كتب: محسن حسن
تحتل السياحة العلاجية في القطاع السياحي العالمي مكانة بارزة من حيث حجم الإسهام الإيجابي في النواتج القومية الإجمالية؛ حيث تشهد أسواق هذا النمط الدولي نمواً بالغ الاستدامة وفق الإحصاءات والمؤشرات الصادرة عن الهيئات والجمعيات المتخصصة في رصد ومتابعة حركة السفر والانتقالات عبر الحدود، حيث أشارت إحداها وهي (جمعية السياحة الطبية) ضمن بياناتها إلى قيام أكثر من 15 مليون شخص حول العالم بالانتقال والسفر إلى بلدان غير بلدانهم من أجل الحصول على الرعاية الطبية سنوياً، ما يوازي نشاطاً اقتصادياً يتجاوز حدود الــــ 65 ألف مليون دولار، وخاصة في دول مثل تايلاند والمكسيك وسنغافورة والهند وتركيا والبرازيل وتايوان وكوستاريكا وماليزيا وكوريا الجنوبية ودول أخرى؛ فعلى سبيل المثال، تشكل تايلاند الصدارة السياحية العالمية حالياً، حيث تجتذب سنوياً أكثر من مليون و200 ألف زائر، تليها المكسيك بواقع مليون سائح علاجي سنوياً أغلبهم من كندا والولايات المتحدة الأمريكية، وفي حين تستقبل هذه الأخيرة ما يقرب من 850 ألف زائر سنوياً للعلاج، فإن باقي دول السياحة العلاجية المشار إليها، تجتذب ما يزيد على مليون و400 ألف سائح، بينما تتفوق دولة مثل أسبانيا في هذا القطاع العلاجي على المستوى الأوروبي تليها فرنسا ثم ألمانيا، وذلك مجملاً بحسب ما تم رصده من تلك الإحصاءات.
عوامل الجذب
وبالنظر إلى أهم العوامل المتحكمة في نمو السياحة العلاجية على المستوى الدولي، سنجد أن الحصول على الرعاية الصحية والطبية السريعة والتقنية بالتزامن مع انخفاض التكلفة قياساً بما يتم في الداخل المحلي، يأتي على رأس تلك العوامل، إلى جانب التحرر من قوائم الانتظار الطويلة والدخول تحت رعاية طواقم طبية متخصصة ومدربة واحترافية إلى جانب دقة التشخيص الطبي وجودة المنتج الدوائي المقدم للمرضى والزائرين، وهنا تبرز عوامل التمايز بين الدول في تقديم الخدمة الطبية، ولا يتعلق الأمر هنا بمجرد المكانة الدولية لمقدم تلك الخدمة، وإنما بمدى توافر الأسباب الجاذبة للسياحة العلاجية؛ فالأمريكان على سبيل المثال يفضلون السفر إلى بنما أو المكسيك أو كوستاريكا للحصول على خدمات جراحات التجميل وطب الأسنان، بينما يفضلون هم وغيرهم دولاً أخرى في جنوب الشرق الآسيوي كالهند مثلاً، عند الحاجة إلى خدمات الرعاية الصحية والطبية في مجال جراحات العظام والأوعية الدموية والقلب، خاصة مع ما تتميز به تلك الدول المستضيفة من توافر أماكن العلاج وكثرة الأطباء المهرة والأكفاء، ورغم أن بعض التقييمات المتخصصة تشير إلى تأخر العامل الاقتصادي وعامل التكلفة ضمن أولويات المسافرين بهدف السياحة العلاجية، إلا أنه يظل من العوامل البارزة والحقيقية؛ حيث يستطيع المرضى الدوليون توفير من 30% إلى 85% من تكلفة الرعاية الطبية، وذلك بحسب البلد مقدم الخدمة ومستقبل الزوار والمرضى.
المملكة والمؤشرات
وفي إطار سعيها الدائم إلى تطوير اقتصادها وقطاعاتها الحيوية المختلفة على كافة الصعد والمستويات، وخاصة القطاع السياحي عموماً وقطاع السياحة العلاجية على وجه الخصوص، أبدت رؤية المملكة 2030، اهتماماً متزايداً بدراسة كافة المؤشرات الخاصة بحركة السياحة العلاجية في دول العالم، رغبة في الخروج بمجموعة من الأولويات والاستراتيجيات العملية والتنفيذية الهادفة إلى تطوير هذا القطاع في البلاد خلال السنوات والعقود القادمة، ولعل من أهم ما يجب أن تتوقف عنده جهود الإصلاح السعودية ضمن هذا السياق، ما تشهده السياحة العلاجية من تحولات نوعية على مستوى حركة السفر الدولية؛ حيث لم يعد طلب الحصول على الرعاية الصحية المباشرة عاملاً وحيداً في إنعاش اقتصاد هذا النمط من السياحة، وإنما بات الاستشفاء والتعافي فيما بعد تلقي الرعاية الصحية، من بين أهم عوامل الجذب السياحي أيضاً، وهو ما يهم المملكة بصفة خاصة وفق ما تتجه إليه كافة جهود التحديث والتطوير الخاصة برفع معدلات كفاءة البنية التحتية، والتوسع في إنشاء حواضن استشفائية بطول المملكة وعرضها، هذا بالإضافة إلى أن ما يجب الخروج به من دراسة حركة السياحة العلاجية دولياً على مستوى الفوائد والاستراتيجيات، سوف يؤدي بالضرورة إلى تغيير القناعات السابقة لدى العاملين بإدارة القطاع الصحي السعودي فيما يخص التوجهات والاعتبارات المحفزة على نمو حركة السياحة العلاجية بين الدول؛ حيث لم تعد الهيمنة على تلك الحركة قاصرة على الدول المتقدمة والحضارية فحسب، وإنما باتت الدول النامية أيضاً تساهم بدورها في امتلاك زمام هذه الهيمنة وترويضها وفق محفزات متجددة وغير تقليدية.
اقرأ أيضاً: البحر الأحمر.. واجهة السياحة الشاطئية في السعودية
الاقتصاد العلاجي
ومن جهة أخرى، يتوجب على المخطط الاقتصادي السعودي، تكثيف التدقيق والنظر في مسار الاقتصاد العلاجي على المستوى الإقليمي والدولي، وخاصة على مستوى الشق السياحي من هذا الاقتصاد، سعياً نحو إدراك الفروق الدقيقة والمحورية التي من شأنها تمكين الاقتصاد الوطني من الإفادة القصوى والمتطورة من قطاع السياحة العلاجية؛ فرغم أن هذا النمط السياحي يعود إلى بدايات يونانية مبكرة ارتبطت بعلاج الأثرياء وطقوس الاستشفاء في العصور القديمة، إضافة إلى أن مهارة الجراحة الطبية في الدول المتقدمة منذ الثمانينيات وصولاً إلى القرن العشرين، ساهم في إبراز نمط الاقتصاد العلاجي ونقله إلى الصدارة في العديد من الدول، إلا أن التوصيات المستحدثة الخاصة بإدارة الأمراض والتعافي الصحي ضمن سياقات مناخية وبيئية وخدمية مخصوصة وقابلة للتنافسية بين الدول، دفع العديد من المجتمعات والحكومات والحواضن الصحية المختلفة، باتجاه العمل على توظيف واستغلال المميزات والموارد الوطنية المتاحة، للوصول إلى معدلات من الاستضافة العلاجية والاستشفائية المؤثرة في مسيرة الاقتصاد الكلي والإجمالي، الأمر الذي تقهقرت في ظله العديد من محفزات السياحة العلاجية لدى الدول الكبرى، مقابل تقدمها ونموها لدى العديد من الدول النامية والصاعدة، والتي أدرك مخططها الاقتصادي، أن متوسط ما ينفقه المريض العابر للحدود في الزيارة الواحدة، قد يتجاوز خمسة آلاف دولار ، وأن سوق السياحة العلاجية قد يتجاوز حدود الــ 70 مليار دولار، بفعل حركة ملايين المرضى المسافرين حول العالم، وأن الاستثمار في أنظمة الرعاية الصحية، يمكنه أن يجني أرباحاً مالية طائلة، إلى جانب قدرته على تعزيز التنافسية الطبية والصحية مع الدول المتقدمة، وهو ما يجدر بالمملكة العربية السعودية، أن تضعه في مقدمة أولوياتها الإصلاحية خلال السنوات القادمة.
اعتمادية سعودية
وعلى ذكر الرعاية الصحية ومعاييرها المحفزة على رفع معدلات الجذب الخاصة بحركة السياحة العلاجية الدولية، لابد من الإشارة هنا إلى أن المملكة العربية السعودية تحتل مكانة دولية وإقليمية متقدمة على مستوى عدد منظمات الرعاية الصحية المعتمدة وعالية الجودة؛ حيث تمتلك السعودية 105 منظمة صحية في مرتبة تالية للإمارات التي لديها 206 منظمة، مقابل 63 منظمة في البرازيل، و59 في تايلاند، و48 في الصين، و40 منظمة صحية في الهند، بحسب تقديرات الجمعية الدولية للجودة في شركة الرعاية الصحية. (إسكوا) واللجنة الدولية المشتركة للرعاية الصحية، وفي الحقيقة يشكل امتلاك السعودية هذا العدد من المنظمات الصحية، أرضية مشتركة وواعدة لجهود التطوير المنشودة لقطاع السياحة العلاجية؛ إذ لابد وأن يقترن هذا العدد بارتباطات وبيئات وحواضن الجذب والاستشفاء العلاجي المختلفة بطول المملكة وعرضها ضمن سياق من آلية محكمة تجمع بين معايير الاستثمار السياحي والعلاجي الحديث من جهة، ومحفزات الجذب السياحي والخدمي والترفيهي متعدد المستويات من جهة أخرى، جنباً إلى جنب، مع اتخاذ كافة الإجراءات الوقائية التي تجنب الزائرين من المرضى الوقوع في شرك الأمراض المعدية التي مصدرها البيئة الحاضنة، وبكل تأكيد، ستحتاج المملكة، الالتفات أكثر إلى دراسة معايير نمو السياحة العلاجية في دول جنوب شرق آسيا، باعتبار ما تحققه هذه الدول من معدلات نمو مرتفعة في سوق هذا النمط من السياحة الواعدة والمتطورة؛ حيث تظهر الإحصاءات مثلاً أن مستقبل النمو في تلك السوق سيكون في صالح القارة الآسيوية، في ظل نمو سياحة طبية متوقع على المستوى العالمي قد يصل إلى 25%، وبحجم مالي يتم تقديره بأكثر من 60 مليار دولار بحلول 2026، وبمعدل نمو سنوي يزيد على 11%، ووفق التوقعات المتخصصة في مجال الاقتصاد السياحي، يمكن أن تنمو سوق السياحة العلاجية في الصين بمعدل سنوي مركب يزيد على 15% بحلول 2027، وإجمالاً يمكن أن تنمو سوق آسيا والمحيط الهاديء إلى أكثر من 20 مليون دولار بحلول العام ذاته، وهو ما يجب أن يدفع المملكة العربية السعودية، باتجاه الاحتكاك الإيجابي استثمارياً وتقنياً وطبياً بهذه السوق، سعياً نحو اكتساب الخبرات وتجنب المحاذير.
اقرأ أيضاً: السعودية الثالثة عالمياً في نمو السياحة الدولية 2024
النمط الجاذب
وبالإضافة إلى وجوب إدراك المتغيرات الدولية والإقليمية والإنسانية المحيطة بعوامل الجذب السياحي ضمن الشق الصحي والعلاجي، فإنه يتوجب على المملكة أن تعمل جاهدة خلال السنوات القادمة، على تحقيق أكبر قدر من التنسيق الشامل بين المؤسسات والمنظمات الصحية من جهة، وهيئات التطوير والتحديث السياحي والاقتصادي من جهة أخرى، وذلك للوقوف على أهم الأنماط الجاذبة على مستوى السياحة العلاجية، إلى جانب تحديد أهم التخصصات الطبية الأكثر احتياجاً لفئات المرضى العابرين للحدود من أجل العلاج والاستشفاء، وكذلك من أجل إقرار حصانة تأمينية وحمائية للسائح العلاجي تمكنه من الاطمئنان الكامل عند اختيار المملكة كوجهة خاصة للعلاج والتعافي. وفي حال نظرنا إلى أهم توصيات مركز السيطرة على الأمراض فيما يخص التخصصات الطبية الموصى بتطويرها وتنميتها في دول الجذب السياحي والعلاجي، تأتي تخصصات طب الأسنان والجراحات التجميلية وعلاج السرطان وعلاجات ضعف الخصوبة وزراعة الأعضاء والأنسجة وجراحات التخسيس وعلوم الأورام والفحوصات الطبية والأمراض العصبية والعضلية، على رأس التخصصات الجاذبة لحركة السياحة العلاجية عبر دول العالم، وهي التخصصات التي يجب أن تهتم بتوفيرها وتحديثها وتعزيز بنيتها التقنية والعلمية واللوجيستية أي دولة ترغب في رفع كفاءة النمط السياحي العلاجي ضمن بنية اقتصادها السياحي ككل، وبالنسبة للمملكة فإن الواجب هو استهداف كافة هذه التخصصات بالاستقطاب والتوطين المحلي، بحيث تتحول البلاد إلى أحد أكبر واجهات و مراكز الجذب السياحي والعلاجي إقليمياً ودولياً، وهو ما تمتلك البلاد القدرة على تحقيقه في ظل حالة الزخم الحضاري التي تشهدها منذ سنوات.
اقرأ أيضاً: المؤتمر السعودي الدولي لطب الأسنان 2025
إمكانات ولكن
ويؤكد واقع السياحة العلاجية في المملكة العربية السعودية حالياً، الحاجة الماسة إلى رفع التنافسية في هذا الإطار مع دولة خليجية مجاورة هي الإمارات العربية المتحدة، فهذه الأخيرة لا تزال تستقطب العدد الأكبر من الزوار المرضى وطالبي الاستشفاء والعلاج على مستوى العالم بما في ذلك الزوار من الشرق الأوسط وإفريقيا والدول الخليجية، وذلك عبر مدينة دبي للرعاية الصحية، في الوقت الذي يتطلب فيه تطوير سوق السياحة العلاجية بالمملكة، خطوات أكثر إيجابية نحو توظيف البنية التحية الصحية من مستشفيات حديثة وأطباء مهرة وأنماط بيئية حاضنة ومثالية لاستضافة المرضى وراغبي التعافي، التوظيف الأمثل، للنهوض بهذا النمط السياحي وتمكينه من رفد الاقتصاد الوطني بالموارد المالية والاستثمارية اللائقة بحجم القطاع الصحي السعودي المتطور، ومن جهة ثانية، يحتاج قطاع السياحة العلاجية بالمملكة إلى ربطه بقطاع السياحة الدينية ومناسك الحج والعمرة الدائمة، والتي يحرص على التفاعل معها أكثر من 1.5 مليار مسلم؛ إذ من الممكن أن يساعد عامل الانسجام بين هذين القطاعين في رفع كفاءة الحواضن العلاجية السعودية، خاصة مع ما تمثله المملكة باعتبارها وجهة دينية للمسلمين في كافة أنحاء العالم، إلى جانب كونها أصبحت حالياً وجهة حضارية وثقافية للمجتمعات والدول والحكومات في العالم النامي والمتقدم، وهو ما يمنحها قدرات مثالية واعدة، على الترويج والتسويق لمجال السياحة العلاجية مع الاستمرار في تطويره وتحديثه.
توجهات لازمة
وفي الختام، لابد من اتخاذ اجراءات ضرورية واتباع توجهات لازمة من أجل تطوير قطاع السياحة العلاجية في المملكة العربية السعودية بحيث يصبح رافداً أساسياً في تحريك الثروة والدخل الوطنيين، وبداية يجب العمل على إيجاد بعض الإصلاحات التشريعية المحفزة على دخول المرضى الإقليميين والدوليين إلى البلاد، وإزالة كافة العوائق والصعوبات في هذا السياق، إلى جانب أهمية استقطاب الكفاءات الطبية الدولية وتقديم محفزات لتوطينها واستمرارها وعملها في المنظمات الصحية السعودية مع عدم إغفال الجوانب التسويقية وحسن إدارتها عبر منافذ جديدة للتعاطي مع القائمين على تنظيم الرحلات والزيارات العلاجية والطبية ورحلات الاستشفاء والتعافي، إضافة لاتباع سياسة سياحية جاذبة وشاملة تعتمد على تقديم الخدمات المتكاملة للسائح العلاجي بدءاً بتفصيل مميزات الزيارة عبر الحملات الدعائية والمعارض الإقليمية والدولية، وانتهاءً بتقديم خدمات الإقامة والاستجمام والترفيه والدعم النفسي والإنساني، ولابد أيضاً من إيجاد الحلول الجذرية لرفع عبء التمويل الحكومي والرسمي للهيئات الصحية عبر إدخالها ضمن سياقات استثمارية متوازنة يمكن من خلالها التطوير والتحديث الذاتي إلى جانب المحافظة على جودة المنتج العلاجي والخدمات الصحية المقدمة، وهو بدوره ما سيساهم في قيام المملكة باستقطاب زيارات علاجية كبيرة إلى أراضيها من بين أكثر من 40 مليون رحلة وزيارة صحية سنوياً حول العالم، إلى جانب المساهمة أيضاً في رفع معدلات الموارد والأرباح المالية المستخلصة من قطاع السياحة العلاجية، خاصة مع ما يشكله القطاع السياحي السعودي عموماً من مردود اقتصادي يحتل المرتبة الثانية بعد النفط، بالتزامن مع امتلاك القطاع الصحي والعلاجي في البلاد قدرات وكفاءات متطورة في مجالات طبية عديدة مثل مجال زراعة الأعضاء ذلك المجال الذي تتفوق فيه السوق العلاجية السعودية على أسواق طبية وعلاجية وسياحية مناظرة في القارة الآسيوية بصفة عامة وفي الصين بصفة خاصة، جنباً إلى جنب، مع التفوق في مجالات علاجية أخرى كمجال التأهيل النفسي وخدمات التعامل مع الإعاقات الذهنية والعصبية المختلفة، ما يعني أن قطاع الرعاية الصحية السعودي، قادر على إحياء بيئة سياحية علاجية شاملة وجاذبة للزوار من كافة أنحاء العالم، فقط يحتاج الأمر إلى تنسيق جهود الهيئات المعنية بإدارة المنظومة الاقتصادية والاستثمارية والصحية والسياحية على السواء من خلال الربط الإيجابي بينها لكي تصبح تلك الجهود متجانسة إلى حد الإبداع لا مجرد التقليد و الهواية.
اقرأ أيضاً: ماذا بعد مترو الرياض في السعودية؟