كتب: محسن حسن
خلال الآونة الأخيرة، أصبح الذكاء الاصطناعي أحد أبرز التطورات التكنولوجية التي تحتل أدواراً متجددة وحيوية في بنية الاقتصاد العالمي، فبحسب أحدث التقديرات، سوف يساهم هذا المجال بحلول 2030 في زيادة الناتج المحلي العالمي بنسبة تفوق 13% أي ما يزيد على 15.5 تريليون دولار أمريكي، ومن ثم، بات من المسلم به إسهامه بفاعلية في تعزيز كفاءة القطاعات الحيوية وزيادة إنتاجيتها، مما يؤدي إلى تحسين الأداء الاقتصادي بشكل عام، وفتح آفاق جديدة للنمو وتنويع الموارد، وهو ما يسعى إلى تحقيقه المخطط السعودي.
وفي الحقيقة، لا يمكن حصر أوجه الأدوار المتاحة للذكاء الاصطناعي التي يتجلى من خلالها إسهامه المؤثر والكبير في دعم وتطوير المجال الاقتصادي، خاصة مع حجم الاستثمارات الضخمة التي يشهدها هذا المجال والتي بلغت عام 2022 أكثر من 90 مليار دولار، وأيضاً لكثرة هذه الأوجه وتعددها وقابليتها المرنة للتطبيق على أي جزئية من جزئيات الاقتصاد المحلي للدول، سواء كان هذا الاقتصاد من قبيل الاقتصادات النامية أو المتطورة أو الطموحة للتفوق والنزوع لمستويات فائقة من التحديث والتجديد، كما هي الحال مع الاقتصاد الوطني للمملكة.
فعلى سبيل المثال، بات هذا المجال في المملكة العربية السعودية، يساعد في اتخاذ القرارات الاقتصادية والحصول على رؤى استراتيجية دقيقة ومدروسة تساعد الشركات الوطنية على دعم الناتج المحلي الإجمالي والاقتصاد المتنوع من حيث المنتجات والموارد، ومن ذلك مثلاً ما تطبقه المملكة من تقنيات التعلم الآلي التي يمكن توظيفها لتحليل سلوك المستهلك وتوقع الاتجاهات المستقبلية للأسواق والسلع والبضائع، ما يؤدي بدوره إلى تحسين استراتيجيات التسويق وتطوير المنتجات وفقًا للاحتياجات المحلية والإقليمية والدولية، وتسعى المملكة التي تحتل المرتبة الثانية عربياً والحادية والثلاثين عالمياً بحسب تقييمات المؤشر العالمي للذكاء الاصطناعي 2023، إلى تحقيق مستوى أفضل من الاحترافية في هذا المجال خلال السنوات القادمة، خاصة وأنها تحتل أيضاً المرتبة الأولى عالمياً من حيث الاستراتيجية الحكومية ضمن سياق المؤشر ذاته، كما أنها سبق وأن احتلت عام 2022، المركز الثاني عربياً أيضاً وفق تقييمات مؤشر الأداء الرقمي لدول الخليج العربي، وبواقع 59.26 درجة.
وفي الوقت الراهن، تتخذ المؤسسات السعودية من أنظمة الذكاء الاصطناعي آلية متجددة لتحقيق القدرة الفائقة على أتمتة العمليات الروتينية، وهو ما يعمل على تقليل الوقت و توفير الجهد والموارد المستهلكة في عموم المهام الإنتاجية البسيطة والمركبة، حيث يتم حالياً تسهيل إتاحة توظيف الروبوتات الذكية في العديد من قطاعات المجال الصناعي وخطوط الإنتاج من أجل تعزيز الكفاءة التشغيلية، وزيادة سرعة الإنتاج وجودته، إلى جانب توظيف الأنظمة الذكية سعودياً، في تحسين إدارة سلاسل الإمداد، ويكون ذلك من خلال إعداد الكوادر الماهرة في عمليات التنبؤ الذكي بالطلبات وتحليل بيانات الشحن، ما يعني تجويد الخدمات الوطنية المقدمة وتحسين تجربة العملاء، خاصة مع إسهام هذا التنبؤ الذكي في دعم قدرة الشركات السعودية على تتبع السلوك المفضل لدى عملائها، وتحليل هذا السلوك بشكل يعزز استطاعة هذه الشركات تقديم تجربة مخصصة لكل عميل منفرداً، بحيث يرتبط ارتباطاً قبولياً بالمنتجات المقدمة وبالجهات التي تقدمها، من حيث ديمومة التعامل معها والإقبال على كل جديد لديها، وهو ما يزيد من حجم المبيعات.
اقرأ أيضاً: المملكة العربية السعودية تدخل في مشاريع مشتركة مع شركات الطاقة الشمسية الصينية
وعلى صعيد مقارب، تعمل رؤية السعودية 2030، على فتح آفاق رحبة يسهم من خلالها الذكاء الاصطناعي في خلق فرص عمل جديدة للأجيال السعودية الطموحة والشبابية؛ فعلى الرغم من شيوع بعض المخاوف المجتمعية في المملكة من أن تؤدي القدرات غير المحدودة للأتمتة الذكية إلى فقدان بعض الوظائف، إلا أن الواقع السعودي الراهن، يشير إلى عكس ذلك تماماً؛ حيث بات هذا المجال، يخلق أيضًا وظائف جديدة تتطلب مهارات متقدمة، تحتاجها سوق العمل السعودية لإنجاح خططها الإصلاحية والتحديثية، وهو ما يؤدي إلى تعميق تجربة التنمية البشرية في هذا المجال الحيوي بين السعوديين، وبالتالي يتزايد عدد المتخصصين من الشباب السعودي والشابات السعوديات في مجال تحليل البيانات، وتطوير البرمجيات، وإدارة الأنظمة الذكية، وهو بدوره ما يرفع من مستوى الجودة في التعليم والتدريب واستثماراتهما لمواكبة التحولات الإصلاحية الشاملة التي يشهدها المجتمع السعودي حالاً ومستقبلاً؛ حيث من المتوقع إسهام مجال الذكاء الاصطناعي بما يزيد على 10% في الناتج الإجمالي السعودي بحلول 2030م، كما أنه بحلول عام 2025م، ستصل الوظائف المبنية على هذا المجال بين السعوديين إلى أكثر من 97 مليون وظيفة.
وتتماشى جهود فتح آفاق مشرعة لمجال الذكاء الاصطناعي بالمملكة العربية السعودية، مع الخطط الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية الحاضرة في استراتيجية 2030، والمستقبلة في استراتيجية 2040، وذلك على أكثر من صعيد، لعل من أهمها، الاعتبارات الصحية والبيئية؛ إذ تتيح هذه الجهود تمكين الذكاء الاصطناعي من تعزيز الابتكار المفضي إلى تطوير كافة القطاعات الوطنية وعلى رأسها قطاع الرعاية الصحية؛ حيث يشهد القطاع الصحي السعودي الآن ضمن سياقاته المتنوعة، استخدام تطبيقات هذا المجال في تشخيص الأمراض وتحليل الصور الطبية وغير ذلك، مما يُحسن من جودة الرعاية الصحية للسعوديين، ويقلل من تكلفتها على المرضى، ولأن المخطط السعودي يدرك أن الاعتبارات الصحية ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالغذاء والبيئة، فإنه لم يغفل أولاً، فتح المجال أمام الذكاء الاصطناعي ليأخذ طريقه نحو القطاع الزراعي، كضرورة من ضرورات تحسين إنتاجية المحاصيل الزراعية، عبر ما تتيحه الجهود الذكية من تقديم خدمات نوعية في هذا الإطار ؛كتحليل بيانات التربة والمناخ وتقديم توصيات دقيقة للمزارعين، وثانياً، تعبيد الطريق أمام التطبيقات المتطورة والذكية لتعزيز الاستدامة البيئية، من خلال تحسين كفاءة استخدام الموارد وتقليل الفاقد، والتأثير الإيجابي على البيئة عبر الإدارة المؤتمتة للطاقة وتحسين كفاءة المباني، ما يساهم في تقليل الانبعاثات الكربونية.
وباستحضار الرغبة الملحة للقيادة السعودية في التحرر من هيمنة الربع النفطي على الاقتصاد المحلي، فإن الشمولية السعودية السابقة في التعامل مع فوائد الذكاء الاصطناعي على مستوى تحسين كفاءة القطاعات الاقتصادية غير النفطية في الصناعة والزراعة والخدمات، إلى جانب تعزيز الابتكار التكنولوجي في مجال الرعاية الصحية والتجارة الإلكترونية، وما يترتب على ذلك من إمداد المشاريع السعودية الكبرى بحلول النقل الذكي وإدارة حركة المرور وغيرها من خلال تحليل بيانات أجهزة الاستشعار والكاميرات، بالتوازي مع تحديث القطاع السياحي ودعمه بالتطبيقات اللازمة لدراسة السوق السياحية إقليمياً ودولياً، كل ذلك سيساعد، مجملاً، على تحسين جودة الحياة في المملكة، إضافة لتحقيق الهدف الأساسي وهو تنويع مصادر الدخل وفق معايير ذكية تختصر المسافات والسنوات والنفقات أيضاً، وتؤدي إلى تطوير إدارة الموارد الطبيعية في البلاد كالمياه والطاقة وغيرهما من حيث ضبط الاستهلاك والحد من الهدر بهدف تحقيق الاستدامة الاقتصادية الإيجابية، ما سيعود في النهاية على الواقع الاقتصادي السعودي، بالعديد من المنافع والعوامل المساعدة، ويساعد أيضاً على أن تصبح البلاد مركزاً اقتصادياً عالمياً في المستقبل القريب.
اقرأ أيضاً: معرض إندكس 2024: نافذة على مستقبل التصميم في المملكة العربية السعودية
وبحسب الإحصائيات الصادرة عن (الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي)، فإن مجموع الموارد المالية التي ستعود على إسهام الذكاء الاصطناعي في الناتج المحلي الإجمالي للمملكة بحلول 2030 ستبلغ 58.8 تريليون ريال سعودي، وأنه في ظل بلوغ حجم الإنفاق العالمي على الذكاء الاصطناعي ما يزيد على 412 مليار ريال سعودي خلال هذا العام 2024م، من المتوقع أن يجد هذا المجال محفزات محلية دائمة على الانتشار والتطور، سيكون من شأنها أتمتة جميع الأعمال الروتينية بنسبة ستزيد على 70% خلال السنوات القادمة.
ومن خلال الإحصائيات السعودية الرسمية لإنجازات ومسارات الخدمات الإلكترونية، نستطيع الوقوف على حجم التحديث الخدمي المستمر في إطار توظيف التطبيقات الذكية ومستقبلها الواعد بين المستخدمين السعوديين؛ فعلى سبيل المثال، تمتلك السعودية (تطبيق توكلنا) وهو أحد التطبيقات الرقمية المعنية بحصر وتدشين جميع الخدمات الوثائقية من بطاقات ومستندات وبيانات في مكان واحد، وهو التطبيق الذي يتفاعل إلكترونياً مع مصالح المواطن السعودي إلى درجة تذكيره بمواعيد انتهاء أية وثيقة بشكل مسبق، تجنباً للتورط في أية مشكلات أو عوائق أو تأخيرات أو غرامات مالية وما أشبه، وهذا التطبيق يشمل أكثر من 100 شركة، ويخدم أكثر من 32 مليون مستخدم، ويقدم أكثر من 277 خدمة متنوعة، ويعمل بسبع لغات مختلفة، وهناك (بنك البيانات الوطني)، الذي يهدف إلى تسهيل مهمة الجهات الاقتصادية المختلفة في الحصول على بيانات وطنية موثوقة من الناحية الرقمية، وهو يقدم أكثر من 400 خدمة لمشاركة البيانات، إلى جانب أكثر من 290 نظاماً حكومياً مدمج البيانات داخل النطاق الإلكتروني لهذا البنك، وهناك أيضاً ما يعرف بـــ (سحابة ديم الحكومية) والتي تعزز التعاون المؤتمت بين القطاعات الحكومية، وتقدم أكثر من 50 خاصية وخدمة حكومية، إضافة لــ 237 مركزاً للبيانات، تستفيد منه 175 جهة حكومية في المملكة، وهناك أيضاً (منصة بروق) المختصة بالاتصالات المرئية الحكومية وغير الحكومية، ومنصة الإشعارات الوطنية (نبأ) و(منصة نفاذ) وغيرها من المنصات الأخرى العاملة وفق التقنيات الرقمية الذكية.
وكدليل على الاهتمام السعودي المتواصل بدعم وتعزيز أدوار الذكاء الاصطناعي في تجويد حياة السعوديين ودعم الاقتصاد الوطني،وضعت القيادة السعودية منذ عامين تقريباً وتحديداً في العام 2022، خططاً طموحة لدعم المواهب الواعدة في مجال تطوير الذكاء الاصطناعي؛ حيث قدمت (مؤسسة الملك عبد العزيز ورجاله للموهبة والإبداع) العديد من المنح المخصصة لهذا الأمر، وكانت المملكة منذ بدايات العام الحالي 2024، قد اعتزمت تخصيص صندوق للاستثمار في الذكاء الاصطناعي بقيمة 40 مليار دولار، ضمن جهود (صندوق الاستثمارات العامة) لدعم وتعزيز هذا المجال، من خلال تدشين مجموعة من الشركات الناشئة والعاملة في التكنولوجيا الذكية ومجالاتها المختلفة على المستوى الوطني، وبالطبع يعمل هذا الصندوق بالشراكة مع جهات عالمية ودولية تجيد تطوير المجتمعات الناشئة في المجال المستهدف، ومن ثم، أصبح لدى أكثر من 90% من الشركات السعودية بمختلف تخصصاتها وأنشطتها، مخططات وتطلعات وطموحات كبيرة لاعتماد مستويات أكثر احترافية من حيث استخدام وتطبيق ودمج وسائل وبرامج وتقنيات الذكاء الاصطناعي ضمن مجال عملها.
اقرأ أيضاً: مؤتمر الحوسبة عالية الأداء والذكاء الاصطناعي مفتاح التطور
ومن جهة مقاربة، لا تمل الجهات المختصة الأخرى من الحرص على إطلاق العديد من المبادرات الهادفة إلى تحقيق طفرة بين السعوديين في هذا المجال الحيوي الجديد، ولعل من أهم هذه المبادرات ما أطلقته المملكة مؤخراً من مبادرة لتدريب أكثر من سبعة آلاف مواطن سعودي محلي على تقنيات الذكاء الاصطناعي، حيث تبنت (وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات) و(برنامج تنمية القدرات البشرية) في المملكة، مهمة إطلاق هذه المبادرة الهادفة إلى تهيئة البيئة السعودية التقنية لمستويات أعلى من التنافسية الرقمية، وخاصة في مجال الذكاء الاصطناعي التوليدي، وهي المبادرة التي تنوي الجهات المعنية تطبيقها على مجمل القطاعات التعليمية والمدرسية والقوى البشرية المدنية، وهو ما تلقته جموع الخبراء والأكاديميين وهيئات القطاع الخاص والمستثمريين التقنيين بالترحاب والتفاعل الإيجابي، وكانت المملكة قد أطلقت العام الماضي 2023م، مبادرة أسمتها (ساعة الذكاء الاصطناعي) خصصت من خلالها حصصاً مدرسية لتعليم طلاب المرحلة الثانوية أساسيات المجال ولغاته وأكواده، وهو ما أتاح التعرف على الملامح العامة والأولية لتقنيات هذا المجال لدى أكثر من 300 ألف طالب في أكثر من 1250 مدرسة في عموم المناطق والمدن والبيئات السعودية.
يتبقى القول، إن الطموحات السعودية في الوصول إلى مستويات متقدمة من إنجازات توظيف التطبيقات الرقمية الفائقة للذكاء الاصطناعي، سوف يستلزم بالضرورة العمل على إقرار مجموعة من التشريعات والإجراءات الخاصة والضابطة لاستخدام وتعميم هذا النوع من التقنية، لعل من أهمها، رفع كفاءة الأمن السيبراني لحماية البنية التحتية السعودية ضمن سياقها المؤتمت، من أية خروقات أو هجمات رقمية أو إلكترونية، وكذلك الشروع في دمج نظام بلوكتشين للمؤسسات، وهو من أهم الأنظمة العاملة على تمكين الجهات الحكومية والرسمية وعموم الجهات المستخدمة لتقنيات هذا المجال، من ملكية البيانات وضمان جودة إدخالها والتحكم في أمانها وثباتها، ومن جهة أخرى، لابد من لفت الانتباه إلى أن تطبيق تقنيات الذكاء الاصطناعي في منطقتنا العربية، على وجه الخصوص، يتطلب الالتزام بعدد من الضوابط لضمان الاستخدام الآمن والأخلاقي، يأتي في مقدمتها ضرورة استناد التطبيقات الذكية إلى مبادئ أخلاقية تشمل الشفافية القائمة على إلزام الشركات والمؤسسات بتوضيح كيفية استخدامها الذكاء الاصطناعي وكيفية اتخاذها القرارات من خلاله، إلى جانب موافقة المقررات والقوانين الدولية في الخصوصية وحماية البيانات، كما هي الحال في مضامين (اللائحة العامة لحماية البيانات GDPR) المطبقة في القارة الأوربية؛ حيث احترام خصوصية الأفراد وخصوصية بياناتهم، هذا بالإضافة إلى ضرورة تطبيق تدابير أمان قوية ضد الاختراقات الإلكترونية، جنباً إلى جنب، مع وضع آليات قانونية واضحة لتحديد المسؤولية في حال حدوث أخطاء أو أضرار ناتجة عن تقنيات الذكاء الاصطناعي، وهو ما يلزم معه وجود هيئات مستقلة لمراقبة استخدام هذا المجال، وضمان الالتزام بقوانينه، و نشر الوعي حول فوائده ومخاطره بين جمهور المستخدمين، وأخيراً، سيكون من الضرورة بمكان، ضمان استخدام موارد مستدامة لتقنيات هذا المجال، تجنباً للأضرار البيئية، وإيجاد آلية وطنية أو مؤشر محلي، يمكن من خلاله إجراء تقييمات دورية ، ونقاشات مجتمعية حول كيفية استخدام هذا المجال الجديد المتجدد، بشكل آمن ومؤثر، وبحيث يسهم في تحقيق التنمية المستدامة وتعزيز النمو الاقتصادي والرفاه للمجتمع.
اقرأ أيضاً: الرياض عاصمة مجتمع الأعمال الدولي