كتب: محسن حسن
تسعى المملكة العربية السعودية في المرحلة الراهنة إلى بذل المزيد من الجهد من أجل العمل الجاد على تحسين كفاءة القوى العاملة الوطنية والمهنية في البلاد، وذلك كخطوة ضرورية من خطوات استكمال جهود وخطط السعودة الرامية إلى دعم ومساندة العمالة المحلية وفتح الآفاق أمامها لكي تحتل مكانتها اللائقة في سلم أولويات الطلب عليها من قبل الشركات والمؤسسات والهيئات المختلفة، الأمر الذي تهدف من خلاله خطط التطوير السعودية إلى توليد المزيد من الوظائف والعمال والمهن التي من شأنها زيادة الحصص الوظيفية والمهنية التي يشغلها السعوديون عوضاً عن غيرهم من المغتربين، وهو ما تطلب الالتفات أكثر إلى التركيز على تنمية مهارات المواطنين المحليين، جنباً إلى جنب، مع إصدار التشريعات والإصلاحات القانونية اللازمة لتحسين بيئة الأعمال.
وتتوجه خطة المملكة الإصلاحية في هذا السياق، نحو اختبار بعض المهن والوظائف والتركيز عليها لمعرفة مدى قابليتها لاستقطاب العمالة المحلية ورفع الطلب على هذه العمالة، على أن يكون ذلك من خلال استهداف المهن المختارة، بالتحديث والتطوير، وكذلك من خلال العودة إلى التجارب السعودية الناجحة في الماضي، والتي استطاعت فيها البلاد تطوير بعض الصناعات والنجاح في توفير العديد من فرص العمل ذات الجودة العالية، وخاصة في القطاع الخاص الذي تعوّل عليه القيادة السعودية الراهنة في إنجاح خطط التنويع الاقتصادي، حيث ستكون المهن المستهدفة بالتطوير في هذا القطاع، خاضعة لتقييم اقتصادي دقيق من حيث جدواها في توليد فرص العمل، ومن ثم، سيتم استلهام التجارب الناجحة في هذا الإطار، لتطبيقها في صناعات ومهن مختلفة أخرى، وربما تظهر بعض التجارب التي يمكن الإفادة منها في عمليات إصلاح الاقتصاد الوطني ككل.
وبالنظر إلى أهم المجالات التي يمكن من خلالها تحقيق أهداف المملكة في هذا الصدد، وتراها القيادة من بين الفرص الواعدة في تهيئة وإعداد وسعودة العمالة في البلاد، هناك مجال الخدمات المصرفية والاتصالات، وهناك أيضاً مجال صناعة الأغذية؛ فبالنسبة لمجال الخدمات المصرفية والبنوك إلى جانب مجال الاتصالات، تمتلك هذه المجالات فرصاً غير تقليدية من حيث حجم الربحية والتميز والقدرة على دعم جهود السعودة المهنية والوظيفية التي تسعى إليها قيادة البلاد، خاصة مع مناسبتها لإعادة تطبيق معاييرها وعوامل نجاحها على قطاعات صناعية أخرى في المملكة، وعلى نطاق واسع أيضاً، وذلك في ظل وجود حوكمة تنظيمية جديدة في المجال الصناعي السعودي، ودعم مستمر مالي ولوجيستي ومعنوي من الجهات المعنية بالتحديث والتطوير، بالإضافة إلى تنامي المؤسسات العاملة في التأهيل والتدريب في القطاعين العام والخاص، ما يعني امتلاك المسار الصحيح نحو السعودة المهنية والوظيفية.
اقرأ أيضاً: شركات الاتصالات في السعودية عالم من التقنية!
السعودة الغذائية
وأما على مستوى الصناعات الغذائية في المملكة، فهي أيضاً من المجالات التي تحمل بشريات واعدة في مجال السعودة المهنية، وذلك على الرغم من الفوارق الشاسعة بينها وبين المجال البنكي والمصرفي ومجال الاتصالات من حيث الربحية والمستوى المهني الرفيع؛ حيث تبين أن هذا المجال يستقطب أعداداً كبيرة من الشباب السعودي، وهو استقطاب متصاعد ومتنامٍ مع مرور الوقت، ولذلك رأت المملكة في ظله أهمية للاطلاع على التجارب الأوربية الناجحة في هذا المجال، والتي أدرك من خلالها المخطط الاقتصادي السعودي، أهمية التركيز على تحقيق مستوى عالٍ من التدريب والتأهيل والتعليم المهني عالي الجودة، ومزامنة التطوير بين القطاعات المشتركة والداعمة للمجال ذاته كالشركات والمؤسسات التعليمية والشركات الناشئة والصغيرة وسلاسل التوريد والجمعيات الصناعية وهيئات الابتكار والتكتلات المرتبطة بأسواق التصدير العالمية، وبالطبع سيساعد وجود شركات محلية ودولية متخصصة في صناعة الأغذية داخل المملكة، كافة الجهود المعنية بسعودة هذه الصناعة التي تستحوذ على مجموعة كبيرة من المهن متفاوتة المهارة والقدرة والإمكانية، ما يمنح أريحية في توظيف السعوديين، سواء مَن هم مِن ذوي الكفاءة المتوسطة أو الأقل تعليماً من الناحية الفنية والمهارية، أو غيرهم من ذوي المهارات والكفاءات العالية.
وكانت السعودية قد قامت منذ العام 1985 بإطلاق سياستها الخاصة بالسعودة، والتي تلزم الشركات العاملة في القطاع الخاص بتوظيف نسبة محددة من العمالة السعودية كإجراء ضروري لمكافحة البطالة، وتقليل حجم الاعتماد على المغتربين في المهن والوظائف المختلفة، وقد تطورت هذه السياسة الوطنية السعودية خلال سنوات تالية؛ حيث تبنت المملكة في يونيو من العام 2011 ما يُعرف بــ(برنامج نطاقات)، وهو أحد البرامج الهادفة إلى دعم وتعزيز السعودة من خلال نظام تحفيزي/عقابي للشركات الوطنية، بمعنى تشجيع وتحفيز الشركات التي تلتزم بمعايير وقواعد السعودة من خلال منحها ميزات حكومية كالإعفاءات والتسهيلات، وتوقيع عقوبات (غرامات وقيود تجارية) على الشركات الأخرى التي لا تلتزم بذات المعايير والقواعد، ما يعني أن تصنيف الشركات السعودية في القطاع الخاص وفق هذا البرنامج، يتم بناء على درجة السعودة المطبقة في أي شركة من الشركات، وقد وضعت الحكومة السعودية تصنيفاً سداسياً تتعين خلاله الشركات الوطنية ضمن مناطق محددة هي (بلاتينيوم، أخضر مرتفع، أخضر متوسط، أخضر منخفض، أصفر، أحمر) فالأول يعني أعلى درجات الالتزام بالسعودة، بينما يشير الأحمر إلى أدنى هذه الدرجات أو إلى انتفائها بالكلية، وكإجراء تسهيلي، تقوم المملكة بتطبيق نفس هذا التصنيف على الشركات المملوكة للمستثمرين الأجانب.
ومن جهة أخرى، يتوجب على المخطط الاقتصادي السعودي، الالتفات إلى أهمية تذليل الكثير من العقبات والتحديات الخاصة بالتطوير، وخاصة في مجال تطبيق السعودة الهادفة إلى الارتقاء بمستوى العمالة الوطنية والمحلية، ومن ذلك أهمية إيجاد معايير محددة وواضحة يمكن أن تساعد الشركات الأجنبية العاملة في البلاد، على إسناد المهام الوظيفية إلى من يستحقها من الكفاءات والمهارات الوطنية، خاصة وأن هذه الشركات قد تجد بعض الصعوبات الشديدة في تكييف اختياراتها للموظفين و تواصلها مع العمال السعوديين الملتحقين لديها بناء على مراعاة دقيقة لمعايير إلحاق مناسبة، هذا بالإضافة إلى صعوبة أخرى متمثلة في عدم قدرة الشركات السعودية بشكل دائم على تطبيق المعايير الخاصة بالتطوير المستمر لحصص السعودة، خاصة مع اختلاف المهن والصناعات وصعوبة حوكمة هذه الشركات لمسألة متابعة اللوائح والمعايير ورصد السجلات والتقارير اللازمة لإثبات الالتزام التفصيلي بخطط السعودة الوطنية، إلى غير ذلك من صعوبات مشابهة.
اقرأ أيضاً: واقع ومستقبل توظيف الشباب السعودي في القطاع الخاص
شبهات وردود
تحرص المملكة على المتابعة الدقيقة لأوجه تنفيذ بنود استراتيجية 2030 والخاصة بتطوير الاقتصاد الوطني وتنويعه، ليس على سبيل التطبيق والتطوير العملي والميداني فحسب، وإنما أيضاً على مستوى مواجهة الادعاءات والشائعات التي تروج لأخبار مغلوطة حول بيئة العمل السعودية، ومن ذلك ما تم مؤخراً من قبل المجلس الوطني للسلامة والصحة المهنية بالمملكة من تفنيد ادعاءات البعض بأن بيئة العمل السعودية شهدت ارتفاع معدلات الوفاة للعاملين بها بسبب ظروف العمل القاسية والشاقة، الأمر الذي أوضح المجلس بشأنه أن ما يتردد حول هذا الأمر، هو من قبيل الأخبار المغلوطة والبعيدة عن الدقة وتحري المصداقية، وأن معدل الوفيات الحقيقي بسبب ظروف العمل، والمسجل لدى المملكة، يعد من بين المستويات الأدنى عالمياً بحسب تقديرات منظمة العمل الدولية؛ حيث لا يتعدى 1.12 لكل 100 ألف عامل، وهو ما تشهد به أيضاً مؤسسات وهيئات السلامة المهنية الدولية مثل المجلس البريطاني للسلامة، والمعهد الدولي لإدارة المخاطر والسلامة، خاصة مع تبكير المملكة في إطلاق المبادرة الوطنية والاستراتيجية للسلامة والصحة المهنية منذ العام 2017، والتي تتضمن البنود القانونية الخاصة بإقرار المعايير الدولية المعنية بسلامة العاملين في المهن والظروف وبيئات العمل المختلفة.
وتؤكد النتائج الإيجابية المترتبة على الخطوات الجادة التي تتخذها القيادة السعودية من أجل تطوير بيئة العمل وضمان مواكبتها لأحدث المعطيات والمعايير الدولية الخاصة بالتشغيل والإدارة وتحقيق الحماية القصوى للعمال والمهنيين، نجاح خطط التهيئة المتكاملة للبيئة المهنية والصناعية والإنتاجية، بالشكل الجاذب للكوادر والطاقات المبدعة والخلاقة ليس على مستوى المملكة الداخلي فحسب، وإنما على مستوى دول العالم أجمع كذلك، رغبة في استقطاب ما يمكن أن يساعد على نقل الخبرات للمواطن المحلي ويُكسبه القدرة على إدارة وتشغيل واستثمار كافة المشاريع الكبيرة والمتوسطة والصغيرة ومتناهية الصغر، الأمر الذي شجع الكثير من زوار المملكة على اتخاذ قرار الإقامة والاستثمار والعمل بها ؛ حيث تستحوذ البلاد حالياً على أكثر من 13 مليون نسمة من المقيمين الأجانب والمنتمين إلى جنسيات متعددة، وهو ما يشكل تقريباً نسبة أكثر من 41.5% من إجمالي سكان البلاد وفقاً لتعداد 2022م.
وتشكل إجراءات الحماية القانونية التي وفرتها المملكة لجميع العاملين الوافدين والمقيمين على أراضيها، حافزاً على قدوم المزيد من العمالة؛ إذ كان من بين ما حرصت عليه الجهات المختصة والرسمية في البلاد، رفع جودة القوانين الداعمة لحفظ حقوق العاملين والمهنيين والحرفيين القادمين للعمل والاستقرار في المملكة، وعدم التفريق بين العمالة المحلية والعمالة الوافدة من حيث إقرار الحقوق وتحديد المهام والواجبات والأجور والراحات بعيداً عن أي التباس أو تحايل أو إهدار لتلك الحقوق، وذلك قبل خوض إجراءات الاستقدام والتكليف والعمل، وفي ظل هذه الإجراءات تشهد البلاد إقبالاً كثيفاً من جنسيات العاملين والمهنيين، وخاصة الجنسية الهندية، والتي تهيمن على كافة الجنسيات العاملة الأخرى في المملكة؛ إذ يبلغ العاملين المنتمين إلى هذه الجنسية، أكثر من 1.85 مليون وافد، يشكلون نسبة تفوق 13.5% من إجمالي الوافدين. وبصفة عامة، تشكل آلية تجنيس العقول والأدمغة المبدعة والمنتجة والمبتكرة، وسيلة مهمة من وسائل توطين الخبرات ونقلها وتوسيع دوائرها ومؤثراتها الإيجابية على مستوى التنمية البشرية، في بلد يسعى إلى تحقيق الريادة في كافة المهن والمجالات.
اقرأ أيضاً: تخصصات المستقبل في السعودية: احتياجات سوق العمل ورواتب عالية