كتب: محسن حسن
أدى التطور التقني الكبير حول العالم، إلى تيسير سبل المعاملات التجارية والمالية بين الأفراد والشعوب والدول، حتى أصبحت تجارة التجزئة في شق كبير منها، تدين بالفضل للتجارة الإلكترونية التي تشهد طفرات من النمو والصعود على مدار السنوات الخمس الماضية، خاصة مع بلوغ الرقمنة القطاعية والخدمية حداً غير مسبوق من الاحترافية والتطوير، الأمر الذي ساهم في ازدياد نسبة الوصول البشري إلى خطوط الإنترنت العالمي.
وقد تجاوزت أعداد مستخدمي هذه الخطوط الدولية، حدود الخمسة مليارات مستخدم حول العالم، ساهموا جميعاً في تحريك المياه الركدة في سوق التجارة المرقمنة، ليصل أحدث تقديراتها المالية والإحصائية خلال العام الحالي 2024 على المستوى الدولي، إلى ما يزيد على 6.3 تريليون دولار أمريكي، وهي تقديرات قابلة إلى زيادة مطردة خلال العقد القادم، فخلال سنة 2025 القادمة فقط، يمكن أن تصل هذه التقديرات إلى أكثر من 7.3 تريليون دولار، حيث تحتل الصين والولايات المتحدة الأمريكية صدارة المعدلات العالمية لهذه التجارة، وبما يوازي أكثر من 55% من إجمالي مبيعاتها في الأسواق الإلكترونية الدولية.
وفي ضوء هذه الحقائق، تشكل التجارة الإلكترونية أهمية كبيرة بالنسبة للاقتصادات الطموحة والهادفة إلى احتلال مكانة بارزة في بنية الاقتصادات العالمية الكبرى، ومن ثم، تُعد هذه النوعية من التجارة من أهم المحاور والاتجاهات الحديثة التي تحرص المملكة العربية السعودية على توسعة نطاقها وتفاعلاتها، لما لها من إسهام كبير في إنجاح خطط التحول الاقتصادي والاجتماعي في البلاد، إذ تمثل التجارة الإلكترونية أهمية اقتصادية قصوى بالنسبة للمخطط السعودي.
وتكمن هذه الأهمية المشار إليها، في أن سوق التجارة الإلكترونية من بين أهم القطاعات الاقتصادية الناهضة والممهدة للنمو، والمساعدة على تطوير البنية التحتية، وتعزيز الابتكار، وتلبية احتياجات المستهلكين، كما أنها من أهم الركائز الأساسية لتحقيق رؤية السعودية 2030، والهادفة إلى تنويع الموارد، ودعم الشركات الناشئة؛ الصغيرة منها والمتوسطة، وهو ما يساهم في خلق مئات الآلاف من فرص العمل، ويعمل على دعم التحول الرقمي وزيادة الدخل القومي.
ولعل من أهم الفوائد التي تعمل على تحقيقها التجارة الإلكترونية، أنها دوما ما تكون جاذبة للاستثمارات الأجنبية، حيث تشهد المملكة تدفقًا للاستثمارات في هذا القطاع، بفعل ما توفره البنية التحتية الرقمية المتطورة، بما في ذلك شبكات الإنترنت السريعة، من بيئة ملائمة لتلك الاستثمارات، ما يحفز الشركات العالمية إلى دخول السوق السعودي، و يعزز من دور المملكة كمركز تجاري في المنطقة، حيث لوحظ خلال السنوات الأخيرة، حرص الحكومة السعودية على دعم هذا النمط التجاري المتسارع، وهو ما أدى إلى نمو مواقع التجارة المحلية الخاصة به في البلاد،، خاصة مع زيادة انتشار الإنترنت، وتمتع أكثر من 90% من السعوديين بإمكانية الوصول السريع إلى المواقع والخدمات والأسواق الإلكترونية، بعد أن وصل عدد مستخدمي الإنترنت السعوديين لأنشطة التجارة الإلكترونية (بيعاً وشراءً) إلى أكثر من 33.5 مليون مستخدم، بزيادة تفوق 40% قياساً بعام 2019.
اقرأ أيضاً: السعودية تتصدر في سرعة الانترنت وتوافر شبكة الـ 5G
وبالنظر إلى وجود العديد من مستجدات العوامل المساعدة على رواج التجارة عبر الإنترنت، يأتي ارتفاع ونمو دخل المواطنين في المملكة، وخاصة من الفئات الشابة، إلى جانب زيادة الوعي بفوائد التسوق الشبكي من توفير الجهد ورخص الأسعار، كأهم العوامل التي أصبحت تزيد من حجم الإقبال والطلب على هذا النوع من النشاط، في حين يؤدي التطور الدائم في طريقة الدفع الإلكتروني، إلى تحسين معاملات التحويل الخاصة بالمدفوعات عن بعد، وهو ما تتوقع معه المملكة أن تكون نسبة 70% من هذه المدفوعات والمعاملات غير نقدية وفق خطة واستراتيجية 2030، وخاصة في القطاعات الأكثر نمواً، والتي يقبل عليها السعوديون، كقطاع التجزئة وخدمات توصيل السلع والأطعمة.
ويُضاف لإسهامات نموا التجارة الإلكترونية بين السعوديين، العمل على تسهيل وصول الشركات إلى أسواق جديدة، محلية ودولية، حيث يمكن من خلالها للشركات الصغيرة والمتوسطة استخدام منصات هذه التجارة عبر الإنترنت، للوصول إلى جمهور أوسع، دون الحاجة إلى استثمارات كبيرة في المتاجر التقليدية، وهو ما يزيد من القدرة التنافسية لهذه الشركات ويمنحها فرصًا أكبر للنمو، في حين تعزز عمليات البيع والشراء الإلكتروني المتنامية على الأمداء القريبة والمتوسطة والبعيدة، من قوة وتطوير القطاع اللوجستي في المملكة، وهو بالفعل ما يحدث حالياً.
فمع زيادة الطلب على خدمات التوصيل، شهدت البلاد طفرات نمو وتحولات كبيرة في البنية التحتية اللوجستية، الأمر الذي رفع من كفاءة وسرعة خدمات الشحن والتوصيل، وبالتالي تحسين تجربة العملاء، إلى جانب ارتفاع معدلات الشمول المالي للأفراد والشركات الصغيرة؛ فمن خلال نمو التجارة عبر الإنترنت، تتوافر خيارات دفع متنوعة بعيداً عن قيود الحسابات البنكية وتعقيداتها بالنسبة للبعض، ما يعني قدرة هؤلاء الأفراد والشركات على المشاركة في الاقتصاد الرقمي، وتحقيق دخول إضافية، ولعل ما تؤكده التقارير الاقتصادية السعودية من أن حجم أسواق التجارة الإلكترونية في المملكة سيتجاوز حد الــ 25 مليار دولار بحلول 2025، لهو أكبر دليل على ما تقدمه هذه التجارة من خدمات داعمة للاقتصاد الوطني السعودي.
وفي ظل هذه المميزات السابقة، تؤدي المنصات المحلية المتخصصة في التجارة الإلكترونية بالمملكة، دوراً مهماً وفاعلاً في نمو أسواق هذه التجارة على مستوى حركة المبادلات الشرائية عبر الأونلاين، حيث إنها تساعد جميع الشركات الوطنية على إيجاد الوسائل الإلكترونية الميسورة لتسويق وبيع منتجاتها في أوقات قياسية وبطرق أكثر مرونة في العرض والإقناع و إبرام الصفقات وتحصيل المدفوعات، وحالياً، تتمتع سوق التجارة الإلكترونية المحلية في المملكة العربية السعودية بوجود العديد من هذه المنصات.
فهناك منصة (سوق كوم) أحد أهم وأشهر منصات التجارة الإلكترونية، والتي أصبحت تمد المستهلك السعودي بتجربة مميزة من حيث طريقة التعامل والتسوق ونوعية المنتجات المقدمة وتنوعها، وهي التجربة التي استمدت قوتها مؤخراً من انضمام هذه المنصة إلى متجر أمازون العالمي. وهناك أيضاً منصة (حراج) المتخصصة في حركة بيع وشراء المستعمل والجديد من السلع والبضائع،، وهي من المنصات التي توفر فرصاً واعدة للتبادل التجاري القائم على توازن الأسعار المغري بإبرام العديد من الصفقات عبر الإنترنت. وإلى جانب هاتين المنصتين، يوجد منصة (سلة) والتي تتواجد في السوق السعودية منذ العام 2010، وتقدم خدمات جد متنوعة كالخدمات اللوجيستية وخدمات تطوير المواقع الإلكترونية إلى جانب خدمات معالجة المدفوعات، وهي من المنصات الواعدة التي تتيح لروادها إمكانية إنشاء متاجر إلكترونية، إلى جانب إمداداهم بالأدوات اللازمة لعرض وبيع وتسويق منتجاتهم رقمياً. وإضافة إلى هذه المنصة، توجد منصة (زد) التي ظهرت في السوق السعودية منذ العام 2013، وهي الأخرى تقدم خدمات شاملة و منتجات متنوعة للمستهلك السعودي كالسلع والبضائع الإلكترونية والحدائق والأزياء والمنازل، كما أنها من بين المنصات التي تمتلك سوقاً تبادلية للسلع يمكن من خلالها للشركات السعودية إجراء عمليات بيع ناجحة مع العملاء والرواد.
اقرأ أيضاً: أبرز شركات الدفع الإلكتروني في السعودية
وفي إطار العمل على استمرار زخم أسواق ومنصات التجارة الإلكترونية، تعمل مؤسسات الاقتصاد السعودي المعنية بتطوير التمويل والاستثمار، على فتح أفق التدفقات الموجهة لقطاع التجارة الإلكترونية، وهو ما أصبحت معه قوى الاستثمار الدولية المتخصصة في هذه التجارة، متجاوبة كثيراً مع التعاطي مع هذا الأفق المفتوح، خاصة مع ما تراه من صدقية التوجه الحثيث للقيادة السعودية، نحو تحويل المملكة إلى مركز متكامل وذي ثقل إقليمي ودولي لهذه التجارة الواعدة، ما يؤكد أن مستقبل الاستثمارات القادمة والمتدفقة إلى السوق السعودية، سيكون لها أكبر الأثر في تحقيق هذا التحول، من خلال تعزيز الابتكار والنمو، واتخاذ خطوات استباقية نحو إيجاد الإصلاحات التنظيمية والتشريعية والإدارية المعنية بخلق بيئة مواتية لازدهار الشركات، وهو ما يتوقع معه حدوث تحولات وطفرات أخرى أكثر فاعلية في هذا المجال، وعلى وجه الخصوص إذا استحضرنا ما عليه معدلات نمو التجارة الإلكترونية في السعودية، والذي يزيد على 11.1% كمعدل نمو سنوي.
وكتقييم إحصائي يؤكد جدارة المملكة في تحقيق أهدافها ضمن سياق تنمية التجارة الإلكترونية، فإن الحقائق واضحة وجلية؛ إذ تعد أسواق هذه التجارة في المملكة من أكبر أسواق المنطقة العربية والعالم، فبالنظر إلى منظومة هذه التجارة سنجد أن حجم السوق بحلول 2025، سيبلغ 84.6 مليار ريال سعودي، وأنه بحلول عام 2026 سيكون ما نسبته 8% من سوق البيع بالتجزئة، متصلاً بالإنترنت، وأن وتيرة حجم تراخيص الممارسة التجارية الإلكترونية للشركات والمنصات والأفراد بلغت 35 ألف رخصة خلال البدايات الأولى من عام 2023، وهي الوتيرة التي تزداد بشكل يومي.
ومن جهة مقاربة، فإن نسبة نمو رأس المال الاستثماري في مجال التجارة الإلكترونية، في تزايد مطرد؛ حيث بلغ خلال العام 2023 ذاته 153% على أساس سنوي، وبواقع 428 مليون دولار، كما بلغ عدد المتاجر الإلكترونية أكثر من 63800 متجر، وفي ظل هذا الزخم، من المتوقع وصول نسبة النمو السنوية لحجم التجارة الإلكترونية إلى 13.90%، وبواقع 20.15 مليار دولار أمريكي تقريباً بحلول 2027، وهو العام الذي يتوقع خلاله أن يصل عدد مستخدمي سوق التجارة الإلكترونية إلى أكثر من 28 مليون مستخدم، وأن تتضاعف المشاريع الأجنبية المرتكزة إلى سوق التجارة الإلكترونية، خاصة بعد أن بلغت أكثر من 570 مشروعاً استثمارياً، وذلك بفعل انتشار رقعة مستخدمي الإنترنت والهواتف الذكية ومنصات التواصل الاجتماعي من السعوديين.
اقرأ أيضاً: دورة Json مفتاح تطوير الألعاب الإلكترونية في السعودية
ومن أجل أن تؤتي جهود المملكة ثمارها في تحقيق الطفرات والتحولات المنشودة في قطاع التجارة الإلكترونية، سيتعين العمل حالاً ومستقبلاً على مواجهة بعض الصعوبات التي تحول دون إقبال بعض السعوديين على التعاطي الإيجابي مع سوق التجارة الإلكترونية المحلية، ومن بين أهم هذه الصعوبات حالة التردد التي تنتاب البعض عند التعامل مع هذه السوق، بفعل الخوف المبالغ فيه من التعرض للنصب أو الاحتيال أو أي مظهر من مظاهر عدم الأمان عبر الإنترنت، وهو الأمر الذي يجب العمل على إيجاد حلول واضحة ومقنعة له، ربما عبر زيادة مستويات التعلم الإلكتروني التي يمكنها تقوية عزم المستخدم وإدراكه القدرة على التعامل الفعال والآمن مع عمليات التسوق عن بعد، هذا إلى جانب ضرورة العمل على تشديد التشريعات الخاصة بضمان الالتزام الإلكتروني بحقوق المستهلك وحماية هذه الحقوق من العبث أو التلاعب بها من قبل بعض الشركات أو المنصات، خاصة وأن المملكة، تعد ثاني أكبر سوق عالمي للبريد الإلكتروني الضار ، الأمر الذي يقتضي تحسين الأمن السيبراني من أجل مواجهة مثل هذه المخاطر.
وبالإضافة إلى ما سبق، يتعين على مطوري أسواق التجارة الإلكترونية في المملكة، تذليل عقبات أخرى مثل حاجة منصات التسوق السعودية إلى تحقيق معدلات أعلى وأكبر من التنافسية مع العلامات التجارية الدولية المتقدمة في بيع التجزئة عبر الإنترنت مثل أمازون ونون وغيرهما، إذ أن هذه العلامات الدولية تمتلك ميزات عرض تنافسية تعجز معها المنصات والأسواق والعلامات الأدنى عن منافستها أمام المستهلك، وهو ما يقتضي دعماً كبيراً لتحقيق التوازن، بحيث تصبح أسواق ومنصات البيع الإلكترونية السعودية، قادرة على تقديم خدمات وعروض ومميزات شرائية وتسويقية منافسة لكبريات العلامات التجارية الإلكترونية حول العالم، وهو ما يستلزم البدء من الداخل السعودي، عبر مواجهة أية تحديات أو عقبات تمنع من تهيئة السوق الإلكترونية المحلية لمثل هذه التنافسية المطلوبة.
ولعله يضاف إلى جملة الضرورات هنا، أهمية العمل على إيجاد حلول عاجلة وسريعة لمشكلة ارتفاع كلفة الشحن والتسليم للبضائع الإلكترونية المشتراة عبر الإنترنت، خاصة في ظل اتساع رقع المساحة الجغرافية للمملكة، وترامي التكتلات السكانية بعيداً عن بعضها البعض، ما يعوق إقبال الكثير من الشركات الراغبة في العمل والتسويق الإلكتروني لبضائعها وسلعها، على الإقدام على مثل هذه التجربة المحفوفة بهذه الصعوبة من التكلفة المرتفعة لأنشطة التجارة الإلكترونية عبر الإنترنت، في ظل هذا التحدي.
وفي الختام، تجدر الإشارة إلى أن الشركات الأمريكية العاملة في مجال التجارة الإلكترونية، تسجل حضوراً متنامياً في المملكة العربية السعودية، وقد بلغت مبيعات هذه الشركات عام 2020 نسبة 6% من إجمال مبيعات التجزية في المملكة، مقارنة بــ 18% في الأسواق الموازية الأخرى، كما أن جميع فئات هذه التجارة المحلية والوطنية داخل السوق السعودية، سجلت ارتفاعاً نسبته 60% تقريباً في المتوسط، وخاصة فيما يتعلق بحركة بيع وشراء المنتجات الإعلامية ومنتجات الملابس والأحذية، في حين زاد متوسط إنفاق كل مستخدم سعودي للتجارة الإلكترونية وطنيا، بأكثر من 50% منذ 2022 وحتى الآن.
وبما أن المملكة تحتل أعلى المعدلات العالمية من حيث استخدام الهاتف الذكي وبنسبة 97%، كما أنها تحتل المرتبة العاشرة في العالم من حيث سرعة الإنترنت، وتتفوق على غالبية الأسواق العالمية المتقدمة من حيث اشتراكاتها في الإنترنت عبر الهاتف المحمول ذات النطاق العريض، فإن المتوقع هو النمو السريع والمستمر لقنوات ودروب وأنماط التجارة الإلكترونية خلال الأعوام القادمة.
اقرأ أيضاً: السعودية تطبق تقنيات الذكاء الاصطناعي في القطاع السياحي