في عالم السرعة والتطور المستمر، أصبح لكل شيء بديل رقمي، يساعد ويقدم كل احتياجات الفرد. إلا أنه في الأونة الأخيرة برز برنامج شات جي بي تي المدعوم بالذكاء الاصطناعي كتطبيق يقوم حرفياً بكل شيء. ومع انتشاره في مجال الصحة النفسية ورواجه على مواقع التواصل الاجتماعي باعتباره الملجأ عند الشدائد النفسية، أصبح من الضروري معرفة إمكانياته، وحدودنا عند استخدامه، وكيفية تطويعه بطريقة صحيحة لدعمنا نفسياً.
رفيق موثوق لدعم الصحة النفسية
يشكل شات جي بي تي أحد الوسائل السهلة للحصول على الاستشارات النفسية المجانية في دول لا تزال تنظر لطلب المساعدة النفسية نظرة اجتماعية سلبية، بالإضافة إلى النقص الكبير في عدد المختصين وارتفاع تكاليف العلاج في بلدان تعاني من أزمات نفسية واجتماعية كثيرة، مما يجعل الدعم النفسي غير متاح للكثير من الناس. مما ساهم في جعل “شات جي بي تي” أداة منتشرة في مجال دعم الصحة النفسية.
ومن المعروف عن المجتمعات ككل ومجتمعاتنا العربية خصوصاً توجيه الانتقادات ونظرة التقييم لكل شخص يتحدث عن معاناة نفسية معينة، لذلك برز الشات جي بي تي كبرنامج لا يقيم ولا ينتقد، مما يخلق بيئة آمنة للتحدث عن المشاعر ومشاركة الهموم دون الخوف من ردود فعل سلبية، ويخلق مساحة للتعبير دون أحكام أو تحيزات، كما أنه خيار مجاني وسهل الوصول إليه.
يعد الشعور بالوحدة وانكماش العلاقات الاجتماعية الحقيقية في ظل عالم السرعة والتواصل الوهمي، أحد أهم الأسباب للجوء إلى الذكاء الاصطناعي الذي شكل وسيلة بديلة للتواصل والدعم العاطفي. وربما التركيز الغائب عن مسامع الطرف الآخر عند الحديث عن معاناة نفسية معينة ومقارنته بالذكاء الاصطناعي القادر على التكيف وتذكر المعلومات وتقديم الدعم بما يتناسب مع شخصية المستخدم وظروفه كلها أسباب جعلت من الشات جي بي تي الخيار الأفضل “للفضفضة”.
لم تكن هذه الظاهرة والاعتماد الكبير على الذكاء الاصطناعي في مجال الصحة النفسية بعيدة عن متناول الدراسات النفسية والاجتماعية. فقد قام العديد من الباحثين بإجراء دراسات لفهم هذه الظاهرة وتقييم فعاليتها على المدى البعيد.
في إحدى الدراسات التي أجريت على مجموعة من المرضى النفسيين، استخدم المشاركون الذكاء الاصطناعي لمدة أسبوعين، تلتها جلسات مع مختصين في الصحة النفسية. وقد أبدى معظم المشاركين رضاهم عن التجربة واعتبروها مفيدة من عدة جوانب.
أما نتائج الدراسة، فقد أظهرت أن الذكاء الاصطناعي قد يقدم دعماً حقيقياً، مثل تقديم دعم سلوكي معرفي، وزيادة الوعي النفسي، إلى جانب المساعدة في تقديم الدعم العاطفي، مما يساعد المرضى على فهم مشكلاتهم بشكل أفضل ووضع أهداف شخصية.
وكغيره من البرامج والتطبيقات فيه ثغرات كثيرة، إلا أن خطورته في مجال الصحة النفسية تكمن في محدودية دقة الذكاء الاصطناعي وعدم قدرته على إجراء تقييمات نفسية شاملة أو تقديم تشخيص دقيق بحسب نتائج الدراسات. كما أظهرت الدراسات أن الذكاء الاصطناعي قد يواجه صعوبة في فهم الفروق اللغوية والثقافية، بالإضافة إلى محدودية قدرته على التعرف على الخلفيات الاجتماعية للمستخدمين. كما أظهر الباحثون ميل الشات جي بي تي إلى تقديم نصائح تريح المستخدمين، على حساب الدقة والفائدة العلاجية.
الوعي عند الاستخدام
قد يجد الكثير من المستخدمين في الذكاء الاصطناعي ملاذهم النفسي وصديقهم الوفي، إلا أنه لا بد من الوعي بإمكانياته المحدودة مقارنة بالمعالج النفسي، فشات جي بي تي لا يمكنه التعامل مع الأزمات النفسية الطارئة أو تقديم علاج لأمراض مثل الذهان أو الاكتئاب الشديد. وتقتصر إمكانياته على تقديم بعض الدعم النفسي. كما أن الذكاء الاصطناعي يفتقر إلى القدرة على تقديم التعاطف الإنساني، إذ لا يمكنه أن يحل محل التفاعل البشري المباشر الذي يعد من الركائز الأساسية في الشفاء النفسي.
وتوضح أخصائية علم النفس ميكي لي إليمبابي قائلة: “دور شات جي بي تي يقتصر على كونه أداة تكميلية قد تساهم في رحلة العناية بالصحة النفسية”. وتضيف: “عندما يتعلق الأمر بالعلاقات الإنسانية والتواصل العاطفي، لا يمكن لأي تقنية أن تحل محل الصديق الحقيقي أو الحضور الفعلي للمعالج النفسي”.
وبعيداً عن التواصل الإنساني الذي ذكرته الباحثة، فإن مستخدمي البرنامج في مجال الدعم النفسي يفتقرون إلى أهم شيء وهو المعلومة الدقيقة، فلا يمكن للبرنامج التحقق من صحة المعلومات، مما يجعله عرضة لنشر معلومات مضللة. كما أن استخدامه لا يمكن أن يكون بديلاً لتشخيص الاضطرابات النفسية.
لكن ماذا عن الخصوصية؟ انتهاك الخصوصية لبرنامج شات جي بي تي أصبح رائجاً على مواقع التواصل الاجتماعي، وسط توالي التحذيرات والتنبيهات، وفي الحقيقة تثير هذه القضية قلق كبير لدى المستخدمين، خاصة أن البيانات الشخصية تُخزن وتُحلل دون ضمانات كافية لحمايتها.
كيف يمكن لشات جي بي تي المساعدة في تحسين الصحة النفسية؟
بحسب المعلومات السابقة، وعلى الرغم من افتقاد الشات جي بي تي للتفاعل الإنساني الحقيقي، إلا أننا يمكن استخدامه في أشياء بسيطة تساعدنا على دعم أنفسنا نفسياً بطريقة آمنة، ومنها:
كتابة اليوميات وتنظيم الأفكار
يفيد الشات جي بي تي الأشخاص الذين لديهم صعوبة في التعبير عن مشاعرهم، خصوصاً في الأوقات الصعبة. وهنا يبدأ عنل البرنامج عبر مساعدتهم في كتابة يومياتهم، من خلال طرح أسئلة موجهة أو تقديم طرق فعالة لتسجيل مشاعرهم. مما يساعدهم على فهم ما يمرون به ومحاولة إيجاد حلول لمشاكلهم.
تفريغ الأفكار وتنظيم المهام
في حالة تشتت الأفكار أو القلق بسبب كثرة المهام، يمكن لشات جي بي تي أن يساعد على تفريغ الأفكار وتنظيم المهام حسب الأولوية. هذه الميزة مفيدة خاصةً لمن يعانون من اضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه (ADHD) أو القلق المرتبط بالإنتاجية.
التعلم الذاتي والتثقيف النفسي
يُعد “شات جي بي تي” مصدراً مرناً وسهل الوصول للحصول على معلومات حول مواضيع مثل اضطرابات القلق، أعراض الاكتئاب، واستراتيجيات التأقلم مثل تمارين التنفس أو اليقظة الذهنية. بذلك يساعد في فهم الحالة النفسية للمستخدم بشكل أعمق من دون الحاجة للبحث العشوائي في الإنترنت.
دعم اتخاذ القرار في العلاقات والتواصل
يمكن لشات جي بي تي المساعدة في صياغة ردود هادئة ولائقة عندما يتعرض المستخدم لرسائل مؤذية أو محادثات شائكة. هذا يساهم في تجنب التوتر أو المواجهات الحادة، وهو أمر مهم للحفاظ على حدود صحية في تفاعلاتك مع الآخرين.
دعم بين جلسات العلاج النفسي
يمكن لشات جي بي تي أن يكون رفيقاً مفيداً بين جلسات العلاج النفسي، وذلك من خلال المساعدة في اكتشاف مواد تعليمية مثل كتب أو بودكاست ذات صلة بالمشكلة، أو المساعدة في تحضير ملاحظات لعرضها على المعالج في الجلسة القادمة.
باختصار، لا تُغني كل تطبيقات العالم عن التواصل الإنساني العميق، والتعاطف الذي تلمسه مشاعر الإنسان. إلا أن ذلك لا يعني التغافل عن الدور الذي تقوم به التطبيقات مثل الشات جي بي تي في مجال الدعم النفسي، بشرط استخدامه بطريقة صحيحة ومتوازنة.
اقرأ أيضاً: جيل زد ميزة المجتمع السعودي أم مشكلته؟

