خضع الشباب السعودي خلال القرن الماضي لمجموعة من التحولات الفكرية ارتبطت بحالة التغير الاجتماعي التي شهدها المجتمع السعودي، فبين الشباب في مرحلة تأسيس الدولة والمرحلة الحالية التي يعيشونها في ظل رؤية 2030 مجموعة من الانقلابات النوعية التي عصفت بتركيبة البنية الفكرية للشباب الواعد، الذي يمكن وصفه بأنه أصبح محملاً بأصالة الماضي وقوة الحداثة في الحاضر.
ربّما تكون عوامل الانتقال في شكل الحياة كالسكن والاختلاط والتعرض لمزيج من الثقافات وتطور العادات الاجتماعية وترسيخ الأصيل منها، أسهم في بناء وعي فكري جديد عند الشباب السعودي.
ولا يمكن إغفال الدور الذي لعبته الطفرة النفطية التي عاشتها المملكة، وانعكست بهيئة وفرة اقتصادية كانت العامل الأساسي للتغير الاجتماعي والفكري الذي عاشته المملكة وحصد ثماره بالدرجة الأولى جيل الشباب، فظهرت بوادر الابتعاث الخارجي للدراسة وتمكين المرأة.
ولم يكن بالأمر اليسير الانتقال من عقلية القبيلة والمجتمع الديني البحت إلى المجتمع المعاصر، فهذا الانتقال جاء مبنياً على معادلة توازن عناصرها الهوية والقيم والعادات التي انغرست في وعي الأبناء وأعانتهم على الانسجام مع المستجدات الطارئة بأصالة محكمة.
اقرأ أيضاً: شركة NOB لصناعة الخيال تطلق خطط توسعها حتى 2027
وبينما أنشأت الدولة السعودية الأولى على ثنائية الدين والدولة وهو ما يعني بناء الحكم السياسي على أساس ديني، الأمر الذي فرضته طبيعة المملكة بوصفها تضم أغلب المقدسات الإسلامية، وفيها قبلة المسلمين ومركز الحج الإسلامي.
ولأنّ نمط الإنتاج في المجتمع وطريقة توزيع الناتج الإجمالي المحلي تنعكس مباشرة على نمط المعيشة والاستهلاك، فالإنسان في المجتمع القائم على الزراعة يختلف عن ذلك في المجتمع الذي يقوم اقتصاده على طفرة نفطية، أسهمت في تشكيل عقلية الإنسان وسلوكه ونمط تفكيره.
وكما يقول كارل ماركس في نظريته لتطور المجتمعات أنّ العامل الاقتصادي يحدد أسلوب الحياة للمجتمعات من النواحي الاجتماعية والسياسية والفكرية والروحية.
وبالفعل نجد أنّ الشباب السعودي مع عيشه في بيئة اقتصادية تتسم بالرخاء نسبياً وعلى الرغم من هيمنة العامل الديني على كافة مفاصل الحياة، إلا أنّ فكرة الحوار والانفتاح على التيارات الفكرية الأخرى كان حاضرة بقوة، ومنذ الثمانينيات برزت إلى العلن النوادي الأدبية والتي ناقشت شخصيات أدبية كبرى مثل الشاعر والمفكر والناقد السوري أدونيس والكاتب الصحفي والشاعر المصري صلاح عبد الصبور وأعلام الأدب الأوروبي أمثال الفيلسوف والناقد الأدبي الفرنسي “رولاند بارت” والفيلسوف والناقد الفرنسي الجزائري “جاك دريدا”.
اقرأ أيضاً: مدينة مسك تحتفل بالإبداع
وشهدت النوادي الأدبية في تلك الفترة نقاشات حامية وجدلاً بين الشباب السعودي الذي يتبنى مذهب الحداثة وذلك الإسلامي المتشدد من جهة أخرى، وعرف ذلك الوقت بزمن الصحوة، وكانت وسائل التوعية فيه مجموعة من الكتب وأشرطة الكاسيت وكتب مثل كتاب؛ الخطيئة والتكفير من البنيوية إلى التفكيكية، لمؤلفه عبد الله الغذامي والذي اعتبر من وجهة نظر كثيرين أنه البيان العام للشباب السعودي الواعي.
وبدأت تظهر في تلك الفترة إرهاصات الانفتاح من خلال عدد من الأنشطة الرياضية والترفيهية كالمعارض وسباقات الخيول واللقاءات الحوارية التي ضمها المهرجان الوطني للتراث والثقافة في الجنادرية والذي انطلق في العام 1985.
اقرأ أيضاً: توجهات جديدة نحو تحسين الكفاءة المهنية للعمالة السعودية
واستمرت الأمور على هذا المنوال حتى وصول ولي العهد الأمير محمد بن سلمان مع رؤية منفتحة أحدثت التغيير الثالث في مسيرة الشباب، عبر إحداث نقلة نوعية تجسدت بصيغة عدد من البرامج والمشاريع التي جاء هدفها الأساس وعنوانها العريض تمكين الشباب السعودي.
وذلك عبر توسيع دائرة مشاركة هذه الفئة التي تشكل نصف المجتمع السعودي، في مجالات العمل والمجتمع والاقتصاد، وتأهيلهم مهنياً عبر مجموعة من البرامج والأنشطة التي تشرف عليها وزارة الموارد البشرية والتنمية الإجتماعية.
اقرأ أيضاً: صناع السعادة تحتفي بخريجي الدفعة الثانية: 360 طالباً ينضمون لرأس المال البشري في قطاع الترفيه
وفي ذات السياق حرصت المملكة في الفترة الأخيرة على دمج الشباب السعودي مع البيئة الدولية المفتوحة، من خلال زيادة الوعي لديه والتأكيد على هويته، من خلال الحد من تأثير هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجعل المهمة منوطة بالفرد لنفسه، أي أن يكون الرقيب على ذاته، وفي المقابل أنشأت المملكة الهيئة العامة للترفيه والتي حرصت على إضفاء نوع من الحرية المدروسة التي تعزز انفتاح الجيل الشاب وتمنحه توسعاً بالمنظور دون الخروج عن الأصالة، ليكون الشباب السعودي نموذجاً يحتذى به في الوعي والانفتاح وتحمل المسؤولية.