شهدت الأشهر الماضية تفاعلاً إيجابياً نوعياً في العلاقات الثنائية القائمة والمتبادلة بين روسيا من جهة، ودول مجلس التعاون الخليجي المؤلفة من البحرين والإمارات العربية المتحدة وقطر وعمان والمملكة العربية السعودية، من جهة مقابلة، وخاصة على مستوى التعاطي التجاري والاقتصادي والاستثماري الذي تزداد وتيرته يوماً بعد يوم، ما يمنح هذه العلاقات قوة في الاستمرار والتطوير والتوسع مستقبلاً في رفع مستوى مردودها المصالحي و تأثيرها الاستراتيجي الدولي والإقليمي بين أطرافها.
وقديماً كانت العلاقات الروسية الخليجية من الناحية التاريخية، غير إيجابية في مجملها؛ حيث ظلت لسنوات عديدة متأثرة بالتطورات الداخلية في روسيا من حيث الأزمات الاقتصادية واشتداد الصراع مع انفصاليي الشيشان إلى غير ذلك من العوامل والظروف الدولية، والحروب أيضاً كحرب الخليج الأولى وأزمة البلقان وغيرها، إلى أن بدأت هذه العلاقات في التوسع المتدرج، منذ العام 2000 وما بعده، حيث ساهم مجيء الرئيس الحالي (فلاديمير بوتين) في تطوير علاقات موسعة مع دول الخليج العربي الساحلية الجنوبية، ليشهد العام 2019 حدوث طفرة في تعزيز التواصل الروسي الخليجي، لا تزال تتطور وتنمو وتأخذ منحى أكثر تخصصاً وديناميكية واستراتيجية بفعل المتغيرات الدولية المتسارعة في الوقت الراهن.
كتب: محسن حسن
فعاليات تقارب
لقد أدى الاحتكاك المباشر والقريب بين روسيا ومنظمة التعاون الإسلامي عبر الاستضافات المتكررة للمنتديات والفعاليات الإسلامية، كالمنتدى الاقتصادي الدولي الخامس عشر روسيا/العالم الإسلامي، ومنتدى قازان الدولي المنعقد مؤخراً خلال شهر مايو 2024، والذي شهد توقيع أكثر من 115 اتفاقية تعاون في مجالات متنوعة بين الشركات الروسية والإفريقية والخليجية كالمجالات التكنولوجية والمعلوماتية ومجالات التمويل والاستثمار الإسلامي والصناعات المعنية بمنتجات الحلال، ومجالات أخرى عديدة.
كل هذا وغيره، بالإضافة إلى العلاقات الشخصية للرئيس الروسي، والتي تربطه بالعديد من القادة الخليجيين والشخصيات المحورية في العالمين العربي والإسلامي، أدى إلى تعزيز الانفتاح الروسي على المنطقة وقضاياها المختلفة، وإلى توقيع العديد من الاتفاقيات المؤثرة في التعاون مع منطقة الخليج على وجه الخصوص، ومن أهمها الاتفاقيات المتعلقة بإدارة وتأمين ممرات النقل الدولية، والاتفاقيات الأخرى المعززة لمجمل العلاقات التجارية والاقتصادية والعلمية والتقنية والاجتماعية والثقافية، وكذلك تعزيز تطوير مؤسسات النظام المالي الإسلامي في روسيا بالتعاون والشراكة مع دول منظمة التعاون الإسلامي وباقي دول المنطقة.
اقرأ ايضًا: قائد الجيش البريطاني: سنلجأ إلى التعبئة الوطنية إذا دخلت المملكة في حرب مع روسيا
كسر العزلة
كانت روسيا حريصة خلال الفترة الماضية وتحديداً منذ اندلاع الحرب مع أوكرانيا قبل أكثر من عام، على إيجاد معادل عملي وموضوعي للموقف الأوروبي والأمريكي الرامي إلى عزلها دولياً، وجاء ذلك من خلال إيجاد مسارات جديدة للتعاون الروسي مع دول المنطقة وخاصة دول الخليج التي تربطها مصالح عديدة ومتنوعة مع الكرملين؛ ففي السادس من ديسمبر 2023، وعلى غير عادة التحركات الرسمية المقررة في تلك الفترة، قام الرئيس (بوتين) بزيارة غير متوقعة لكل من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، بهدف كسر العزلة المفروضة من قبل الغرب، وهي الزيارة التي لاقت ترحيباً كبيراً من قبل القيادة السعودية بزعامة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز وولي عهده الأمير محمد بن سلمان، وكذلك من قبل الرئيس الإماراتي الشيخ محمد بن زايد.
وبالفعل، حملت هذه الزيارة الروسية المفاجئة لدولتين عربيتين خليجيتين من كبار الدول النفطية، والتي ضمت شخصيات روسية ذات حيثية كبيرة ومؤثرة كوزير الخارجية الروسي و مرافقه وزير التجارة، وكذلك رئيس البنك المركزي الروسي، إلى جانب الرئيس بوتين بالطبع، رسالة قوية للمجتمع الدولي بأن روسياً غير قابلة للتطويق والتحجيم الغربي والأمريكي، وبأن بإمكانها فتح آفاق غير تقليدية أو اعتيادية للتعاون والشراكة حتى مع حلفاء واشنطن المقربين.
فعلى مستوى الشراكة الروسية/السعودية/الإماراتية، تعززت أسس الحوار البناء بين جميع الأطراف، ضمن كافة السياقات والجهود الرامية إلى ضمان الاستقرار والتقدم، و تمكين النمو والازدهار والتنمية على المستويين الإقليمي والدولي.
وعلى مستوى السياسات والعلاقات الدولية، شهدت المواقف والمحادثات التي تخللتها الزيارة، اتفاق القيادة الروسية، مع كل من القيادة السعودية والإماراتية، على ضرورة توحيد الجهود الهادفة إلى تدشين تحرك دولي ضاغط للتوصل إلى وقف لإطلاق النار في قطاع غزة، فضلا عن حماية المدنيين وضمان الأمن، وإيصال المساعدات الإنسانية، وكذلك العمل على إقرار سلام دائم وشامل في المنطقة على أساس حل الدولتين.
وبالمقابل لم تخل محادثات الزيارة من التطرق إلى الأزمة الأوكرانية وتطوراتها الإقليمية والدولية، حيث أبدى الجانبان السعودي والإماراتي للقيادة الروسية حرصهما على تعزيز الجهود المستمرة مع الشركاء الدوليين من أجل العمل على الحد من التصعيد وإيجاد آفاق لحل سياسي سلمي في أوكرانيا كذلك.
اقرأ ايضًا: 89 تهديداً بينها وباء قادم.. بريطانيا تستعد لأسوأ السيناريوهات!
تعاون استراتيجي
ومن خلال ملامح التعاون المشترك بين موسكو والرياض، نستطيع تلمس الانفتاح الآخذ في الاتساع بين الجانبين على أكثر من صعيد؛ فهناك التعاون الثنائي في مجال الطاقة في إطار (أوبك+) المكونة من ثلاثة عشر عضواً رئيسياً في منظمة البلدان المصدرة للنفط في (أوبك)، إضافة لعشر دول أخرى منتجة للنفط من بينهم روسيا؛ حيث تأخذ العلاقات بعداً استراتيجياً من الناحية الأمنية والاقتصادية فيما يخص تنسيق الجهود والقرارات المعنية بالحفاظ على سوق الطاقة الدولية عند المستوى المناسب والمطلوب والخادم للمصالح الوطنية لدى الجانبين، وهو ما تتضح أهميته في ظل ما تمثله روسيا والمملكة العربية السعودية كأكبر مصدري النفط في العالم؛ إذ تشكلان معاً ما يقرب من خمس إنتاج النفط العالمي.
وقد زاد من البعد الاستراتيجي المتنامي بين روسيا والمملكة العربية السعودية، انضمام الأخيرة إلى تحالف بريكس كعضو مكتمل العضوية بداية من يناير 2024، إلى جانب دول أخرى مثل الإمارات وإيران ومصر وإثيوبيا، الأمر الذي منح الدور الروسي السعودي في المنطقة زخماً إيجابياً ساعد في تخفيف التوترات في الشرق الأوسط والعالم، انطلاقاً من تقارب وجهات نظر الجانبين في العديد من المصالح والقضايا، وأيضاً انطلاقاً من توسعات بريكس الحالية والمستقبلية، والتي يتوقع لها انضمام أكثر من ثلاثين دولة أخرى بخلاف الأعضاء المؤسسين للتحالف عام 2010 وهم البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا، والأعضاء المنضمين مؤخراً في بدايات 2024 السابق ذكرهم.
اقرأ ايضًا: تحالف بريكس الاقتصادي وتطلعات المملكة العربية السعودية.. الرهانات الصعبة والحلول البديلة!!
وساطة روسية
وفي ضوء هذا التقارب الملحوظ للقيادة الروسية مع قادة الشرق الأوسط ومنطقة الخليج، أصبح من المتوقع مستقبلاً أن تلعب الوساطة الروسية دوراً مهماً في تذليل الكثير من الصعوبات والتحديات على أكثر من صعيد وخاصة على صعيد العلاقات الدولية والدبلوماسية، فإلى جانب ما أبدته موسكو للأطراف الخليجية من استعداد كبير للتعاون في إيقاف الحرب في غزة ودعم القضية الفلسطينية دولياً، قد تشهد الأسابيع القليلة القادمة بروز وساطة روسية بين البحرين وإيران أشبه بتلك التي قامت بها الصين بين السعودية وإيران وانتهت بتوافق لا يزال مستمراً وإيجابياً حتى اللحظة؛ فمن خلال التقارب الذي تشهده العلاقات الروسية البحرينية، والذي تكللت جهوده ومساعيه مؤخراً بزيارة ملك البحرين الشيخ (حمد بن عيسى بن سلمان) العاصمة الروسية موسكو، وطلبه من الجانب الروسي المساعدة في تنظيم قمة دولية حول غزة، إلى جانب إفصاحه للقيادة الروسية عن عدم ممانعة البحرين إعادة العلاقات الدبلوماسية مع إيران بعد قطيعة دامت لثماني سنوات وتحديداً منذ العام 2016، من خلال هذا التقارب، سيكون للدور الروسي بعداً استراتيجياً ودبلوماسياً جديداً في إزالة توترات المنطقة وإعادة الهدوء والاستقرار إليها.
ومن المعروف أن الجانب الروسي يمتلك علاقات ديناميكية متطورة مع الجانب الإيراني، وهي علاقات يعتبرها الكرملين استراتيجية وثيقة ومؤثرة، نظراً لما تشكله طهران بالنسبة لموسكو من حليف مقرب يتيح لها التواجد والحضور بقوة ضمن سياق الموازنات الدولية للمواقف والقضايا الدائرة في المنطقة والعالم، ومن ثم، فبإمكان الأخيرة أن تلعب دوراً حيوياً في إيجاد البدائل الاستراتيجية المؤدية إلى تقريب وجهات النظر الإقليمية حول العديد من المشكلات والاعتبارات العالقة بين أطراف عديدة تعد إيران أحد محاورها الرئيسة.
اقرأ ايضًا: واقعية سعودية خلاقة في انتظار مصداقية إيران: التقارب السعودي الإيراني هدنة مؤقتة أم شراكة دائمة؟
اعتبارات خاصة
وتكتسب علاقات موسكو/المنامة أهمية كبيرة، خاصة من الناحية السياسية والاقتصادية والاستراتيجية؛ فالبلدان تجمعهما مواقف متشابهة ومتوافقة بشأن العديد من القضايا الدولية والإقليمية، ورغم أن مملكة البحرين لا يتجاوز عدد سكانها الأصليين قرابة المليون نسمة، وهي دولة جزرية صغيرة تتوسط المملكة العربية السعودية ودولة قطر، إلا أنها تحتضن الأسطول الخامس للبحرية الأمريكية، وإلى جانبها عناصر أخرى من البحرية الملكية البريطانية، كما أنها حليف مقرب من الولايات المتحدة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط، ولذا فإن تقاربها مع موسكو وطلبها القيام بدور الوساطة بينها وإيران، يشكل محوراً من محاور التغير الاستراتيجي الجديد، في ظل انفتاح علاقات روسيا مع الخليج مقابل انحسار الدور الأمريكي في المنطقة.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن توجه المنامة ناحية موسكو لطلب الوساطة مع إيران، مرده إلى اشتداد النفوذ الإيراني ممثلاً في شيعة البحرين الذي يشكلون الغالبية العظمى من السكان هناك، مقابل سكان العائلة المالكة الذي يشكلون الأقلية من المسلمين السنة، وقد سبق وأن تبادلت المنامة الاتهامات مع طهران بشأن إثارة اضطرابات خطيرة على أيدي السكان الشيعة، وهو ما نفاه الجانب الإيراني، كما سبق وأن شهدت فترة انتفاضات الربيع العربي عام 2011، تحرك مظاهرات شيعية بحرينية تطالب بإسقاط النظام الملكي في البحرين، الأمر الذي تحركت على إثره المملكة العربية السعودية لدعم قوات الأمن البحرينية للسيطرة على الوضع.
والآن، وفي ظل المتغيرات الإقليمية والدولية الجديدة، والتي منها التقارب السعودي الإيراني، أصبح الدور الروسي مهماً في استعادة البحرين علاقاتها مع إيران لتجنب تكرار مثل هذه الإشكالات الطائفية في منطقة الخليج، وأيضاً حتى لا تتعقد العلاقات البحرينية اليمنية بسبب تأييد المنامة الصريح للضربات الأمريكية والبريطانية للحوثيين جراء استهدافهم حركة الملاحة البحرية في البحر الأحمر ردا على حرب إسرائيل في غزة، وأخيراً، لكي لا تظل البحرين هي الدولة الخليجية الوحيدة مقطوعة الصلة الدبلوماسية بإيران.
اقرأ ايضًا: تأسيس مجموعة نيو للفضاء (NSG).. خطوة لتحقيق التنمية وتنويع واردات الاقتصاد الوطني بعيداً عن النفط
ملاذ أمريكي
ورغم أنه من غير المتصور مستقبلاً أن يكون التوافق بين موسكو وواشنطن حاضراً وفق الصورة الكاملة تجاه أية حلول مقترحة للقضايا العالقة في المنطقة والعالم، وخاصة القضية الفلسطينية، إلا أن الأحداث المتغيرة على صعيد الصراع العربي الإسرائيلي، وما قد يطرأ من تداعيات غير مسبوقة على خلفية الدعم الأمريكي المطلق لاستمرار الحرب الأخيرة على غزة والفلسطينيين، قد يضطر واشنطن إلى التماهي مع الدور الروسي المتوقع استدعاؤه خلال المرحلة القريبة القادمة، للتوصل إلى حل حاسم لهذه القضية.
وفي إطار ما تبذله قطر وباقي الدول الخليجية من مساع حثيثة لوقف إطلاق النار في غزة، سيكون للانفتاح الروسي على الخليج الأثر البالغ في دعم حل الدولتين، خاصة مع محورية روسيا في تحالف البريكس، وكونها من الداعمين التاريخيين لفكرة حل الدولتين والاعتراف بالدولة الفلسطينية منذ عام 1991، ومن ثم، فقد يصبح الدور الروسي مستقبلاً في هذا الإطار، بمثابة الملاذ الأمريكي للخروج من ورطة التداعيات الإقليمية والدولية والجماهيرية التي خلفتها وستخلفها الخطوات الأمريكية غير الموفقة في إعاقة وقف الحرب في غزة على مدار قرابة العام، ما يعني أن الولايات المتحدة الأمريكية ولأول مرة ستبارك الدور الروسي مع حلفاء الخليج مضطرة لإنهاء هذه الأزمة الإنسانية والعسكرية المهددة للسلم والأمن الدوليين، وهو بدوره ما ستستغله موسكو لتحقيق تقارب أكثر مع قطر وباقي دول الخليج، وهو التقارب الذي يمكن من خلاله تهميش الدور الأمريكي أو إلجامه.
خلاصة
وبعد، إن التحرك الروسي الأحدث، نحو تبني سياسة خارجية أكثر نشاطاً تجاه منطقة الخليج، هو جزء من استراتيجية سياسة عامة تجاه الشرق الأوسط ينتهجها هذا البلد، ليس فقط من أجل تعزيز القضايا الثنائية والمصالح الاقتصادية المتبادلة، وإنما أيضاً من أجل أهداف جيوسياسية جوهرها المنافسة الإقليمية والعالمية، ولابد من تقييم خليجي دائم لهذه العلاقات المتبادلة مع روسيا للوقوف على أفضل السبل المساعدة على إحداث التوازن الاستراتيجي المطلوب منها، وخاصة فيما يتعلق بالجوانب الأمنية وموازنات الردع وتنشيط المجال الاقتصادي والتقني والعسكري في منطقة الخليج.
اقرأ ايضًا: المملكة العربية السعودية تعين فيصل بن سعود المجفل سفيراً لها في دمشق.. دلالات كبيرة في الإقليم والعالم