تزامناً مع تبلور التوجه الاقتصادي لرؤية السعودية 2030، تؤكد التوقعات الدولية صحة المسار الإصلاحي الاقتصادي الذي تنتهجه الرياض فيما يتعلق بالنهوض بمستويات النمو في مجمل القطاعات الحيوية.
كتب: محسن حسن
يتيح نهج الرياض الجديد المعتمد بشكل أكبر على الاقتصاد غير النفطي تحقيق طفرات إيجابية عديدة تحفظ لبنية الاقتصاد الوطني توازنه واعتداله في ظل مهددات وشكوك عدم يقين محيطة بالنمو العالمي حتى لدى أكبر الاقتصادات قوة وقدرة على صراع الهيمنة والاستحواذ المالي والاستثماري والتجاري.
قفزة GDP
يأتي في مقدمة إيجابيات ما تم تحقيقه على صعيد النهوض بالنمو الداخلي والتنوع الاقتصادي غير النفطي والذي أفرز حالة من الفاعلية والديناميكية المتعاضدة بين كافة القطاعات الحيوية سواء في السياحة أو التعدين أو الخدمات والترفيه أو الطاقة، الأمر الذي ظهرت معه مؤشرات جديدة ضمن التقارير الاقتصادية الدولية؛ حيث توقع صندوق النقد الدولي ارتفاع الناتج المحلي الإجمالي للمملكة بنسبة 4% خلال 2024، كما توقع نمو الاقتصاد السعودي بنسبة 1.9% على مدار العام الحالي 2023، وبنسبة 2.8% خلال العام القادم 2024، وذلك على الرغم من أن الصندوق يميل إلى الجزم بتباطؤ نمو الاقتصاد العالمي وانخفاضه من نسبة 3.5% التي حققها عام 2022، إلى 3% فقط خلال العام الحالي 2023، ثم إلى 2.9% خلال 2024، وهو ما يعني ضمناً، إيجابية مؤشرات الاقتصاد السعودي المستقبلية مقارنة بمؤشرات نظيرة أخرى على المستوى الإقليمي والدولي، خاصة مع وجود تقارير أخرى داعمة ومؤكدة لهذه الإيجابية، منها على سبيل المثال التقرير الصادر عن (منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية) خلال الأسابيع الماضية، وتحديداً في سبتمبر 2023، والذي توقع زيادة الناتج الإجمالي السعودي (GDP) بنسبة 3.9% خلال 2024، إلى جانب تراجع معدلات التضخم إلى حدود 2.1% بفعل الإجراءات الصارمة والحاسمة في مواجهة انفلات الأسعار وضغوطها المختلفة.
نهضة وإنجاز
ومما يعزز حقائق وتأكيدات النمو المتوقعة للاقتصاد السعودي ضمن نطاق الناتج المحلي الإجمالي خلال العام القادم، وجود مؤشرات فعلية متحققة وراهنة، يمكن استحضارها للتدليل على منطقية التوقعات الإيجابية المشمول بها اقتصاد المملكة من حيث النهضة والنمو، ومن بين تلك المؤشرات، بلوغ الناتج المحلي الإجمالي للسعودية 4.15 تريليون ريال سعودي، أي ما يوازي 1.11 تريليون دولار أمريكي، وفق بيانات صادرة عن اتحاد الغرف السعودية، ما يعني أن الناتج السعودي الإجمالي يتجاوز للمرة الأولى حد التريليون دولار، صعوداً من 670 مليار دولار تقريباً كانت حصيلته عام 2015، لتتحقق بشكل استباقي، إحدى النتائج المستهدفة ضمن استراتيجية الإصلاح الاقتصادي للعام 2025 للمملكة. ويضاف إلى ما تقدم مؤشر آخر، يتمثل في بعض إنجازات الاقتصاد السعودي المدفوعة والمحفَزة بالخطوات الجادة لرؤية 2030 الممتدة، والتي وضعت هذا الاقتصاد خلال قرابة العقد منذ انطلاق الرؤية وحتى الآن، في مصاف الكيانات الاقتصادية القادرة على تجاوز نسب النمو المتحققة لدى اقتصادات كبرى عالمية؛ فبحسب تقارير محلية سعودية، شهدت الفترة من 2016 وحتى 2023، استحواذ الاقتصاد السعودي على أعلى معدلات النمو بين الدول الخليجية، إلى جانب احتلاله مرتبة النمو الأعلى بين الاقتصادات العشرين الكبرى العالمية، وبنسبة تزيد على 65.9%، وذلك بفعل التوظيف الواعي والخلاق لكافة الموارد والطاقات المتاحة، وأيضاً بفعل التشبيك المالي والاستثماري الحريص على توفير الدعم المتبادل بين القطاعات ومنافذ العمل والإنتاج ومصادر الدخل غير النفطي على وجه الخصوص، ما ساعد مؤخراً على تحقيق هذه الطفرة في النمو الاقتصادي ونمو الناتج المحلي الإجمالي، لتتفوق المملكة العربية السعودية اقتصادياً على دول ذات باع اقتصادي كبير أمثال روسيا والصين والهند والولايات المتحدة الأمريكية ودول أخرى عديدة حلت في مراتب تالية.
اقرأ أيضًا: طموحات عالمية: ماذا تهدف السعودية من انضمامها للمجلس الاقتصادي والاجتماعي؟
حد الاكتفاء
وبالنظر إلى هذا التفوق الاقتصادي للمملكة من حيث النمو بين اقتصادات الدول الكبرى بمعدل يزيد على 8.6%، فإن ثمة دلالة كبيرة على تعاظم القدرات الإنتاجية، وهو ما يشير إليه ويؤكده وصول نسبة الكفاية الذاتية لاقتصاد المملكة حداً يتجاوز نسبة الـــ 80% ما يعني قدرة هذا الاقتصاد على القيام بالتزاماته المتوازنة على المستوى التنموي والاجتماعي والمعيشي، بالتزامن مع تفوقه من حيث الأداء الاستثماري بفعل ارتفاع معدلات الاستثمار الحادث ضمن بنية الناتج المحلي الإجمالي، والتي تصل نسبتها إلى 27.5% تقريباً، وهذه الملامح الكفائية الظاهرة في بنية الاقتصاد السعودي، تعمل على تعزيز الجدارة والثقة من حيث قيمة وقوة العملة المحلية (الريال)، وكذلك من حيث التنافسية الاقتصادية العالمية، والتي شغلت المملكة مرتبتها السابعة عشر من بين أكثر من 63 دولة حول العالم وفق تقرير المؤشر لعام 2023، متقدمة سبعة مراتب بعد أن كانت في المرتبة الرابعة والعشرين، هذا إلى جانب ملامح إيجابية أخرى وعديدة، حققها الاقتصاد السعودي منها مثلاً زيادة معدلات اندماجه ضمن مكونات الاقتصاد الدولي بنسبة تفوق الــ 63%، وزيادة إسهام القطاع الخاص في الناتج الإجمالي بنسبة تتجاوز 40%، وبمعدل نمو يزيد على 5.2%، وبقيمة مالية قدرها 1.633 تريليون ريال سعودي تقريباً، وبالإضافة إلى هذا، شهدت بعض القطاعات الحيوية طفرات نوعية من حيث النمو، منها القطاع السياحي السعودي مثلاً، والذي نمت معدلاته الدولية لتضع المملكة في المرتبة الثانية عالمياً من حيث عدد السياح الدوليين 2023، وبنسبة نمو تزيد على 85% قياساً بعام 2019، وفق تقرير السياحة العالمي، وعلى صعيد آخر، زاد حجم الاستثمارات في القطاع غير الحكومي ليقفز إلى أكثر من 905 مليار ريال سعودي، وبنسبة نمو تزيد على 32.5%، حيث مثلت تلك الاستثمارات النوعية، نسبة إسهام قاربت الـــ 88% من إجمالي الاستثمار الثابت في المملكة، وكل هذه المؤشرات تشير بما لا يدع مجالاً للشك، إلى القوة الذاتية التي اكتسبها الاقتصاد السعودي بفعل خطط الإصلاح الجديدة ضمن رؤية 2030.
ديناميكية إنعاش
وبتحليل حالة الزخم الاقتصادي السعودي، نجد أن رؤية المملكة 2030 وفق إجراءاتها الحثيثة والمتواترة، قد استطاعت تحقيق نجاحات حقيقة في دعم وتعزيز ما يمكن تسميته بـــ(ديناميكية إنعاش اقتصادي) مستمرة لعموم القطاعات الحيوية الرئيسية، وكذلك لمفرداتها وعناصرها الفرعية، الأمر الذي تجلى في إجراءات إصلاحية شاملة، كان منها على سبيل المثال، ضخ المزيد من العمالة في القطاع الخاص؛ حيث أفادت تقارير اتحاد الغرف السعودية بأن الفترة من 2021، إلى 2022، شهدت زيادة عدد العاملين من 8.1 مليون عامل إلى 9.4 مليون عامل تقريباً، وبنسبة نمو تزيد على 16.5%، وفي الإطار ذاته تواترت جهود سعودة القطاع الخاص في الفترة ذاتها، فارتفعت نسبة السعوديين المنضمين للقطاع الخاص لتزيد على 58.1%، وبمعدل نمو يقارب الــ 15%، حيث بلغت أعدادهم خلال ذات الفترة من 1.900 مليون عامل سعودي تقريباً، إلى أكثر من 9.420 مليون. وكان من بين الإجراءات الإصلاحية أيضاً، توسيع رقعة الصادرات الوطنية السعودية في اتجاه الأسواق الإقليمية والدولية؛ حيث استطاعت تلك الإجراءات أن تصل بمعدلات نمو الصادرات غير النفطية إلى أكثر من 13.6%، وبواقع 315.6 مليار ريال سعودي تقريباً خلال 2022، وهذا المعدل التصديري يشكل أكثر من 20.4% من إجمالي الصادرات السلعية السعودية في ذلك العام، وهو ما يعكس زيادة في حركة الصادارات السعودية ضمن الناتج الإجمالي، والتي تصاعدت من 32.9% إلى أكثر من 39.2%، وقد ساهم التنوع الاقتصادي والجغرافية التصديرية المتمددة للاقتصاد السعودي عبر أكثر من 175 دولة حول العالم، في ارتفاع صادرات السلع والخدمات بنسبة تزيد على 54.3%، فبعد أن كانت قيمة هذه الصادرات تمثل 134.5% من قيمة الواردات السلعية عام 2021، أصبحت القيمة تقارب الــ 172% عام 2022، وكل ذلك وما تلاه من تحديثات إيجابية في تلك القيم والمؤشرات والإحصاءات، هو بفضل تلك الديناميكية الاقتصادية المنعشة، والتي يتوقع معها المزيد من الإيجابيات والنجاحات خلال المرحلة القادمة.
اقرأ أيضًا: أسبوع التجارة الصيني 2024: نحو مستقبل اقتصادي مشترك بين الصين والسعودية
جدوى التنوع
وتؤكد قفزات الناتج المحلي الإجمالي ضمن قطاعات الاقتصاد السعودي الحيوية، أن ما حملته رؤية 2030 على عاتقها من المهمة الصعبة والتحدي الكبير في تقليص الفجوة بين إسهام القطاع النفطي من جهة، وإسهام ما سواه من القطاعات غير النفطية من جهة ثانية، في الدخل الوطني الكلي للمملكة، قد بدأ يؤتي ثماره الراهنة والمستقبلية في جنبات الاقتصاد المحلي وقطاعاته المتعددة، وهو ما يمكن الجزم به، من خلال تقرير وكالة الأبحاث والشئون الدولية الراصد لأبرز تطورات الاقتصاد السعودي خلال الربع الثاني من عام 2023، والصادر تحت إشراف البنك المركزي السعودي، حيث أكد التقرير أن ارتفاع الأنشطة غير النفطية في المملكة بنسبة 5.5%، إلى جانب ارتفاع أنشطة الخدمات الحكومية بنسبة 2.7%، مقابل انخفاض الأنشطة النفطية بنحو 4.2%، خلال فترة رصد التقرير في كلٍ، أدى إلى ارتفاع (GDP) بنسبة 1.1% على أساس سنوي، كما أشار التقرير، إلى وجود تحسن كبير في مستوى نمو الأنشطة الاقتصادية الرئيسية، باستثناء الصناعات التحويلية؛ ففي الربع الأول من 2023، سجل نشاط الخدمات الجماعية والاجتماعية والشخصية نسبة ارتفاع سنوي قدرها 12.9%، وارتفاعاً ربعياً قدره 3.7%، كما سجل نشاط النقل والتخزين والاتصالات ارتفاعاً سنوياً نسبته 9.3%، وانخفاضاً ربعياً نسبته 7.6%، في حين حققت تجارة الجملة والتجزئة والمطاعم والفنادق ارتفاعاً سنوياً نسبته 7.5%، وربعياً بنسبة 4.2%، في حين ارتفع نشاط التشييد والبناء بنسبة 5.5%، وربعياً بنسبة 0.4%، ثم تلا ذلك نشاط الخدمات الحكومية بارتفاع سنوي نسبته 4.9%، وبانخفاض ربعي نسبته 2.6%، وقد حققت معظم هذه القطاعات نمواً ملحوظاً في المبيعات خلال الربع الثاني من 2023، لذا فقد كان إسهامها إيجابياً في الاقتصاد السعودي؛ فعلى سبيل المثال، ساهمت أنشطة الخدمات الحكومية بما نسبته 15.6% من إجمالي الناتج المحلي، مقابل نسبة 9.7% لتجارة الجملة والتجزئة والمطاعم والفنادق، مع العلم أن إجمالي الناتج المحلي بالأسعار الجارية كان يقدر خلال الفترة المشار إليها بـــــ 970 مليار ريال سعودي تقريبا، وكانت النسبة الأكبر من الإسهام في هذا الناتج لأنشطة الزيت الخام والغاز الطبيعي وبمقدار 25.0%، و لكن إجمالاً، يشير هذا كله إلى جدوى وأهمية التنوع في موارد الاقتصاد السعودي وإلى مكانته كأولوية متقدمة في تحقيق الإصلاحات الهادفة إلى توسيع نطاق الإسهام غير النفطي في الموازنة العامة والدخل الوطني للمملكة العربية السعودية.
أولويات قادمة
وبالطبع، لا يمكن القول مطلقاً بأن الاقتصاد السعودي في ظل كل الإيجابيات والقفزات المنجزة خلال السنوات القليلة الماضية وصولاً إلى المميزات الحادثة حالياً، لا يواجه تحديات مستقبلية، فهذا ليس منطقياً؛ لأن أغلب اقتصادات العالم مهما كانت قوتها ومميزاتها لابد وأن تواجه تحديات من نوع ما، سواء بشكل طبيعي أو بشكل مفاجيء، وفي هذا الإطار لابد من الإشارة إلى بعض السياقات الخاصة، منها مثلاً ما يتعلق برصيد الدين العام السعودي، والذي سجل خلال نهاية الربع الثاني من 2023 ارتفاعاً سنوياً مقداره 2.3% وبواقع 989.2 مليار ريال سعودي، منهم 623.5 مليار ريال هو دين داخلي يشكل نسبة 63.0% من الدين العام، وبنسبة زيادة قدرها 3.1% على أساس سنوي، مقابل 365.6 مليار ريال هي قيمة الدين الخارجي، وبنسبة 37.0% من إجمالي الدين العام، وبنسبة زيادة قدرها 1.1% على أساس سنوي. وبالإضافة إلى ذلك، هناك تحديات مستقبلية يمكن استخلاصها من الإفادات الصادرة عن وزارة المالية السعودية والمتضمنة في(بيان ما قبل الميزانية للسنة المالية 2024)، والذي أشارت خلاله إلى ضرورة التوازن المستقبلي بين الإيرادات والنفقات؛ حيث تم تقدير النفقات بـــ 1.251 مليار ريال، مقابل إيرادات تم تقديرها بـــ 1.172 مليار ريال سعودي، مع اعترافها بوجود عجز محدود متوقع، يقدر بنحو 1.9% من الناتج الإجمالي، وهو ما يستلزم ــ وفق هذا البيان ــــ العمل على زيادة كفاءة الإنفاق، وضبط آليات المالية العامة، وتحفيز الاستدامة المالية والاستثمار المحلي عبر تمكين القطاع الخاص، وتحسين الخدمات. ولكن على أية حال، يمكن النظر إلى هذه التحديات مجملة، على أنها تحديات مقبولة ومستساغة وغير مقلقة في حق الاقتصاد السعودي وفق ديناميكيته الراهنة، والتي من خلالها يمكن للمخطط الاقتصادي السعودي التعاطي بأريحية شديدة مع أية صدمات أو أزمات مفاجئة، نظراً لما يمتلكه ذلك الاقتصاد من جدارة مالية، إقليمية ودولية، تمنحه الكثير من العلاجات المرنة التي تحفظ له القدرة على ترويض الأزمات ولو كانت شديدة، وهذا في الحقيقة لا يمنع مطلقاً من التأكيد على ضرورة استمرار المملكة في اتخاذ الإجراءات والخطوات اللازمة للمضي قدماً في تطبيق استراتيجيات ومعطيات متجددة للإصلاح الاقتصادي، مع الأخذ في الاعتبار وجود أولويات يجب أن تأخذ حيزها المناسب والمنطقي ضمن سياق اهتمام الدولة السعودية بغربلة القطاعات الاقتصادية ودعمها، ولعل في مقدمة هذه الأولويات، اتخاذ ما يلزم من أجل الحفاظ على مستويات مستدامة للدين العام، جنباً إلى جنب، مع تعزيز مالية صناديق التنمية الوطنية وصندوق الاستثمارات العامة، مع منح اهتمامات خاصة لإدارة الموارد، وهو ما تدركه جيداً القيادة السعودية الواعية، وتعمل على تحقيقه.
اقرأ أيضًا: موديز تؤكد على قوة اقتصاد المملكة وترفع تصنيف السعودية الائتماني