كتب: محسن حسن
حرصت رؤية المملكة العربية السعودية 2030 على إبراز الوجه الحضاري لكافة أطياف المجتمع السعودي المحلي ضمن سياقاته المعرفية والتراثية المختلفة، رغبة منها في تطوير آليات هذا المجتمع، وتعزيز أدواته الثقافية الرامية إلى عمق الاحتكاك المباشر والفاعل مع ثقافات وحضارات وشعوب العالم أجمع.
ولم تتقيد الرؤية الواعدة للمملكة بتلك العراقيل القديمة البالية التي كانت تحول بين مواطنيها وبين احتواء الثقافات الأخرى العالمية على اختلاف تنوعها ومشاربها وأنماطها، وهو ما استمدته هذه الرؤية من جرأة ولي العهد الأمير (محمد بن سلمان) الذي تعاطى مع خطط تطوير البلاد بمنطق الانفتاح الواعي المدرك لطبيعة المرحلة التي تمر بها المنطقة والعالم، والتي تقتضي الخروج بالعقلية الوطنية من ضيق الانغلاق والتقوقع على الذات سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وثقافياً، إلى آفاق أكثر براحاً واتساعاً في التعاطي مع بانوراما الكون الواسع الفسيح بكل ما يحمله من هبات ومواهب وأنشطة وفعاليات إنسانية تدب بالحركة والانطلاق والتحرر.
ولأن المملكة عريقة في جذورها الثقافية وأسواقها الأدبية والشعرية الممزوجة برحلات الشتاء والصيف، فقد آلت خطط الرؤية على نفسها أن تعمل على إحياء تلك الأسواق ولكن وفق سياقات حداثية جديدة تواكب العصر وتتناسب وطبيعة العولمة الاجتماعية والإنسانية والسياحية التي يتحرك من خلالها العالم بعضه إلى بعض عبر زيارات متواترة ينطلق خلالها الأفراد عبر رحلاتهم الشخصية الفردية أو الجماعية للاحتكاك بثقافات البلاد والعباد من كل حدب وصوب، الأمر الذي اقتضى من وزارة الثقافة السعودية أن تتوسع في احتضان فعاليات جديدة وأنشطة ثقافية وفنية ورياضية تجمع في طياتها كافة أنماط النشاط الثقافي القديم وفق مساحة ورؤية من العرض المتجدد والمستحدث يجذب الناظرين ويربط بين زائري المملكة وبين تراثها وعالمها وأعرافها وتقاليدها ومواهبها الحرفية والمهنية.
وفي هذه الأجواء المفعمة بالجهود الصادقة والهادفة إلى التحديث والتطوير، لم يجد مثقفو السعودية بدءاً من التجاوب الحداثي والحضاري الذي تسعى إلى إقراره وتفعيله قيادات البلاد على اختلاف تخصصاتها العليا والدنيا، والعاملة بجد من أجل أن تعتلي السعودية منصة الريادة الشاملة في كافة التخصصات البسيطة والمعقدة، ومن ثم، أخذت ظاهرة (الصالونات الثقافية) في إحياء أيام السعودية ولياليها عبر إطلالات متجددة لا تقتصر فقط على أجناس الأدب والشعر والقصة والرواية، وإنما أصبحت بفعل شمولية واتساع المجال الثقافي والمعرفي في المملكة، تتخذ من تلك الصالونات جسراً ممتداً للتواصل مع كافة التخصصات والمعارف والموضوعات المتعلقة بعموم القضايا الكونية والإنسانية، الأمر الذي استحالت فيه هذه الصالونات شكلاً من أشكال التلاقي المشترك بين تخصصات ومعارف كانت في السابق مستقلة بفعالياتها وأنشطتها وحواراتها المجتمعية والتخصصية بين أصحابها، ما أتاح فرصة كبيرة لأن تحتضن هذه الصالونات طيفاً متنوعاً من تخصصات وخبرات شتى، تتفق جميعها في عصر الانفتاح السعودي الجديد، على أن الثقافة ليست فقط هي الأدب والشعر والقصة والرواية، بقدر ما هي التحام هذه الأجناس مجتمعة مع ما يغذيها ويغذي إنتاجها وبنيتها من المعارف والتخصصات الأخرى السياسية والاجتماعية والاقتصادية والاستراتيجية وحتى الأمنية والعسكرية.
ولمزيد من التعريف بالصالونات الثقافية، نشير إلى أن كلمة صالونات في الأساس معربة فهي ليست عربية وإنما مأخوذة من الكلمة اللاتينية (Salon) والتي كان ظهورها الأول أوروبيا نهايات القرن السابع عشر وبدايات القرن الثامن عشر، وهي تعني مكان التجمع والالتفاف والحشد الجامع بين نخبة المثقفين والأدباء والمتخصصين المشهود لهم بالكفاءة والخبرة من جهة، وعامة الجماهير الراغبة والمحبة للمعرفة من جهة أخرى، بهدف إجراء حوار ثري وتعليمي وتثقيفي بين هذين الطرفين، كأحد الأنشطة المعنية بإزالة الجهل المجتمعي تجاه مختلف القضايا الماسة بالحياة اليومية، وأيضاً تجاه التخصصات والعلوم والمعارف. ولازالت هذه الكلمة تستخدم وفق هذا التعريف والنطاق داخل المجتمعات العربية، فهي تعني مجالس الثقافة والأدب والعلوم التي تضم كبار المفكرين والعلماء والمثقفين، بهدف إجراء حوار بينهم وبين بعضهم البعض من جهة، أو بينهم وبين عامة الجماهير من جهة أخرى.
ورغم أن نشأة الصالونات الثقافية السعودية، كانت في الأساس، عبر مبادرات ودعوات شخصية من رواد الأدب والفكر ومحبي الثقافة والمعرفة، والذين كانت تدفعهم رغباتهم الوطنية والإنسانية في إيصال رسالتهم التنويرية والتثقيفية ونقلها إلى الأجيال التالية من الفتيان والفتيات عملاً بحيثية التواصل بين الأجيال، إلا أن هذه المبادرات انتقلت بدورها اليوم من حيز العبء الشخصي والاحتضان الخاص لهؤلاء الرواد والمفكرين، إلى احتضان الدولة والقيادة والمؤسسات الثقافية المعنية بتطوير الحدث الثقافي والارتقاء به من نطاق الشخصنة إلى نطاق رسمي تقوم بمقتضاه تلك المؤسسات بتبني اللوجيستيات التي تتطلبها الاستضافة، وتذليل العقبات والتحديات التمويلية التي تقتضيها رغبات التوسع في الاستفادة من مثل هذه الصالونات.
اقرأ أيضاً: المهرجانات الثقافية بوابة متجددة نحو الانفتاح الناعم
ولا يعني ما تقدم من حرص الدولة السعودية على هذا التوسع المشار إليه في الإفادة من زخم الصالونات الثقافية، وجعلها محطاً لنقاشات خلاقة يتولد عنها المزيد من الحراك الثقافي المفضي إلى حراكات أخرى متنوعة وداعمة للاقتصاد الوطني كمجال الاقتصاد الثقافي وما يشمله من أنشطة إنتاجية في حاجة ماسة إلى التطوير والتحديث حيث إمكانية العمل على النهوض باقتصاديات إنتاج الكتاب الثقافي واقتصاديات الإنتاج السينمائي وإنشاء مشروعات دور النشر وعموم المشروعات الثقافية العملاقة ذي الوجه الثقافي، نقول إنه لا يعني ذلك، أن الدولة تتغول على دور المثقف الوطني أو دور رواد الثقافة ورغباتهم في عقد فعاليات شخصية داخل منازلهم، فهذا لا يزال من بين المتاحات أيضاً، ولكن من جهة أخرى، ترى القيادة في المملكة أن من واجب المثقف السعودي أن يضع يده في يد الدولة حتى يستطيع أن يرقى بمستوى صالونه الأدبي أو الثقافي وحتى ينتقل به من طور التقليدية والتراتبية الشكلية والتطوع الشخصي، إلى طور آخر من التوسع والرسمية في احتضان تخصصات وأنماط جماهيرية أوسع، حتى يمكن للصالون أن يؤدي دوره وفق آليات تواكب رغبات التطوير الشاملة التي تتبناها المملكة حالياً والتي ستتبناها لاحقاً ضمن استراتيجيات أخرى قادمة.
على أنه لا يجب أن يتبادر إلى الذهن، أن صالونات المملكة العربية السعودية في القديم كانت أحادية الفكر والثقافة فهذا لم يكن كذلك، بل على العكس، كانت مجمل الفعاليات الثقافية السعودية في القديم تجمع بين أنماط مختلفة من النشاط، فكان الثقافي يختلط بالتجاري والاقتصادي، والأدبي يمتزج بالفني والتراثي، وهكذا، ولكن المرحلة الراهنة، تقتضي أن يدرك أصحاب الصالونات الثقافية أن ثمة هدفاً استراتيجياً يعمل الجميع على تحقيقه، وهو تنويع موارد المملكة الاقتصادية استعداداً لعصور ما بعد النفط والريع النفطي، فلم يعد الأمر بالنسبة للمملكة من قبيل الرفاهية القابلة للتراخي والدعة والاستكانة، وإنما من قبيل الضرورة المستقبلية التي يجب ترسيخها في أذهان السعوديين جميعاً، كي تصبح من مرتكزات نشاطهم اليومي على اختلاف مشاربه وتفاعلاته.
وتحقيق هذا الهدف في الحقيقة لابد وأن يرتكز إلى الثقافة باعتبارها الوقود المحرك للوعي والإدراك، كما لابد وأن يرتكز الهدف ذاته إلى نمط جديد من التفكير الثقافي-الاقتصادي، والاقتصادي-الثقافي، ليس من باب تنميط الثقافة وتحجيرها اقتصادياً، وإنما من باب التطوير الاقتصادي عبر الثقافي، ودعم الثقافي عبر الاقتصادي؛ فمن الواضح جيداً الآن، أن المجال الثقافي في عموم الأقطار العربية، يعاني ضعف المؤسسية والتمويل، ويكفينا أن ننظر إلى حركة الترجمة من العربية وإليها، وإلى الشكوى المتكررة الصادرة عن المؤلفين والمبدعين تجاه إهدار الحقوق الأدبية والإبداعية والفكرية، لندرك إلى أي حد يحتاج المجال الثقافي إلى الدعم الاقتصادي لتطوير مؤسساته وتعزيز قدراته المالية والاستثمارية حتى يحتل المثقف العربي ومعه الثقافة العربية مكانتهما اللائقة في سلم أولويات العالم الحضارية والمعرفية، وهذا المنظور هو بالضبط ما تريد المملكة أن ترسخه في فكر ونشاط أصحاب الصالونات الثقافية، بل وفي فكر ووعي كل مواطن عربي وسعودي معتز بثقافته وتراثه وتاريخه.
ومما يشجع على إسناد أدوار وإطلالات جديدة ومتجددة للصالونات الثقافية في المملكة، كثرة هذه الصالونات وتنوعها، بل وتمتعها باتساع كيفي وعددي وجغرافي متزايد لروادها والمهتمين بها، سواء من عموم الجماهير السعودية والعربية، أو من كافة الأكاديميين والمتخصصين والباحثين والمحاضرين الدوليين، وغيرهم من محبي التفاعل الثقافي المباشر مع محيطهم العلمي والثقافي والمعرفي، وهذه الصالونات السعودية تعود بداياتها الأولى وفق شكلها المصطلح عليه حالياً إلى مجالس قديمة للسعوديين كانت تُعرف باسم(المركاز) وكانت تعد من قبيل مجالس السمر والائتناس بالجماعة، كما كانت تمثل مجالاً ثقافياً محبوباً لأصحاب المواهب الأدبية والثقافية، يستطيعون من خلالها تقديم ما يجيدونه من مهارات وفنون القول والأداء، لتقييمها من قبل الحاضرين وخاصة صاحب المركاز والضيافة، ثم انتشرت مثل هذه الفعاليات الناقلة لأطياف التراثيات والأنشطة والمواهب القادمة من بيئاتها المغرقة في المحلية، لتصبح شيئاً فشيئاً أحد مظاهر الحياة الثقافية بطول المملكة وعرضها، وذلك منذ مطلع الستينيات، حتى تجاوزت هذه الصالونات الآن، أكثر من عشرين صالوناً موزعة في مدن ومناطق عدة من البلاد في مكة والمدينة والرياض وجدة والأحساء والخرج والقطيف والعلا والطائف وتبوك والقصيم وغيرها من عموم مناطق ومحافظات ومدن المملكة.
وفي إطار اهتمام رؤية 2030 بتعزيز الحراك الثقافي المجتمعي ضمن سياق محور الرؤية المعنون بــ(مجتمع حيوي)، كان من أبرز مظاهر وتجليات هذا المحور، استعادة زخم الصالونات النسائية التي كانت ناشطة في المملكة منذ التسعينيات، مثل صالونات صفية بن زقر وسارة الخثلان وسلطانة السديري وهانم باركندي وغيرهن من رائدات العمل الثقافي النسوي؛ حيث تشهد المملكة حالياً طفرة سعودية في الحراك الثقافي للصالونات النسائية، وإذا كانت صالونات التسعينيات وما بعدها، والتي أسستها نساء سعوديات رائدات، رغم أن البلاد في ذلك الوقت لم تكن تسمح للنساء أن ينطلقن هذه الانطلاقة الثقافية المنفتحة في الوقت الراهن، فإن هذا يعني أن أفق العمل الثقافي الحالي، أصبح مشرعاً لإسهامات نسائية خلاقة في تأسيس وتفعيل دور الصالونات الثقافية من أجل خدمة الوعي الوطني السعودي والنهوض بفكر الأجيال الشابة النسائية ودفعها نحو تحقيق الريادة السعودية المنشودة في كافة المجالات والتخصصات انطلاقاً من العمل الثقافي، خاصة مع إزالة كافة العقبات والتحديات والعوائق التي كانت تحول دون قدرة المرأة السعودية على تأسيس صالونها الثقافي الخاص أو مشاريعها التنموية والاستثمارية والتجارية المعنية بالمجال الفكري والثقافي والفني والإبداعي، فكل هذه العراقيل السابقة، قد تم محوها وإزالتها، وهو ما يُتوقع معه أن تتوسع فكرة الصالونات الثقافية النسائية خلال المرحلة القادمة، لتصبح أكثر تخصصاً وتنظيماً واحترافية في خدمة الوعي الوطني والمستوى المعيشي والاقتصاد المحلي.، وخدمة قضايا تمكين المرأة اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً كذلك.
وقد كان من أهم إسهامات الصالونات الأدبية في المملكة، دعمها الكبير لتأسيس منصات ثقافية أخرى موازية لها في النشاط وربما أوسع نطاقاً في العطاء الثقافي والمعرفي لعموم الأجيال الثقافية، ألا وهي الأندية الأدبية في المملكة، والتي انتشرت ولا تزال آخذة في الانتشار بفضل الآليات والمنطلقات الفكرية النابعة من عمق حوارات ومناقشات وسجالات الصالونات الثقافية، والتي أوجدت أرضيات فكرية مشتركة من أجل العمل على توسيع وإنشاء الأندية الأدبية في عموم مناطق المملكة، وخاصة بعد أن ابتعد المجال الثقافي السعودي عن المركزية في توزيع نوافذ العمل الثقافي وأنشطته المختلفة؛ حيث أدت الطفرة الثقافية الجديدة إلى انسيابية مكانية لتأسيس الصالونات والأندية والمنتديات الأدبية وغيرها من الدارات والملتقيات والأحدية والمدينيات إلى غير ذلك من مسميات، أصبحت تجد لها حيزاً من الاهتمام الرسمي للدولة في إطار حالة الزخم الثقافي الشاملة التي تمر بها البلاد عبر مواسم الفن والأدب ومسابقات العلوم والتقنية وغيرها من أنشطة داعمة لتحريك الفكر وإعمال العقل والسعي نحو توطين الإبداع.
وإجمالاً، سيشكل مستقبل الصالونات الثقافية في المملكة محوراً من أهم محاور التطوير الوطني، انطلاقاً من اهتمام القيادة السعودية بــ(اقتصاد المعرفة) و(اقتصاد الثقافة) و(اقتصاد التراث) و(اقتصاد الفن والإبداع) وغير ذلك من مسميات جامعة بين أهداف التطوير الاقتصادي وأهداف التطوير المعرفي والثقافي والإبداعي والعلمي، ما يعني أهمية تموضع المثقف السعودي والمبدع السعودي والفنان السعودي والمفكر السعودي والعالم السعودي وكل صاحب رأي وفكر وعطاء فلسفي وعقلي وطني، من أجل الالتفاف والتلاقي حول جلسات وفعاليات وأنشطة الصالونات والأندية الثقافية في البلاد، سعياً نحو استدعاء واستحضار أقصى طاقات العطاء الابتكاري المرتكز إلى فنون التفكير الخلاق، وذلك بهدف الوصول بالواقع الاجتماعي والاقتصادي والمعرفي في المملكة إلى مستويات جاذبة وحضارية من الإلهام المعزز لإنشاء التطبيقات والوسائل والأدوات الخدمية و الإنسانية الجديدة، التي تسهل من جهود التنمية البشرية بين السعوديين، وهو ما ستكون لعقول المفكرين والجماهير وعموم رواد الصالونات الثقافية وغيرها، اليد الطولى في إتمامه وتنفيذه خلال مراحل التطوير السعودية القادمة، وهو ما يستدعي موثوقية العلاقة وقوة روابطها الجامعة بين أهل الاختصاص والعلم والثقافة من جهة، والقيادة السعودية المعنية بسيادة القرار الوطني من جهة أخرى، وهو ما يتم على قدم وساق، وينتظر المزيد من الإيجابية والتلاحم.
اقرأ أيضاً: مسرح عبادي الجوهر: أيقونة جديدة تعكس الاهتمام بالثقافة والفن والفنانين في الممكلة العربية السعودية