كتب: محسن حسن
تعاصر المملكة العربية السعودية مرحلة من أهم مراحل الازدهار والتحول نحو الاستدامة الاقتصادية المعتمدة على النهوض المناطقي والجغرافي بالبنية التحتية للعديد من المدن شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً، وهو ما بات واضحاً من حجم التحديث والتطوير الذي يتحقق على أرض الواقع في أغلب المدن والمناطق الرئيسية بالبلاد، والذي بدوره انعكس على الحالة العامة للاقتصاد المحلي والوطني؛ فبحسب الهيئة العامة للإحصاء، ووفق آخر التقارير الإحصائية، بلغ معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي خلال الربع الأول من 2023 3.8%، في حين بلغ معدل نمو الأنشطة النفطية خلال نفس الفترة 1.4%، مقابل نمو أكبر في معدل الأنشطة غير النفطية بنسبة 5.4%، بينما نمت الأنشطة الحكومية بمعدل 4.9%، وهذه القيم جميعها مقارنة بالقيم التي سجلتها ذات الفترة من عام 2022، على أن من أهم المؤشرات السابقة، نمو الأنشطة غير النفطية، والتي تشير إلى إنجازات معتبرة في مسار التنويع الاقتصادي للموارد، وهو ما صحبه بالتأكيد تطور عمراني وإنشائي ومشروعاتي كبير في عموم المدن السعودية وخاصة العاصمة الرياض.
وبتأمل خطوات التحديث الحثيثة للمخطط الاقتصادي السعودي، نجد أنها تتوجه نحو الاعتماد الأساسي على الاستثمار بحيث يصبح هو الركيزة الأساسية التي ينبني عليها مجمل التغييرات المنشودة لمستقبل البلاد؛ لذا فمن المتوقع أن يؤدي الاستثمار الذي يتم ضخه، إلى مواصلة إحداث التغييرات الجوهرية التي تراها مدن المملكة شكلاً ومضموناً، والتي تحتل العاصمة السعودية (الرياض) منها، درة التاج، نظراً لما تمثله العاصمة في أي دولة نازعة للنهضة والرقي، من منطلق وأساس مركزي لبث روح العطاء والإنجاز في باقي المدن القريبة والبعيدة، ومن أجل هذا، تم التخطيط جدياً في رؤية السعودية 2030، لأن تصبح الرياض من بين أفضل 10 مدن اقتصادية في العالم، وذلك من خلال دفع النمو الاقتصادي والنهوض الصناعي والسياحي للمدينة في السنوات العشر القادمة.
ومن الناحية الشكلية والمظهرية، حرصت خطط الإصلاح السعودية على أن تكون الرياض واجهة مبهرة وحضارية في أعين زائريها، وعلى ألا تقل في هذا الظهور عن أية مدينة أو عاصمة متقدمة في العالم، إن لم تكن هي الأكثر إبهاراً وتقدماً على الإطلاق من غيرها، حيث جاء تنقية أجواء الرياض وهوائها من الملوثات والانبعاثات الكربونية وغيرها، باعتباره أولوية قصوى ومقدمة ضرورية للانتقال بالمستوى المناخي للمدينة إلى الوضعية اللائقة بها كوجهة جاذبة للزائرين والمستثمرين من كل بقاع الأرض، وهو ما أعلنت معه الحكومة السعودية عام 2019، عن أحد المشروعات المهمة الكبرى في هذا السياق، وهو مشروع (حديقة الملك سلمان) والتي ستكون الحديقة الحضرية الأكبر عالمياً، من حيث توافر وسائل الترفيه والأنشطة المختلفة للسكان والزوار على السواء، إلى جانب احتوائها على ممرات ومسارات مخصصة للمشاة وراكبي الدراجات بخلاف المسارات الرئيسية لوسائل النقل العام والخاص الأخرى، وعلى سبيل المثال يربط المسار الرياضي بين شرق مدينة الرياض وغربها، بطول يزيد على 135 كيلومتراً.
وقد جاءت فكرة هذا المشروع ضمن مبادرة مشاريع الرياض الأربعة الكبرى التي أطلقها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان في التاسع عشر من مارس 2019، بتكلفة إجمالية 86 مليار ريال سعودي، وهذه المشاريع هي (مشروع المسار الرياضي)، و(مشروع الرياض آرت)، و(مشروع الرياض الخضراء)، إلى جانب المشروع المشار إليه، وهي المخططات التي تشرف عليها (لجنة المشاريع الكبرى) برئاسة ولي العهد ورئيس مجلس الوزراء الأمير (محمد بن سلمان)، والتي تهدف إلى الارتفاع بمعدل نصيب المواطن السعودي من المساحة الخضراء بمقدار 16 ضعفاً، وزراعة أكثر من 7.5 مليون شجرة في العاصمة، وتدشين حوالي 1000 مًعلم من المعالم الوطنية والفنية على أيدي فنانين سعوديين ودوليين، بالتزامن مع إنشاء العديد من المتاحف والأكاديميات وصالات السينما والمعارض والمسارح والمراكز الرياضية والثقافية ومضامير الخيول وغيرها، ما سيساهم في توفير أكثر من 65.000 فرصة عمل جديدة للسعوديين، إلى جانب تهيئة العديد من الفرص والمشاريع الاستثمارية التي تتراوح قيمتها بين 40 إلى 50 مليار ريال سعودي، لمستثمرين من داخل وخارج البلاد، وبصفة عامة، سيعمل مشروع (حديقة الملك سلمان) على تعزيز المساحات الخضراء الكلية وتحسين التنوع البيولوجي في العاصمة الرياض، خاصة وأن بعض الساحات الخضراء المفتوحة ستزيد مساحتها على 11.5 كيلومتر.
وفيما يتعلق بــ (مشروع المسار الرياضي) فسيكون إحدى الوجهات الممتدة الأرجاء التي تجذب محترفي الرياضات المختلفة من مشاة وهواة دراجات وفرسان خيول ومتذوقي الفن والثقافة ورواد الصحة البيئية والاستشفاء، إلى غير ذلك من أنماط الاهتمامات المتعددة؛ حيث يبلغ طول المشروع أكثر من 135 كم، ويشمل أكثر من 50 منشأة رياضية، إلى جانب احتوائه على مساحات خضراء ومفتوحة تبلغ 4.4 مليون متر مربع، من بينها 2.3 مليون متر مربع مخصصة للاستثمار، وخلال شهر يوليو الماضي 2024، كان مجلس إدارة مؤسسة المسار الرياضي برئاسة ولي العهد، قد أعلن عن اعتماد التصاميم الخاصة بالبرج الرياضي التابع لهذا المشروع، والذي يمثل أحد معالمه البارزة؛ إذ سيكون أطول الأبراج الرياضية في العالم، وبارتفاع 130 متراً، كما ستبلغ مساحته 84.000 متر مربع، بما يشمله من أعلى جُدُر التسلق في العالم، بارتفاع يصل إلى 98 متراً، إلى جانب احتواء البرج على أعلى مضمار للجري في العالم أيضاً، وبطول يصل إلى 250 متراً، نظراً لاشتماله على عدة مرافق رياضية استثنائية، لممارسة أكثر من ثلاثين رياضة مختلفة، بما في ذلك رياضات ذوي الإعاقة، ويحظى هذا البرج الرياضي الفريد بمواصفات جمالية ومعمارية مواكبة لمعايير الكود العمراني المعتمدة في مجمل العمارة السلمانية ذات التصاميم التراثية الجامعة بين الأصالة والحداثة.
أما فيما يتعلق بــ (مشروع الرياض الخضراء) فهو يتضمن 3.330 من حدائق الأحياء والحدائق الكبرى مثل حديقة العروبة (754 ألف متر مربع)، وحدائق: الرمال والمونسيه والقادسية (550 ألف متر مربع)، إضافة لتسعة آلاف مسجد، وثلاثة وأربعين متنزهاً عاماً، وستة آلاف مدرسة، و1.670 منطقة ومنشأة حكومية، وألفى موقع لمواقف السيارات، وثلاثمائة وتسعين منشأة صحية، وأربع وستين كلية وجامعة، وأكثر من 16.350 كم طولي من الشوارع والطرق، وأحزمة خضراء طولية ضمن خطوط مرافق وأبراج نقل الكهرباء وأنابيب البترول لأكثر من 1.100 كم، بالإضافة لحوالي 175.000 من قطع الأراضي الفضاء القابلة للاستصلاح والبناء، إلى غير ذلك من تفاصيل، ستعود على العاصمة بالكثير من المنافع، مثل خفض درجة حرارة العاصمة بمقدار 1.5 إلى 2 درجة مئوية، وخفض ثاني أكسيد الكربون بمقادير تتراوح بين 3 إلى 6% ورفع معدلات الأكسجين والرطوبة بما يحسن جودة التنفس والهواء، وخفض استهلاك الطاقة بمعدلات تصل إلى 650 جيجا واط/ساعة، ودعم البنية التحتية المساعدة على استيعاب غزارة الأمطار وقت الفيضانات، والكثير الكثير من الفوائد الأخرى.
ومن جهة أخرى، يتضمن (مشروع الرياض آرت) إلى جانب المشروعات الأخرى في العاصمة الرياض، تفعيل رؤية 2030 السعودية بخصوص رفع تصنيف مدينة الرياض ضمن قوائم تقييم المدن العالمية، وهو ما سعت من أجله القيادة السعودية إلى تدشين معالم فنية وإبداعية معبرة عن تاريخ المدينة وعن قدرات فنانيها ومحبيها من الفنانين الدوليين الزائرين لها أو المقيمين فيها، وذلك من خلال 1000 مًعلم فني وتاريخي يتم إنجازه لتتوزع جميعاً على كافة الميادين والساحات وأماكن التجمعات الجماهيرية والسياحية، والهدف من هذا هو تحويل الرياض إلى عاصمة فنية وثقافية وإبداعية زاخرة بالحراك الحضاري الجاذب للاستثمارات والموارد الابتكارية، وسيتحقق ذلك من خلال عشرة برامج ثقافية وإبداعية موزعة على أنحاء الرياض، إضافة لاثنين من الاحتفالات السنوية، وهو ما ستظهر معه جميع المعالم والمعارض والفعاليات التي تم تدشينها ضمن هذا المشروع، في أبهى صورة، مثل(مًعلم الرياض)، و(متنزه الفنون)، و(وادي الفن)، (وجسور وادي الفن)، (الفن العابر)، و(محطات الفن)، و(ميادين الفن)، و(بوابات الرياض)، و(جواهر الرياض)، و(حدائق المرح)، و(ساحات الفن)، و(ملتقى طويق الدولي للنحت). ومن بين أهم فوائد هذا المشروع إجمالاً، تعزيز الحركة السياحية في العاصمة، وتفعيل الحراك المجتمعي على المستوى الفني والحضاري والمعرفي وتبادل الخبرات الإبداعية، والتعريف بمهارات فناني ومبدعي العاصمة، وتحويل المدينة إلى حاضنة للأعمال الفنية المحلية والإقليمية والدولية.
وعلى ذكر السياحة في مدينة الرياض، تشكل مجموع المشروعات السابقة، حافزاً اقتصادياً كبيراً سيكون له مردوده الإيجابي على المدينة، حيث تدرك القيادة السعودية جيداً أن تلك المشروعات من شأنها تطوير المدينة وتحسين اقتصادها، وخاصة الاقتصاد المرتبط بالتنمية السياحية الهادفة لزيادة جاذبيتها للزوار، ولذلك كان من بين أهم الإضافات الرئيسية من حيث التطوير السياحي هو حرص القيادة على النهوض بمدينة الدرعية التاريخية وتقديمها كمعلم سياحي جاذب للزوار ومتفاعل مع كافة الثقافات والحضارات، خاصة وأنها تعد من قبيل العاصمة الثقافية للمملكة العربية السعودية، وبالتالي، ستقدم هذه المدينة لروادها وزائريها، العديد من التجارب التراثية الفريدة، والتي تؤرخ لأكثر من 300 عام من الثقافة والتاريخ السعودي الأصيل، جنباً إلى جنب، مع تقديم خدمات استضافة وإقامة سكنية ومعيشية على أحدث طراز، الأمر الذي سيساهم في تعزيز الوعي بقيمة العاصمة الرياض كوجهة سياحية وترفيهية، حيث يقع (مشروع بوابة الدرعية) على بعد دقائق فقط من وسط مدينة الرياض، وهو أحد مفاتيح التطوير الأساسية للملف الاقتصادي للمدينة وللعاصمة ككل بحلول 2030.
وكان من بين أهم المشروعات السعودية الرائدة في العاصمة الرياض، تلك المشروعات المتعلقة بتحسين البنية التحتية للنقل العام، وعلى رأسها (مشروع مترو الرياض) والذي يعد أحد أساسيات التحديث والتطوير والتحول الإيجابي بالمدينة، وهو نظام نقل سريع وجديد سيساعد في تخفيف الازدحام المروري في العاصمة، وسيشمل المشروع الذي تبلغ تكلفته 22.5 مليار دولار، أكثر من ستة خطوط مترو، و 85 محطة، تمتد عبر شبكة طرق طولها 176.1 كلم، وبإجمالي عدد قطارات 202 قطار عند بداية التشغيل، قابلة للزيادة إلى 338 قطار، وبطاقة استيعابية 1.16 مليون راكب يومياً، تزداد مستقبلاً إلى 3.6 مليون راكب، بفعل زيادة عدد القطارات وتقليل زمن التقاطر، وهو ثاني نظام مترو في البلاد بأكملها، ويعمل بالكهرباء فقط، ما سيكون له تأثير إيجابي للغاية على انبعاثات الكربون في المدينة.
وتعد مشاريع البنية التحتية الطموحة هذه التي تشهدها مدينة الرياض، العامل الأول الذي يساعد العاصمة على استيعاب الفعاليات والمشروعات الاستثمارية المتعددة التي تتبناها المملكة العربية السعودية ضمن خطط التطوير والإصلاح، أو الإسهام في إدارتها وتشغيلها بالشكل الذي يحقق هدف القيادة السعودية في أن تتبوأ البلاد مكانتها اللائقة والجديرة بها في قمة الاقتصاد العالمي، ولعل ما تشهده الرياض من زخم موسمي وسنوي حافل بالكثير من الإثارة والمتعة والترفيه والأنشطة والمسابقات المختلفة خلال فعاليات موسم الرياض كل عام، لهو أكبر دليل على مدى الجهد التخطيطي المبذول من قبل تلك القيادة، لتكون المدينة جاهزة كل الجاهزية للتعاطي الإيجابي مع زحمة التفاصيل والفعاليات التي يشهدها هذا الموسم كل عام، وذلك منذ دورته الأولى عام 2019، وهي المواسم المتتابعة التي أصبحت مثار إعجاب الزائرين من كافة الدول والشعوب حول العالم، حيث ألق الإبهار وصفقات البيزنس والحضور المميز لرجال المال والأعمال.
ولعل هذه الإنجازات التي تجري على قدم وساق في مدينة الرياض المتطورة والآخذة في التطور، كانت الدافع وراء تلك التوقعات الإيجابية التي أطلقتها شركة (Savills) البريطانية المتخصصة في الاستشارات العقارية، ضمن مؤشرها الخاص للنمو الحضري، حول العاصمة السعودية، حيث توقعت الشركة أن تكون الرياض من بين المدن الــ 15 الأسرع نمواً على المستوى الدولي خلال العقد القادم، والوحيدة عربياً على هذا الصعيد، وذلك بالنظر لما تشهده المدينة من تهيئة العديد من فرص التوسع العمراني وتطوير بيئة الأعمال، وكون أنشطتها الاقتصادية تشكل أكثر من 49.5% من الموارد غير النفطية، وأيضاً لما تتمتع به من ميزات استثمارية ووظيفية تهبط بكلفة تكوين الوظائف وتطوير البنى التحتية، بنسبة تزيد على 28% مقارنة بباقي مدن المملكة، على حد توصيف المؤشر الحضري للشركة البريطانية، وهو ما يفسر بكل تأكيد، حالة التفاعل الاقتصادي والاستثماري الضخمة التي تشهدها الرياض بفعل مركزيتها الجامعة للشركات المحلية والدولية الكبرى، والعاملة في العديد من المشروعات السعودية العملاقة التي يطلقون عليها(Giga projects)، حيث شهد النصف الأول من هذا العام 2024، وتحديداً في شهر مايو الماضي، اجتماع المئات من الشخصيات والشركات فيها للتنسيق حول مواصلة العمل على إنجاز هذه النوعية من المشاريع في الدرعية والبحر الأحمر وروشن ونيوم والقدية وغيرها، والتي يتجاوز حجم تمويلها الاستثماري قرابة الــ 900 مليار دولار أمريكي.
وبعد، ستشكل العاصمة السعودية الرياض وفق حراكاتها الفاعلة والمتنوعة وحجم ما تشهده من تطوير متواتر، وأيضاً وفق تنوع إبداعات ومهارات وأنشطة عدد سكانها الذي يتجاوز سبعة ملايين نسمة، أهم عامل من عوامل نجاح رؤية المملكة 2030، في تحويل الاقتصاد الوطني المحلي إلى أكبر الاقتصادات غير النفطية المتطورة والأكثر تنوعاً في منطقة الشرق الأوسط، وعلى المستوى الدولي، وهي فوق كل هذا سيتعاظم دورها الإقليمي والدولي الكبير، كواحدة من المراكز السياسية والاقتصادية والثقافية الرئيسية في المنطقة والعالم، إضافة إلى كونها تمثل المركز المالي والاستثماري الرئيسي في البلاد، والمدينة الجامعة للتوازن بين التراث والحداثة في المجتمع السعودي المعاصر.