولي العهد السعودي زار الكاتدرائية المرقسية في القاهرة عام 2018 في سابقة رمزية لافتة، حملت رسائل سياسية وثقافية عن الحوار والانفتاح واحترام التنوع. وهذه الرسائل وإن بقيت رمزية، فهي تشكل طبقة تمهيدية لأي خطوةٍ لاحقة نحو ترسيم حضورٍ كنسي مدني.
من قداسات “القاعات” إلى احتمال الترخيص
على الأرض، سجّل الأقباط المقيمون في المملكة محطة مفصلية عام 2023 حين أُقيمت قداسات بإشراف أسقفي داخل قاعات فنادق وبصورة منظمة نسبياً، ما منح الجالية شعوراً بالاعتراف الاجتماعي وإن ظل خارج إطار الترخيص المؤسسي الدائم.
هذه الممارسة “بين البيت والعلن” تُظهر كيف يسبق الواقعُ النصَّ أحياناً، وكيف يُختبر الهامش قبل أن يصبح قاعدة. لكنها لا تعني حتى الآن وجود كنيسة مُسجَّلة أو مبنى عبادة معترفاً به قانونياً.
وفي صيف 2025، أعاد البابا تواضروس التأكيد على أن الحديث عن بناء كنيسة ما يزال «مبكراً»، مع تلميحٍ إلى «أخبار طيبة» محتملة مستقبلاً، وهو ما يعزز قراءة التدرج الحذر: رسائل إيجابية، وممارسة دينية محدودة، وانتظار للخطوة النظامية.
معضلة القانون وحدود الممكن
البيئة القانونية الراهنة لا تزال عائقاً جوهرياً. تقارير دولية متخصصة تصف حرية الدين في المملكة بأنها مقيدة، وتؤكد أن إنشاء دور عبادة لغير المسلمين غير منصوص عليه ضمن الإطار المسموح به.
وهذا التوصيف لا ينفي وجود مساحات عملية أوسع من السابق، لكنه يشرح لماذا يطول انتظار اللحظة القانونية الفارقة. لذلك يبدو أن الوجود الرسمي للكنيسة القبطية في السعودية يحتاج تعديلاً أو توضيحاً تنظيمياً يتيح الترخيص ويحمي الممارسة.
السياسة والثقة المتبادلة: مصر وسياسة «الجسور»
لا يمكن فصل المسار الديني عن مسار العلاقات المصرية–السعودية. لغة الجسور التي ظهرت في لقاءات البابا تواضروس مع القيادة السعودية تشير إلى بناء رصيدٍ من الثقة بين مؤسستين روحيتين وثقافتين وطنيتين.
وهذه الثقة لا تمنح الشرعية القانونية، لكنها تمنح الشرعية الرمزية، وتخفّض كلفة القرار عندما يحين وقته؛ قرارٌ ستكون له انعكاسات ناعمة على صورة المملكة إقليمياً، وعلى اندماج الجاليات مسلكياً واقتصادياً.
أثر الاعتراف على المجتمع والاقتصاد
لو تم الاعتراف رسمياً، فسيكون لذلك أثر اجتماعي مباشر على مئات الآلاف من المقيمين المسيحيين؛ انتظام تقويم ديني، خدمات رعوية، وتطبيع لوجستي لأعراسٍ وجنازاتٍ وتعليم ديني منظَّم. اقتصادياً، تتسع سلة الخدمات، وتبرز قطاعات الضيافة والأمن وإدارة الفعاليات لدعم مناسبات دينية موسمية، ما يخلق وظائف صغيرة موزعة ويُضيف طبقة جديدة إلى سوق الخدمات المجتمعية.
وعلى المستوى الثقافي، سيكرّس الاعتراف سردية «المواطنة المقيمة» ضمن منطق رؤية الانفتاح، ويمنح المملكة رصيداً إضافياً في سردية التسامح التي تراهن عليها دبلوماسياً.
ماذا بعد؟
المشهد اليوم أقرب إلى «اختبار نوايا» ممتد: تصريحات إيجابية، زيارات متبادلة، وممارسة دينية محدودة في فضاءات مؤقتة. غير أن الانتقال من المؤقت إلى الدائم مشروطٌ بإطار قانوني واضح، وتوافقٍ مؤسسي يراعي حساسية المجال الديني المحلي.
وفي الأثناء، تتكاثر المؤشرات على أن السؤال لم يعد «هل؟» بقدر ما أصبح «متى وكيف؟» – ومتى ستتخذ المملكة الخطوة التي تحول الوجود الرسمي للكنيسة القبطية في السعودية من عنوانٍ مُعلَّق إلى واقعٍ مُنظم يحظى بالحماية والاعتراف.
اقرأ أيضاً: تأشيرة العمرة: لماذا غيّرت السعودية قواعد اللعبة الآن؟

