تتربع المملكة العربية السعودية على رأس قائمة الدول العربية المستحوذة على أكبر المخزونات النفطية في المنطقة والعالم، ففي تقريرها السنوي الصادر خلال 2023، وضعت الوكالة الدولية للطاقة معدلات الاحتياطي النفطي السعودي على رأس تلك القائمة، وبواقع احتياطيات قوامها 267.19 مليار برميل، وبالعودة إلى الوراء قليلاً، سنجد أن الأرصدة النفطية المركوزة والمؤكدة في المملكة، وفق تقارير صادرة عام 2019، كانت تتجاوز 297.5 مليار برميل، أي بما يزيد على 16.9% من إجمالي الاحتياطيات العالمية، وهذه النسب المرتفعة تجعل من السياسات النفطية السعودية، ذات أهمية قصوى وبالغة بالنسبة لأسواق الطاقة وأسواق النفط الخام الذي تقوم الرياض بتصدير الجزء الأكبر منه، باعتباره يمثل ركيزة أساسية من ركائز الاقتصاد الوطني.
وبالإضافة إلى ذلك، فإن العضوية المميزة للمملكة في كل من منظمة الدول المصدرة للبترول (أوبك) وتحالف (أوبك+)، يتيح لتلك السياسات النفطية فرصاً مستدامة في التحكم إلى حد بعيد في توجيه ملامح التدفقات النفطية عبر سلاسل الإمداد المختلفة، كما يجعل أقدامها راسخة وثابتة كدولة محورية وذات نفوذ في بنية التجارة الدولية.
ومؤخراً ألقت الحرب الأوكرانية بظلالها المفاجئة على المسألة النفطية العالمية، كما انعكست التداعيات الناجمة عن تحولات العلاقات الدولية على المسألة ذاتها، وخاصة تطورات العلاقة بين الرياض وواشنطن من جهة، والرياض وموسكو وبكين من جهة مقابلة، في حين فرضت أسعار النفط المتأرجحة منطقها الآخر على كل تلك التفاصيل، الأمر الذي أثار سؤالاً مرحلياً حول محددات السياسة النفطية الراهنة في المملكة العربية السعودية، ومستقبل هذه السياسة في ظل الأوضاع الدولية والإقليمية الملتبسة، وكذلك في ظل بروز تلميحات أمريكية مراوغة بإمكانية تفعيل مشروع قرار يقضي بتحجيم نفوذ أوبك وأوبك+.
كتب: محسن حسن
خطوط عريضة
بداية، يجب التأكيد على أن السياسة النفطية للمملكة العربية السعودية، ترتكز إلى قدم راسخة من وفرة الاحتياطي النفطي من جهة، ومن امتلاك ميزة الاستخراج والإنتاج منخفض التكلفة من جهة ثانية، ثم من تنوع الإنتاج الخام من جهة ثالثة، وأخيراً من اختلاف أوضاعها السياسية والعسكرية والأمنية المستقرة، قياساً بالأوضاع الأخرى الموازية والمضطربة لدى منتجي النفط الإقليميين و المنافسين الأعضاء في أوبك كالعراق وإيران والكويت مثلاً؛ حيث ساهمت عوامل الاستقرار وعدم التورط في حروب طويلة الأمد، في إقرار نهج نفطي منتظم تستطيع من خلاله الرياض حماية مخزونها والتحكم في معدلات إنتاجه وفي الاعتبارات المتاحة من حيث العرض والطلب، الأمر الذي منح سياسات إدارة النفط السعودي أريحية في التعاطي مع تقلبات السوق أو مع الصدمات والأزمات المالية الإقليمية والدولية، وكذلك مع تكييف المردود المالي للعوائد النفطية التي ظلت على مدار عقود ماضية وإلى الآن، تشكل المصدر الأساسي من مصادر الدخل القومي والموازنة العامة والنفقات الحكومية.
ولا تقتصر أريحية السياسات النفطية للمملكة هنا على النواحي الاقتصادية فقط، وإنما تتجاوزها إلى الاعتبارات السياسية ومنطلقات العلاقات الدولية والدبلوماسية؛ حيث يُسهم الثقل النفطي الإقليمي والدولي للسعودية، في تهذيب الكثير من المواقف الدولية وفق مقتضيات المصلحة العليا للبلاد، وضمن سياق القضايا الماسة بالأمن الإقليمي وإدارة التحالفات مع القوى الكبرى، ولعل ما تشهده الساحة الدولية الآن على خلفية الحرب الروسية الأوكرانية، من سجالات جدلية بخصوص قرارات خفض الإنتاج النفطي الصادرة عن أوبك وأوبك+، لهو خير دليل على إمكانية خروج المسألة النفطية من حيز الاقتصاد إلى حيز السياسة والاستراتيجية.
اقرأ ايضاً: السعودية وأزمة البحر الأحمر.. السياسة قبل الحرب
سياسات مغايرة
ومن خلال ما شهدته وتشهده المملكة العربية السعودية من متغيرات راهنة على مستوى السياسات الاقتصادية والاستثمارية والتجارية، ظهرت سياسات نفطية مغايرة كثيراً عما كانت عليه قبل وجود تلك المتغيرات؛ فقبل انطلاق استراتيجية 2030 الإصلاحية، لم تكن التوجهات الاقتصادية للمملكة تستهدف غير مراعاة الريع النفطي، ومن ثم، كانت السياسات النفطية متحررة من القيود والضغوط التي تتعرض إليها الآن بفعل تعاظم الأهداف التنموية والإصلاحية والاستثمارية الرامية إلى تنويع الاقتصاد والموارد وفي مقدمتها موارد الاقتصاد غير النفطي؛ لذا فقد باتت سياسات النفط السعودية الراهنة، محكومة بتحقيق طموحات وأهداف استراتيجية الإصلاح والتطوير؛ فبالإضافة إلى تنظيم أسواق النفط العالمية، والعمل على استقرارها عبر تحقيق التوازن المطلوب بين العرض والطلب، وتجنب تذبذبات الأسعار الكبيرة المؤثرة في الاقتصادين المحلي والعالمي، توجد مهام أخرى لتلك السياسات، يأتي في مقدمتها تحريك عجلة القطاعات الاقتصادية غير النفطية كالسياحة والترفيه والطاقة المتجددة، إلى جانب تعزيز القيمة المضافة للإنتاج النفطي من خلال دعم الاستثمار وزيادة الصادرات في قطاع البتروكيماويات، جنباً إلى جنب، مع رفع كفاءة القطاع النفطي ذاته من خلال تحديث تكنولوجيا صناعة النفط والغاز و تطبيق تقنياتها المختلفة كتحليل البيانات والتعدين الذكي والتحكم الآلي، وكذلك تطبيق معايير الاستدامة البيئية والاستخراج النظيف وفق أحدث التقنيات، بالتزامن مع تطوير المشاريع الطاقية كمشاريع طاقة الرياح والطاقة الشمسية وعموم المشاريع الخاصة بتنويع منظومة الطاقة المتجددة، و هو ما يتطلب بالضرورة، توسيع نطاق الاستثمارات النفطية الخارجية، وإبرام شراكات منفتحة مع شركات النفط الدولية لتبادل الخبرات وتعزيز الموارد.
اقرأ ايضاً: البيع على الخارطة في المشاريع العقارية السعودية ماله و ما عليه!
تقاطعات المصالح
وبالطبع، لا يمكن استبعاد أو تحييد الخلافات الدولية محتملة الظهور نتيجة تباين الإجراءات والآليات الخاصة بسياسات المملكة النفطية وسياسات أوبك وأوبك+ من جهة، مقابل المصالح الأمريكية الداخلية ومعها مصالح واشنطن الاستراتيجية في المنطقة والعالم، من جهة أخرى، وهذه الخلافات بدت واضحة للعيان على خلفية الأزمة الروسية الإوكرانية، وقيام منظمة الدول المصدرة للبترول أوبك باتخاذ قرار خفض الإنتاج النفطي بواقع مليونى برميل نفط يومياً للحفاظ على تماسك السوق، وهو ما أشعل فتيل الخلاف بين واشنطن والرياض؛ حيث قامت الأولى بتوجيه اتهام صريح للثانية بأنها مارست ضغوطاً على أوبك أدت لاتخاذ هذا القرار الذي يقدم من وجهة نظرها، دعماً لوجيستياً ومالياً لروسيا ويُضعف من العقوبات الدولية المفروضة عليها ويمكنها من الحفاظ على زخم آلتها الحربية في أوكرانيا، على الرغم من معارضة بعض أعضاء أوبك لقرارات الخفض مثل العراق والإمارات، وهو ما ردت عليه الرياض ببيان قوي اللهجة أكدت خلاله أنها لا تقف إلى جانب روسياً، وأن قرارات خفض الإنتاج اقتصادية محضة، وتهدف إلى ضمان استقرار أسواق النفط، و لا علاقة لها بالاعتبارات السياسية والعسكرية التي يثيرها البيت الأبيض، والذي رفض بدوره التفسير السعودي، مؤكدا قيامه بإعادة تقييم علاقته مع السعودية كحليف في منطقة الشرق الأوسط، وذلك بعد أشهر قليلة من فشل زيارة الرئيس الأمريكي (جو بايدن) إلى جدة، في إقناع الرياض بالعدول عن قرارات خفض الإنتاج، وهو ما أدى إلى انخرط بعض أعضاء الكونغرس الأمريكي في المطالبة بتطبيق عقوبات على السعودية قوامها تجميد مبيعات الأسلحة الأمريكية، بل ذهب بعضهم إلى أكثر من ذلك، وهو إحضار مشروع قرار قانون نوبك (NOPEC) مجدداً إلى الواجهة، وهو ما لم يفت في عضد الإصرار السعودي على المضي قدماً فيما تقتضيه المصالح الاقتصادية العليا لقطاع النفط السعودي من جهة، ولاستقرار أسواق النفط العالمية وعدم اهتزازها من جهة ثانية.
اقرأ ايضاً: كيف أثّر تخفيض إنتاج النفط على اقتصاد السعودية؟
نوبك (NOPEC)؟
وعلى ذكر مشروع قانون (NOPEC)، تجدر الإشارة هنا إلى أن مشروع القانون هذا، يعود إلى العام 2000 أي منذ أكثر من عقدين، عندما تم تقديمه للكونغرس الأمريكي لأول مرة تحت ستار مكافحة احتكار أسواق النفط العالمية، وتعزيز المنافسة النفطية، وكان الهدف الحقيقي من وراء مشروع هذا القانون، هو فتح باب التدخل الأمريكي في قرارات منظمة الدول المصدرة للبترول (أوبك)، حيث يتيح القانون ـــ وفق بنوده المقدمة ــــــ للإدارات الأمريكية المتتابعة، امتلاك صلاحية مقاضاة أعضاء المنظمة ومعهم الشركات العاملة في القطاع النفطي، حال وجود مؤثرات(احتكارية) للأسعار والإمدادات على السواء، ومن ثم، فقد كانت النية تتجه من خلال هذا القانون، إلى تفكيك الحصانة السيادية لأوبك، وتمكين التقاضي ضد (الاحتكار) عبر تذليل كافة المعوقات التشريعية التي تحول دون قدرة الحكومات الأمريكية على اتخاذ إجراءات عقابية ضد أعضاء المنظمة، مثل فرض غرامات مالية أو تطبيق عقوبات شبيهة بتلك التي تعرضت لها إيران مثلاً في ملفها النووي، ولكن رغم تقديم مشروع القانون هذا أكثر من مرة لدى الكونغرس، إلا أنه لم يتم تمريره حتى الآن، ولكنه يبقى مشكلاً ورقة ضغط محفوفة بالكثير من المحاذير والاعتبارات الخاصة لدى كل من الولايات المتحدة و جميع الأعضاء في أوبك، نظراً لما يمثله من احتمالية الصدام بين الجانبين؛ فعلى الرغم من أن بنود هذا القانون تسير في اتجاه تعزيز جهود واشنطن لضمان استقرار أسعار نفطية تحافظ على مصالحها الاقتصادية والطاقية، إلا أن ظلال القانون حال تمريره، وآثاره المحتملة، قد يشكل العديد من المخاطر المستقبلية على تلك المصالح الأمريكية، خاصة في ظل تراجع النفوذ الأمريكي سياسياً واستراتيجياً على أكثر من صعيد إقليمي ودولي، ولعل هذا هو الدافع وراء إرجاء البت في إقراره وتمريره حتى الآن.
اقرأ ايضاً: السعودية تؤسس لشراكة فاعلة مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية وتضع الحليف الأمريكي أمام مسؤولياته
فحوى الخلاف
وبإمعان النظر في مضمون الخلاف الأمريكي مع توجهات السياسة النفطية السعودية، يتضح قصور النظرة الأمريكية من جهة، مقابل بعد نظر القيادة السعودية من جهة أخرى؛ فإدارة الرئيس بايدن لا تنظر إلا تحت أقدامها، متشبثة بأهداب التخفيف السريع من حدة المعاناة الطاقية الداخلية للمواطنين الأمريكيين رغبة في الحصول على أصواتهم في الانتخابات النصفية القادمة، فبحسب تقديرات وزارة الطاقة الأمريكية، ستؤدي قرارات خفض الإنتاج الصادرة عن أوبك وأوبك+، إلى رفع أسعار النفط بين الأمريكيين خلال الربع الثاني من العام الحالي 2024 بنسبة تزيد على 11.3%، ترتفع إلى أكثر من 14.4% خلال الربع الثالث، قبل أن ترتفع متوسطات أسعار النفط بنسبة تفوق 19.3% في نهاية العام ذاته، وبواقع 80 دولار للبرميل، وهذه هي الاعتبارات الأكثر إلحاحاً بالنسبة للإدارة الأمريكية الراهنة.
ومن جهة مقابلة، فإن القيادة السياسية في الرياض، تدرك جيداً حجم التبعات التي تتطلبها وتيرة الإصلاح الوطني المنشودة في الداخل السعودي للجيل الحالي وللأجيال القادمة، كما تدرك تماماً، أنه في الوقت الذي تتجه فيه السياسة الوطنية للدولتين نحو إعلاء المصالح العليا الداخلية وفق منطق المصلحة العملي والاستراتيجي، فإن مفهوم هذه المصلحة يظل لدى القيادة الأمريكية مغلفاً بغرور القوة وحب الذات، إلى جانب إغفال مقتضيات الشراكة مع الحلفاء، وعلى رأسهم الحليف السعودي، الذي طالما قدم ويقدم المزيد من حسن النوايا والأفعال تجاه تلك الشراكة وتجاه العديد من القضايا الماسة بأمن المنطقة والعالم، حتى في أحلك الظروف والأوقات؛ ففي حين تنتهج المملكة العربية السعودية سياسة نفطية تميل إلى تثبيت الأسعار عند معدلات مرضية و مقبولة تعزز مصالحها على المدى الطويل باعتبارها مالكة لأكبر احتياطي نفطي في العالم، وهي سياسة نفطية راسخة وثابتة من الناحية التاريخية، وهي منطقية أيضاً، تهدف من ورائها المملكة إلى الاحتفاظ بمكانتها كدولة ترجيحية لأسعار النفط و إمداداته في السوق العالمية، إلا أن واشنطن بدورها تريد أن تتعامل مع هذه السياسة تعامل المنتفع الأناني الذي يرغب في تحقيق مصالحه الطاقية حتى ولو كانت على حساب مصالح الآخرين الاقتصادية، ولذلك فإن معركة خفض الإنتاج النفطي الدائرة منذ عدة أشهر وإلى الآن، تشكل تنازعاً في المصالح بين واشنطن والرياض، وهو تنازع تدرك فيه الأخيرة أنها بصدد ممارسة حقها المشروع في إدارة سياساتها النفطية المتوافقة مع طبيعة تطلعاتها وطموحاتها الاقتصادية الملحة والراهنة، وكذلك مع طبيعة التحولات الاستراتيجية الإقليمية والدولية، والتي تقتضي فهم مآلات الأمور، وإدراك التوقيت المناسب في إشعار الحلفاء والمنافسين على السواء، باستقلالية القرار الوطني السعودي.
اقرأ ايضاً: نقل المقرات الإقليمية للشركات العالمية.. يحول الرياض لعاصمة الاقتصاد في المنطقة
توقيت حرج
و لاشك أن توقيت اختيار أوبك وأوبك+ لتوافقات خفض الإنتاج بواقع 2.2 مليون برميل من النفط يومياً، أي بما يوازي 2% من إجمالي الإنتاج العالمي، هو توقيت ملتبس إلى حد بعيد، وجاء في خضم أزمة جيوسياسية متصاعدة تجتاح القارة الأوروبية في ظل الحرب الروسية/الأوكرانية، كما أن وضعية الجيش الروسي في هذا التوقيت داخل الساحة الأوكرانية، كانت أشبه بمن وقع في بركة من الوحل لا يستطيع الفكاك منها، خاصة مع قرارات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي تسقيف أسعار النفط الروسي الخام المنقول بحراً، وهو ما وضع المصالح السياسية والاقتصادية والمالية لموسكو على المحك، ودفع الرئيس الروسي إلى التصريح بعدم الالتزام بهذا التسقيف والخفض للأسعار، بل والتهديد بمنع منتجي النفط والغاز الروسيين من بيعهما لأي طرف دولي أو إقليمي يوافق على تلك القرارات الأمريكية الأوروبية، وكان مما زاد من الشكوك الأمريكية والأوربية بشأن الدوافع الخاصة بقرارات خفض الإنتاج الصادرة عن أوبك وأوبك+، المشاركة الفعالة لـــ(ألكسندر نوفاك) رئيس الوزراء الروسي ضمن اجتماعات أوبك+ التي تمخضت عن اتخاذ قرارات الخفض، وهو ما استنتجت منه الإدارة الأمريكية وجود مساع روسية في اتجاه الرد على قرارات تسقيف أسعار النفط الروسي عبر إقناع أوبك+ بالخفض النفطي لاستعادة الأسعار الفائقة لبرميل النفط(أعلى من 100 دولار للبرميل) وبالتالي تعويض الخسائر الناجمة عن العقوبات الأمريكية والغربية، وهو ما نجحت فيه روسياً فعلياً من خلال شركتها الحكومية للنفط(روسنفت Росне́фть) والتي حققت خلال النصف الأول من 2023، أرباحاً تزيد على 7.1 مليار دولار، ولذا، تنظر الإدارة الأمريكية لقرارات أوبك وأوبك+ السارية حتى اللحظة، على أنها أعلى درجات الدعم المقدمة للكرملين في عزلته الدولية المفروضة منذ فبراير 2022، و هي النظرة التي وإن بدت منطقية من واشنطن وأوروبا، إلا أنها لن تغير من أحقية الرياض في فرض سياساتها النفطية الضابطة للأسواق والأسعار، والتي تراها مناسبة وداعمة لتوجهاتها الإصلاحية والتحديثية والاستثمارية وفق استراتيجيتها للعام 2030، وفق ذات المنطق السيادي الذي تتعامل به الإدارات الأمريكية المختلفة مع المجتمع الدولي.
اقرأ ايضاً: كيف حققت السعودية تقدماً هائلاً في الساحة الاقتصادية العالمية؟
مقتضيات المرحلة
وعلى صعيد المنطلقات الاقتصادية والنفطية الراهنة، يتبين لنا أن الدعم السعودي لقرارات خفض الإنتاج النفطي، والإصرار على المضي قدماً في تنفيذها، رغم حرج التوقيت والملابسات، يشكل بعداً خلاقاً من أبعاد الممارسات المدروسة بدقة لمفاهيم الاقتصاد السياسي المرن و المتطور وفق الظروف والمعطيات المتاحة على أرض الواقع، وذلك من عدة وجوه، لعل أبرزها هو اعتيادية القرارات وتاريخية السياسة النفطية للمملكة ولمنظمة أوبك، فهذه سياسات نفطية دائمة سبق وأن اتخذتها أوبك مراراً، وفي ظروف مختلفة بين السلم والحرب وعكسهما، ثم إن ركوداً عالمياً يلوح في الأفق، ويقتضي تفعيل تلك السياسات من خلال قرار جماعي لأعضاء المنظمة وليس بقرار فردي للرياض.
و من جهة أخرى، فإن تطبيق قرارات الخفض، لا تزال تحرص فيه المملكة وأوبك على التدرج والمرحلية ومراعاة الاعتبارات الخاصة بالمستهلكين والحلفاء، مع إدراكها لحركة أسواق النفط التي يرجح أن تشهد خفضاً بالقيمة الحقيقية قد يتجاوز مليون برميل نفط/يومي، وفي ظل وفرة المعروض النفطي حالياً وتراجع الأسعار عند حدود 80 دولار للبرميل بما لا يفي بالتزامات الإنفاق الحكومي، يتجه سبعة أعضاء من أوبك+ هم روسيا والعراق والإمارات العربية المتحدة والكويت وكازاخستان والجزائر وعمان، إلى تمديد قيود قوامها 900.000 برميل يومياً خلال الربع الأول من 2024، إضافة لتخفيض مليون برميل أخرى يومياً من قبل المملكة العربية السعودية، وهو ما يمكن أن يمتد للربع الثاني من العام ذاته.
وفق ما تتطلبه مقتضيات المرحلة الراهنة من ضبط الأسواق والأسعار وتحقيق الأهداف المباشرة وغير المباشرة.
اقرأ ايضاً: قطاع الموانيء البريطاني قوة اقتصادية محفوفة بمخاطر المرحلة وشراسة المنافسين.. ماذا عن موانيء الخليج؟
المغزى والسؤال
وبنظرة تحليلية متأنية لخلافيات الإنتاج النفطي الراهنة بين واشنطن والغرب من جهة، وأوبك وأوبك+ والسعودية من جهة ثانية، نجد أننا بصدد مغزى واضح ومفهوم، إلى جانب سؤال مرحلي معقد وملغوم، وكلاهما يزيح الستار عن طبيعة المشهد الإقليمي والدولي الراهن من الناحية الاقتصادية والسياسية والاستراتيجية على السواء، أما المغزى الواضح والمفهوم، فيتجسد في النظرة الأمريكية المرتابة دوماً من قبل إدارة الرئيس الأمريكي الحالي(جو بايدن) تجاه المواقف السعودية المتعلقة بقضايا الاقتصاد والأمن والاستراتيجية ومقتضيات السياسة الدولية، وفي واقع الحال، تمنحنا هذه النظرة ذلك المغزى الصريح، لهيمنة مشاعر الخوف الأمريكي المتزايد من التعرض لعزلة دولية أصبحت وشيكة الحدوث على مستويات وصعد عديدة، يتم خلالها سحب البساط من تحت الولايات المتحدة الأمريكية في كل تلك القضايا التي تشكل فيها المملكة حجر الزاوية وفق أطر ومسارات غاية في الخطورة والأهمية؛ فدائماً ما يشي التململ الأمريكي الدائم لهذه الإدارة تجاه الاهتمامات الملحة والضرورية للرياض، بذلك الخوف المرحلي الدفين من إمكانية حدوث تحولات جذرية تلقي بظلالها على علاقات البلدين، وتخسر خلالها واشنطن حليفاً استراتيجياً في المنطقة والعالم لصالح أطراف أخرى منافسة.
وأما السؤال المرحلي الذي نحن بصدده هنا، فهو: لماذا أصبحت قرارات وسياسات ومصالح وتوجهات المملكة العربية السعودية عصية على هيمنة وتسلط المصالح الأمريكية عليها؟ والجواب بكل تأكيد، يكمن في التحرر السعودي الدقيق والموضوعي من أسر تلك المصالح، عبر القراءة الواعية والمتزنة لمآلات الأوضاع المشتبكة التي يزدحم بها المشهد العالمي، وهو تحرر يظل إلى حين، مشوباً بالمزيد من تعقيدات ملغمة يعانيها الوضع الإقليمي والدولي.
خلاصة القول
وفي ختام هذا العرض، لا يسعنا إلا التأكيد على أن السياسات النفطية السعودية الراهنة، تسير في الاتجاه الصحيح نحو تقدير المصلحة الوطنية للبلاد، ونحو مراعاة خطط الإصلاح الاقتصادي الرامية إلى تعزيز مكانتها التجارية وأمنها الإقليمي، وأنه حتى مع افتراض موافقة الرأي القائل بأن قرارات خفض الإنتاج النفطي لأوبك و المدعومة من الرياض، كانت تؤشر ابتداءً إلى إرسال إلماحات ضمنية موجهة للإدارة الأمريكية والبيت الأبيض، بوجود تحوُّل سعودي محتمل نحو العمل مع روسيا، في ظل هشاشة التحالف مع تلك الإدارة، وبوجود رغبة لدى الرياض في تعريض الديمقراطيين في البيت الأبيض لأزمات داخلية يمكنها الإطاحة بهم من سدة الحكم، حتى في ظل موافقة هذا الرأي المبالغ في تصوره ومنطقيته، تبقى سياسات النفط في المملكة، جديرة بحجم قرارها السيادي الجريء، خاصة مع حجم التعنت الذي تبديه الإدارة الأمريكية تجاه المطالب الأمنية والعسكرية والنووية للسعودية، وأيضاً مع ما تمثله روسيا من قوة نفطية دولية يصعب تجاوزها أو استثناؤها، بالإضافة للتقلبات والتحولات المستمرة في الأسواق الطاقية، جنباً إلى جنب، مع وجود اعتبارات أخرى مهمة ومحورية، مثل عودة تدفق النفط الإيراني إلى الأسواق الدولية على خلفية احتمال تجديد طهران اتفاق منع الانتشار النووي مع واشنطن، وهو ما سيزيد من المعروض النفطي في الأسواق، وفي كل الأحوال، باتت القيادة السعودية قادرة على تحريك المياه الراكدة في علاقاتها المتجددة مع القوى الكبرى في العالم، تارة عبر المبادرات الدبلوماسية، وتارة أخرى عبر سطوة مكانتها النفطية، وهو ما يستوجب الكثير من الحيطة والحذر، كما يستوجب إظهار جدوى تحالفاتها النفطية في حماية الاقتصاد الدولي، وخاصة تحالفها في أوبك+، والذي كان له دور حيوي في تحصين منتجي النفط ضد صدمات كوفيد19، وقبله ضد منعطفات ثورة الصخر الزيتي الأمريكية عندما تحولت الولايات المتحدة من مستورد صاف إلى منتج عالمي رائد للنفط، يستطيع التلاعب بتدفقات النفط وإمداداته.