في لحظة فارقة تحمل الكثير من الرمزية والدلالات بين السعودية وسوريا، حلّ وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان ضيفاً على العاصمة السورية دمشق، في زيارة شكّلت منعطفاً جديداً في العلاقات بين البلدين، ودفعة قوية للمساعي الإقليمية الرامية إلى استعادة سوريا لمكانتها الطبيعية في العالم العربي. وجاءت هذه الخطوة بعد سنوات من الجفاء السياسي، لتحمل مؤشرات واضحة على رغبة سعودية حثيثة بإعادة صياغة العلاقة مع سوريا ضمن إطار شامل يعكس شراكة سياسية واقتصادية واستراتيجية… إليكم تفاصيل الزيارة!
السعودية وسوريا: زيارة تحمل رسائل متعددة
الزيارة التي جرت في اليومين الأخيرين من شهر مايو 2025، لم تكن مجرّد لقاءات بروتوكولية، بل حملت طابعاً عملياً عميقاً وفق المراقبين. فقد بدأ الوزير السعودي جولته بأداء الصلاة في الجامع الأموي، في إشارة رمزية إلى الارتباط الحضاري والروحي بين المملكة وسوريا، قبل أن يلتقي الرئيس الانتقالي السوري أحمد الشرع في قصر تشرين، بحضور وفد اقتصادي سعودي رفيع المستوى.
وأعقب اللقاء مؤتمر صحفي مشترك جمع الوزير فيصل بن فرحان بنظيره السوري أسعد الشيباني، عبّر فيه الطرفان عن التوافق الكبير حول ضرورة تعزيز التعاون في مختلف المجالات، وعلى رأسها الاقتصاد والاستثمار، مؤكدين أن المرحلة المقبلة ستشهد ديناميكية جديدة في العلاقات الثنائية.
تحالف اقتصادي.. واستثمار في التعافي

خلال المؤتمر الصحفي، أكد الأمير فيصل أن المملكة تتطلع إلى شراكة استراتيجية مع سوريا من شأنها تسريع التعافي الاقتصادي، مشيراً إلى أن زيارته تأتي تتويجاً لتوجه سياسي جديد يرعاه الملك سلمان وولي العهد الأمير محمد بن سلمان، ويهدف إلى تمكين سوريا من النهوض مجدداً واستعادة دورها العربي والإقليمي.
وكشف الوزير عن دعم مالي مشترك تقدمه المملكة بالتعاون مع دولة قطر، يستهدف العاملين في القطاع العام السوري لمدة ثلاثة أشهر، كما أشار إلى سلسلة من اللقاءات مع مسؤولين سوريين ستُترجم قريباً إلى مشاريع ملموسة في قطاعات حيوية تشمل الطاقة، الزراعة، الاتصالات، البنية التحتية، والصناعات الغذائية.
دور سعودي محوري في مرحلة ما بعد العقوبات
أبرز ما طُرح خلال الزيارة هو الحديث عن جهود السعودية في التنسيق مع شركائها لرفع العقوبات عن سوريا، وهو ما اعتُبر خطوة نوعية تؤكد تموضع المملكة كفاعل رئيسي في الملف السوري. وقال الوزير السعودي: «نحن نقف مع سوريا اليوم لا من باب المجاملة، بل انطلاقاً من قناعة راسخة بأن الاستقرار في هذا البلد الشقيق هو استقرار للمنطقة برمّتها».
وأضاف: «الشعب السوري أثبت قدرته على تجاوز الأزمات، ونحن نثق أن أبناء سوريا قادرون على إعادة بناء وطنهم بسواعدهم، والمملكة ستكون معهم خطوة بخطوة، استجابة لتوجيهات القيادة السعودية التي تؤمن بأن الأخ يقف دائماً مع أخيه في الأوقات العصيبة».
الشرع: الشراكة مع الرياض أولوية وطنية
من جانبه، أكد الرئيس الانتقالي السوري أحمد الشرع أن بلاده ترحب بعودة العلاقات مع السعودية إلى مسارها الطبيعي، معتبراً أن الشراكة بين دمشق والرياض تحمل بُعداً استراتيجياً ينعكس إيجاباً على المشهد العربي. وأضاف: «الدور السعودي في دعم استقرار سوريا ورفع العقوبات كان له أثر كبير على المجتمع السوري، وقد آن الأوان لمرحلة جديدة تُبنى فيها علاقات راسخة على أساس المصالح المشتركة والاحترام المتبادل».
اقرأ أيضاً: مبادرة طبية سعودية لإنقاذ الأرواح في سوريا
الشيباني: السعودية شريك أساسي
أشار وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني خلال المؤتمر إلى أن سوريا والمملكة دخلتا مرحلة جديدة من التعاون الاقتصادي، مضيفاً أن الأولوية في المرحلة المقبلة هي لإعادة إعمار البنية التحتية، وتحفيز الاقتصاد المحلي، وخلق فرص عمل مستدامة.
وقال الشيباني: «نحن لا نريد مساعدات عابرة، بل نؤمن بأن الشراكات الفاعلة هي وحدها القادرة على دعم التعافي الحقيقي. وما قدمته السعودية خلال السنوات الماضية، خصوصاً في ملف رفع العقوبات، لم يكن عملاً رمزياً، بل موقفاً حقيقياً أحدث فرقاً في حياة الناس».
وعقب الزيارة، أعلنت كل من الرياض والدوحة عن حزمة دعم مالي مشترك لمدة ثلاثة أشهر للعاملين في القطاع العام السوري، وهو ما عُدّ استمراراً للجهود الثنائية الرامية إلى تخفيف الأعباء الاقتصادية على السوريين، وتسريع عجلة التعافي.
ويأتي هذا الدعم امتداداً لمساهمة سابقة قدمتها السعودية وقطر لتسديد مستحقات سوريا لدى البنك الدولي، ما يعكس التزاماً متزايداً من قبل الدولتين في المساهمة بجهود التنمية وإعادة التوازن الاقتصادي لسوريا.
وفود اقتصادية تبحث الفرص الاستثمارية
تضمّن جدول الزيارة جلسات عمل مكثفة بين الوفد الاقتصادي السعودي ونظرائه السوريين، شملت ملفات حيوية مثل الطاقة والسياحة والصناعة والزراعة. وأكد وزير الطاقة السوري محمد البشير أن المملكة أبدت رغبة واضحة في الاستثمار في مشاريع استراتيجية كبرى، لافتاً إلى قرب انعقاد اجتماعات متخصصة لتوقيع اتفاقيات في هذه القطاعات.
وأوضح البشير أن الجهات السعودية المعنية ستقود مبادرات استثمارية متكاملة، تشمل مشاريع تطوير البنية التحتية، ونقل التكنولوجيا، ودعم الصناعات الزراعية، وهو ما سيمنح دفعة قوية لمسيرة إعادة الإعمار.
الرهان على المستقبل
تشكّل زيارة وزير الخارجية السعودي إلى دمشق، بما رافقها من رسائل سياسية واقتصادية، نقلة نوعية في مسار العلاقات بين البلدين. فهي تعكس رغبة واضحة في إنهاء سنوات القطيعة، وفتح صفحة جديدة قائمة على التعاون البنّاء، والتكامل الإقليمي، والتعامل الواقعي مع متطلبات المرحلة.
ومن المؤكد أن هذا الانفتاح السعودي، المدعوم من قطر، سيضع سوريا على طريق العودة إلى الفضاء العربي السياسي والاقتصادي، ويمنحها فرصة حقيقية لاستعادة عافيتها كدولة فاعلة ومؤثرة في محيطها.