كتب: محسن حسن
منذ أن عاد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مجدداً إلى كرسي الحكم في البيت الأبيض، والسجالات لا تنتهي بشأن الاحتمالات الراجحة والمرجوحة المتعلقة بإنهاء الحرب في أوكرانيا، فقد شهد الجميع علانية ذلك اللقاء المتوتر الذي جمع بين ترامب والرئيس الأوكراني زيلينسكي، وكيف أن الرئيس الأمريكي أبدى امتعاضاً واضحاً من هذا الأخير بدعوى أنه يعرقل تقدم السلام في بلاده، ويورط الولايات المتحدة في أزمات دبلوماسية وعسكرية خارجية، وهو الموقف الذي تلاه تقدم المباحثات بين الجانبين لمحاولة إنهاء الحرب، ما دعا ترامب إلى التفاؤل وإعلان رغبة الجميع في وقفها خلال وقت قريب، غير أن هذا التفاؤل ما لبث أن تحول إلى رسائل انتقاد موجهة من الرئيس الأمريكي إلى الرئيس الروسي، تتهمه فيها بالتلكؤ في تسهيل مسار الدبلوماسية الدولية الهادفة إلى وضع حد للأزمة.
وفي الخلفية من كل ذلك، تلعب العوامل الاقتصادية دورها في تكييف الأوضاع وتوجيهها سلباً وإيجاباً، وعلى وجه الخصوص ما يخص الاقتصاد النفطي ومستقبل الموارد النفطية لدى الدول المصدرة للبترول حال إنهاء الحرب، وما إذا كان توقف الحرب سوف يترتب عليه عاجلاً أو آجلاً انخفاض كبير في الأسعار، قد يهدد التمويلات المخصصة للتنمية في دولة مثل المملكة العربية السعودية ومنطقة الخليج على سبيل المثال، خاصة مع وجود توقعات تشير إلى إمكانية انخفاض سعر برميل النفط الخام بواقع 10 دولارات لكل برميل.. فهل حقاً يتعارض إقرار السلام في أوكرانيا مع المصالح الاقتصادية السعودية؟
جوهر مستدام
بداية يجب التأكيد على أن المملكة العربية السعودية، منذ عقود كثيرة ماضية وإلى الآن، تقوم بتطبيق سياسات نفطية أقرب إلى الثبات والاستدامة منها إلى التغيير والتبديل؛ فبحسب التقارير الصادرة عن معهد السلام الأمريكي، تبني الرياض نفوذها النفطي الكبير أولاً من خلال موقعها المحوري في منظمة الدول المصدرة للبترول (أوبك)، وثانياً من خلال تخفيض أسعار النفط أو تجميده عند أسعار منخفضة حفاظاً على الطلب وعلى حصتها في أسواق النفط الدولية على المدى الطويل، ما يعني أن السياسة النفطية السعودية، تنظر في جوهرها إلى ارتفاع أسعار النفط ارتفاعاً منفلتاً باعتباره تهديداً اقتصادياً لحصتها ونفوذها النفطي إقليمياً ودولياً، وذلك من جهة أن مثل هذا الارتفاع يمكن أن تظهر معه مجموعة من التدابير الادخارية أو أشكال غير متوقعة من ضغوط الطلب في الدول المستهلكة، الأمر الذي قد يضر بإنتاجها وصادراتها من النفط الخام.
وانطلاقاً من هذا، فإن استقرار أسعار النفط عند حدود معتدلة، لا يمكن اعتباره من قبيل السلبيات الكبيرة أو غير المتحكم في إدارتها بالنسبة للاقتصاد السعودي، بل على العكس، هو يتوافق مع جوهر السياسات النفطية للمملكة على المدى البعيد، حتى وإن أدى نسبياً إلى انخفاض معدل الموارد المالية المستمدة من أسعار النفط؛ لأن العبرة هنا ليس بتأثير الانخفاض الآني لسعر برميل النفط بقدر ما هي بالنسبة لقدرة المملكة على التحكم في الضمانات المفضية إلى استدامة المنتج النفطي، وقوة تواجده في الأسواق الدولية، خاصة مع ما تشكله المملكة من رقم يصعب تعويضه في احتياطيات النفط ومخزونه المستخرج والكامن، الأمر الذي يفضي مجملاً إلى رسوخ المواقف السياسية السعودية ذات الصلة بالنواحي الاقتصادية، وخاصة النفطية، وهو ما يضع أمامنا تصوراً مبدئياً يؤكد عدم صواب الطرح القائل بأن توقف الحرب في أوكرانيا من شأنه الإضرار بالاقتصاد النفطي السعودي؛ لأن هذا الطرح لا يمكن التسليم به على إطلاقه.
إرباك سوقي
ويبني القائلون بوجود مؤثرات سلب اقتصادية لوقف الحرب في أوكرانيا وجهة نظرهم على عدة اعتبارات أهمها أن رغبة الإدارة الأمريكية الجديدة في استئناف العلاقات مع الجانب الروسي، من شأنه إرباك الأسواق الاقتصادية الأوروبية وفي مقدمتها الأسواق الطاقية والنفطية وأسواق السلع والمعادن، لصالح الأسواق التجارية والنفطية الروسية؛ إذ أن تلك الرغبة الأمريكية ـــ من وجهة نظر أصحاب هذا الطرح ـــ ستذهب حتماً باتجاه إقرار رفع العقوبات الموقعة على روسيا من قبل الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، ما يترتب عليه تجارياً انفتاح الأسواق الدولية وإغراقها بالسلع والمنتجات المختلفة القادمة من روسيا، بما في ذلك النفط، وبالتالي ستتأثر الأسعار الإجمالية لعموم المنتجات، ويمكن أن تشهد المنافذ التجارية الدولية والإقليمية، والأوربية على وجه الخصوص، تراجعاً حاداً للأسعار، قد يضرب بدوره منظومة الاستقرار الاقتصادي والطاقي في منطقة الخليج وفي القلب منها المملكة العربية السعودية.
وبالطبع، يأخذ أنصار هذا الطرح في حسبانهم، مدى ما يتيحه رفع العقوبات عن روسيا من عودة النفوذ الاقتصادي الروسي مجدداً إلى الساحة التجارية والنفطية الدولية بعد انحساره الكبير منذ توقيع العقوبات وبدء الحرب، ومن ثم فإن المتوقع أن تؤدي عودة التدفقات التجارية والنفطية الروسية إلى الأسواق الدولية والإقليمية، إلى تيسير حصول مصادر الاستيراد على السلع المختلفة بأسعار أرخص كثيراً مما كانت عليه أثناء استمرار الحرب، ما يعني حدوث إرباك سوقي واقتصادي لدى أطراف دولية عدة، سيكون لها أثر سلبي راجح في تكييف الموازنات المالية والإنفاق على التنمية ومشاريعها المختلفة، وخاصة تلك الموازنات التي تعتمد على موارد وصادرات النفط والطاقة. وفي الحقيقة سنجد أن وجهة النظر هذه، تتجاهل تماماً حقيقة أن اقتصاديات البناء والتشييد والسلم، أجدى في رعاية التنمية واستثمار الموارد ــ بما فيها الموارد النفطية والطاقية ــ من اقتصاديات الهدم والتدمير والحرب، وإلا فإن السؤال الذي يطرح نفسه بقوة هو: لماذا تقوم المملكة العربية السعودية برعاية المحادثات الثنائية الجارية بين روسيا والولايات المتحدة وأوكرانيا، والرامية لوقف الحرب، طالما أن ذلك سيضر بمصالحها الاقتصادية والنفطية؟
اقرأ أيضاً: كيف تحوّلت السعودية إلى «صانعة السلام» في العالم؟
مركزية فاعلة
وللرد على هذا التساؤل السابق، لا بد أولاً من استحضار المحصلة المستخلصة من ولاية الإدارة الأمريكية السابقة بقيادة جو بايدن، والتي أفرزت وضعيات جديدة من التمركز الاقتصادي والتحالف النفطي والطاقي، ظهرت باعتبارها ردود أفعال على انسلاخ الولايات المتحدة من أدوارها المعهودة والتاريخية تجاه حلفائها وتجاه القضايا الكبرى في العالم وخاصة قضايا منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ومنطقة الخليج؛ إذ كان من نتائج هذا الانسلاخ المفاجئ انخراط العديد من الأطراف في الانضمام إلى تكتل بريكس الاقتصادي مثلاً تحت رعاية روسية وصينية، وبالطبع كانت المملكة العربية السعودية باعتبار مركزيتها الاقتصادية والنفطية والطاقية الفاعلة في المنطقة والعالم، من بين المنضمين إلى هذا التحالف حماية لدورها الاستراتيجي وضبطاً لأفقها النفطي والطاقي المنفتح على العالم أجمع، وخاصة على الأطراف الاقتصادية الفاعلة والصاعدة والمستقبلية.
وبناءً على هذا المسار، فقد كان التحالف الروسي السعودي فيما يخص حصص إنتاج النفط ضمن سياق ما يعرف بــ(أوبك بلس)، دافعاً قوياً لتنسيق شؤون الاقتصادات النفطية والطاقية في العالم، وعلى وجه الخصوص بعد فرض العقوبات الأمريكية والأوربية على روسيا جراء حربها في أوكرانيا، حيث كان هذا التنسيق الثنائي وجهاً من أوجه الدعم الوازن لتحالف بريكس الآخذ في الاتساع منذ إطلاقه، ووفق هذه المعطيات، يجب على القائم بتقييم الموقف السعودي وعلى الراغب في رصد توقعات اقتصادية تخص مستقبل النفط والطاقة في المملكة حال وقف الحرب في أوكرانيا، أن يضع ضمن هذا التقييم، دور المركزية الاقتصادية والنفطية والدولية الفاعلة للسعودية، في إدارة الملف الطاقي وإدارة ما يرتبط به من علاقات اقتصادية وتجارية ودبلوماسية تمس الأمن الاقتصادي السعودي بشكل عام، وتتعلق بالاستراتيجية الإقليمية والدولية لجوهر السياسات النفطية الوازنة مع كافة الأطراف بشكل خاص، وهو ما سيصل بنا إلى قناعة راسخة تؤكد جاهزية القرار النفطي السعودي ومرونته للتعاطي الآمن مع متغيرات الأوضاع الطاقية الدولية، سواء في وقت الحرب أو في وقت السلم، ودون المساس بالأهداف السيادية الوطنية سياسياً واجتماعياً واقتصاديا، وهو ما يؤكده الترحيب السعودي باستضافة مباحثات السلام بين الأطراف المعنية بوقف الحرب.
تناقض ظاهر
وفي سياق توضيح صحة التقييمات الصادرة بشأن تأثر الموارد النفطية السعودية سلباً عند وقف الحرب الروسية الأوكرانية، يجب إدراك حجم التناقض الظاهر في هذه المسألة؛ فمن المعروف أن المملكة بصدد العمل على إنجاز خططها الإصلاحية والعمرانية ضمن استراتيجية 2030 التي تشمل مشروعات سعودية عملاقة كمشروع مدينة نيوم الذي يستهدف تهيئة توطين وتسكين أكثر من مليون ونصف المليون شخص بحلول السنة النهائية لتلك الاستراتيجية، إلى غير ذلك من مشروعات مشابهة، ولأن القيام بأعباء تلك المشاريع من ناحية التمويل يتوقف بالأساس على نمو الموارد المالية النفطية، باعتبارها الموارد المعنية بتمويل خطط الإصلاح والتنمية في المملكة، فإن المحللين الاقتصاديين يرون أن العوامل المؤدية إلى انخفاض الطلب على النفط الخام بالتزامن مع كثرة المعروض منه، وهي المعادلة التي يمكن أن يفرزها وقف الحرب الروسية الأوكرانية، من شأنه عرقلة وتيرة الإعمار السعودية وتقليص نجاحها في الوفاء بالتزامات رؤية 2030 المتعلقة بالمشاريع الكبرى المشار إليها.
ففي الوقت الذي يتأرجح فيه سعر برميل النفط حالياً بين 74 إلى 75 دولاراً للبرميل، يتوقع المحللون أنه بحلول نهايات 2025، سينخفض السعر ويتأرجح ما بين 65 إلى 70 دولاراً للبرميل، في وقت تحتاج المملكة فيه إلى ثبات سعر البرميل عند حدود أعلى من 95 دولاراً للبرميل الخام، حتى تستطيع الحفاظ على زخم التمويل الإيجابي لخططها الإصلاحية والتنموية، وخاصة تلك المتعلقة برفع معدلات الاقتصاد غير النفطي مقابل تقليص حجم الاستهلاك الطاقي محلياً في المستقبل، ورغم صحة هذا الطرح وهذا الاستنتاج بشكل عام، وعائم، معاً، إلا أن التناقض الظاهر في كل هذا، يتمثل في تجاهل المحللين امتلاك المملكة العربية السعودية الكثير من البدائل التي يمكن من خلالها تعويض هذه الفروق السعرية، والتي يأتي على رأسها فتح أسواق جديدة لصادراتها النفطية، وانتهاج خطط مرحلية لإنجاز مشاريعها الكبرى للحيلولة دون التعرض لأية ضغوط خاصة بالتمويل، إضافة إلى اتباع طرق غير تقليدية لرفع معدلات التنويع الاقتصادي والخدمي بشكل يفتح الطريق أمام ظهور مصادر تمويل جديدة وغير نفطية، كما أنه من غير المتصور أخلاقياً وحضارياً أن تنظر المملكة إلى وقف الحرب في أوكرانياً باعتباره معوقاً لاقتصادها، لا لشيء سوى لأنها دولة داعية للسلم والأمن الدوليين، وقادرة على تطويع المتغيرات ـــ مهما بدت سلبياتها ـــ لصالح أهدافها المستدامة على كل الصعد والمستويات. ناهيك عن أن ادعاء حدوث إغراق نفطي للأسواق إذا انتهت الحرب، هو أمر مشكوك في صحته بفعل عوامل عديدة أهمها عدم قدرة الروس على إنتاج المزيد من النفط نظراً لعدم ملكيتهم الكثير من الطاقة الفائضة.
اقرأ أيضاً: ماذا تعرف عن قوات النخبة السعودية التي يفخر بها الأمير خالد بن سلمان؟!
القرار سيادي
وفي واقع الحال، فإنه يتوجب على كل حال، عدم إغفال قدرة المملكة على اتخاذ إجراءات ضبط كفيلة بإنعاش أسواقها النفطية وبالحفاظ على معدلات سعرية مناسبة لبرميل النفط، ربما تخالف التوقعات الراهنة، أو على الأقل، يمكن أن تسعى إلى جعل تلك الإجراءات تشاركية مع جهات فاعلة في سوق النفط الدولية، مثل روسيا على سبيل المثال، وهنا يجب إبراز ما تشكله المصالح المتبادلة بين الحلفاء والمتعاونين وأصحاب المواقف وقت الأزمات، من اعتبارات إيجابية يمكنها تعويض السعودية عن أي نقص حالي أو مستقبلي في سعر برميل النفط، ورغم أن التحالف السعودي الأمريكي يقتضي تدخل الولايات المتحدة لدعم المشروعات السعودية العملاقة، إلا أن مواقف المملكة المعتدلة والوازنة تجاه العقوبات الأمريكية/الأوربية الموجهة لروسيا بعد بدء الحرب في الرابع والعشرين من فبراير عام 2022، والتي تجاهلت خلالها الرياض طلباً مباشراً من الرئيس الأمريكي جو بايدن بضخ المزيد من الحصص النفطية وعدم خفض الإنتاج سعياً نحو توفير الدعم الطاقي لآلة الحرب الأوكرانية وسحب البساط من تحت يد الاقتصاد النفطي الروسي، هذه المواقف تؤكد أن القرار النفطي السعودي هو قرار سيادي لا يخضع لإملاءات الحلفاء بقدر ما يخضع للمصالح الوطنية العليا للمملكة، وهو ما يؤكده تكرار ذات الموقف مع إدارة الرئيس ترامب الجديدة والراهنة، حيث تجاهلت القيادة السعودية طلباً أمريكياً آخر بضخ حصص إغراقية من النفط في الأسواق الأمريكية والأوربية للضغط على الجانب الروسي من أجل خفض السعر ومن ثم إنهاء الحرب، إذ رأت المملكة أن وقف الحرب لا يتعلق فقط بجدوى الإغراق النفطي للأسواق، بقدر ما يتعلق بعوامل أخرى متعلقة بإدارة الحرب من قبل طرفيها المباشرين أو أطرافها غير المباشرة المتحكمة فيها، ومن ثم، فقد كان القرار السيادي السعودي هو عدم الاستجابة للمطالب الأمريكية، والحفاظ على سعر صادراتها النفطية الراهنة كما هو، طالما أنه ليس العقبة الوحيدة أمام إنهاء هذه الحرب، خاصة مع ظهور تحليلات متخصصة تؤكد أن رفع العقوبات عن روسيا لن يترتب عليه هيمنة النفط الروسي على الأسواق أو خفض الأسعار، نظراً لخلل ظاهر في إدارة روسيا لسقف أسعار نفطها الخام.
وعلى أية حال، لا يتعارض إقرار السلام في أوكرانيا مع مصالح النفط والاقتصاد في السعودية، بل على العكس من ذلك، ربما يؤدي إقرار السلام المحتمل هذا إلى عودة صادرات النفط الخام السعودي مجدداً إلى الأسواق الصينية بعد أن تسببت الحرب والعقوبات المفروضة على روسيا في تقليصها بنسبة تزيد على 8.9% لصالح الصادرات الروسية، ومن جهة أخرى، أصبحت المؤثرات المحيطة بالانتعاش والركود في أسواق النفط الإقليمية والدولية، غير قاصرة فقط على العوامل المترتبة على الحرب أو السلم، وذلك لما أفرزه صراع الهيمنة الاقتصادي خلال العقود الأخيرة من عوامل جديدة وغير مطروقة من قبل، لعل في مقدمتها سعي أطراف دولية عديدة إلى تهميش الدولار في مجمل التعاملات التجارية والنفطية، مقابل تفعيل التعامل بالعملات المحلية البينية بين المصدر والمستورد، ما يعني أننا بصدد وجود بدائل متاحة قد تشكل مستقبلاً خطوطاً بارزة ومؤثرة في رسم خريطة الاقتصادات المتصارعة والمتضامنة على السواء.
اقرأ أيضاً: ما الفائدة الاقتصادية التي ستقدمها بطولة كأس العالم 2034!