كتب: محسن حسن
تنهض الشعوب والمجتمعات اقتصادياً عندما تدرك القيادة السياسية أهمية توظيف العنصر البشري في المنظومة التشغيلية الداعمة للاقتصاد الوطني، وكثيراً ما كان العنصر النسائي أحد العناصر المهمشة في سلم أولويات الحكومات العربية على مدار السنوات والعقود الماضية، وهو ما كان يُفقد الاقتصادات الوطنية ركيزة أساسية من ركائز نهضتها وتقدمها؛ ولذا فقد كانت القيادة السعودية حريصة على تقليص الفجوة الحادثة في بنية التمكين الاقتصادي للنساء السعوديات على مختلف الأصعدة والمستويات؛ بحيث نجحت استراتيجية 2030 حتى الآن في رفع إسهام السعوديات العاملات في سوق العمل إلى معدلات تزيد على 30% بعد أن كان هذا المعدل يقل عن 18% عام 2016.
وما سبق يعني أن خطوات تقليص هذه الفجوة تسير بشكل إيجابي وأكثر مما هو متوقع خلال هذه السنوات القليلة الماضية، بل إن الأكثر إيجابية، هو أن تلك الخطوات الحثيثة نحو التمكين الاقتصادي للمرأة السعودية، أصبح يشكل إضافة ملموسة ومباشرة في زيادة نمو الناتج المحلي الإجمالي في صورته الحقيقية السنوية؛ إذ بفضل هذه الجهود تتوقع المؤسسات الاقتصادية العالمية، أن تستمر المملكة على نفس الوتيرة من التعزيز والإصلاح للاقتصاد النسائي، ما ستتراوح معه زيادة هذا الناتج خلال العشر سنوات القادمة بين 0.3 و2.4 نقطة مئوية، وبحيث يمكن أن تصل معدلات النمو إلى أكثر من 4.5% بدلاً من 3%، وبحيث تؤكد مؤشرات نمو الاقتصاد السعودي، أن إشراك العمالة النسائية، يساهم فعليا في تعزيز الناتج الوطني بنسبة نمو تزيد على 11%، وهو ما يؤكد عمق تأثير الاقتصاد النسائي في تطوير سوق العمل السعودية ورفع كفاءة الاقتصاد غير النفطي ضمن إطار الجهود الرامية إلى تنويع مصادر الدخل.
تراجع الفجوة الاقتصادية السعودية
وبحسب التقييمات الاقتصادية الصادرة عن المؤسسات الدولية ومؤسسات السوق، نستطيع التأكيد على أن مسار التركيز على تطوير العمالة النسائية في المملكة، سينتقل إلى مستويات أفضل من حيث الكيف والكم خلال الخطط والاستراتيجيات القادمة؛ فإنه إذا كانت رؤية 2030 قد استطاعت النهوض بمشاركة المرأة في القوى الاقتصادية العاملة إلى ما يزيد على 35%، ومشاركة المرأة السعودية بنسبة تزيد على 30.5%، فإن المتوقع خلال المستقبل القريب، أن ترتفع كفاءة القطاع الخاص السعودي بحيث يمكنه حتى 2030 استقطاب ما يزيد على ثلاثة ملايين امرأة سعودية عاملة، الأمر الذي ستبدأ خلاله عملية توازن حثيثة بين القطاعين العام والخاص في المملكة، من حيث معدلات استقطاب العمالة النسوية، وخاصة السعودية منها.
ومن المعروف أن القطاع العام السعودي يستحوذ حالياً على المعدل الأكبر من السعوديات العاملات وبنسبة تزيد على 59% في حين تستقر غالبية العمالة النسائية الوافدة في قطاعات اقتصادية غير منتمية للقطاع العام بنسبة تزيد على 65% من هذه العمالة، إلا أن الملاحظ والإيجابي على مستوى السعودة في هذا الصدد، هو ارتفاع الكفاءة التخصصية والمهنية والتعليمية لدى العاملات السعوديات قياساً بنظيراتها لدى النساء الوافدات، وهو ما يساعد بدوره على تعميم هيمنة العمالة السعودية النسائية واستحواذها المستدام على سوق العمل السعودي بقطاعيه العام والخاص مستقبلاً؛ فحين نعلم أن أكثر من 50% من هذه العمالة الوطنية متمتعة بمستوى تعليمي جامعي، مقابل تدني المستويات التعليمية للعمالة النسائية الوافدة، ندرك إلى أي حد تستطيع المرأة السعودية العاملة امتلاك القدرة على تطويع المهن الاعتيادية وتحويلها إلى قطاعات اقتصادية ريادية، تساهم بقوة في دعم وتعزيز الاقتصاد الوطني.
اقرأ أيضاً: الأسرة السعودية طائر محلق بجناحين، والأمومة فضل واجب التقديس!
رياديات الإدارة
وتُظهر أنماط العمل بين القطاعات المهنية والوظيفية للسعوديات، إقبالاً نسائياً كبيراً على العمل بإدارة المشاريع وبالوظائف التحريرية والكتابية؛ فأكثر من 34% من السعوديات العاملات يشغلن منصب المدير المباشر أو التنفيذي، بينما يشغل ما يزيد على 20% غيرهن وظيفة تحريرية أو كتابية، بينما تستحوذ الوظائف الخدماتية الأخرى على الغالبية العظمى من العاملات الوافدات، وهذا يمنحنا مؤشراً إلى أن العقلية المهنية والوظيفية والريادية لنساء المملكة العاملات والناشطات، تميل أكثر إلى نوعية الوظائف القيادية والإدارية، وهو ما يتماشى في الحقيقة مع التطلعات النهضوية للقيادة السعودية فيما يتعلق بالتمكين الريادي والقيادي والإداري للمرأة السعودية المعاصرة، والتي ينتظرها مستقبل واعد ومزدحم بالمشاريع والإنشاءات والشركات الاستثمارية الصغيرة والمتوسطة والكبيرة.
وهذه المشاريع المستقبلية المشار إليها، تحتاج بدورها إلى خبرات عملية وتخصصية تعين صاحباتها على الإسهام المستدام والمتواصل في عمليات البناء الاقتصادي والتطوير الميداني على كافة الصعد والمستويات التنموية، وبالتالي فنحن خلال المرحلة القادمة من عمر الاستراتيجيات الاقتصادية السعودية، أمام أدوار نوعية ستكون في ظلها المرأة السعودية الريادية هي حجر الزاوية في العمل والإنتاج والتشغيل والإدارة، ما ستظهر معه عقليات نسائية فريدة وسباقة إلى الاكتشاف والابتكار والتصنيع، وهو ما بدأت تظهر ملامحه وبادرته المبكرة حالياً من خلال طبقة سعودية متنامية من سيدات الأعمال والعمل الحر، أصبحن ينعمن بحرية ممارسة الأنشطة الاقتصادية والأعمال في ظل تراجع متنام وتاريخي للبطالة بين النساء بعد أن سجلت نسبة البطالة بينهن أدنى مستوياتها خلال 2023/2024 لتصل إلى 13.7% وفق بيانات صادرة عن الهيئة السعودية العامة للإحصاء.
وفي ظل تمتع الاقتصاد السعودي بقوة مالية ناهضة تتجلى في ناتج محلي إجمالي يفوق تريليون دولار سنوياً، تبدو المشاركة النسائية في هذا الاقتصاد مؤثرة ومصيرية من حيث المردود التنموي والإصلاحي، وهو ما يؤكده الخبراء الاقتصاديون، والذين يرون أن تلك المشاركة يمكنها أن تكون كفيلة بإنهاض وتشغيل قطاعات اقتصادية جديدة وحيوية مثل قطاع التمويل السعودي وقطاعات أخرى عديدة مؤهلة للإفادة من الإسهام الاقتصادي للعنصر النسائي عموماً وللعنصر النسائي السعودي على وجه الخصوص، مثل قطاع الشركات الناشئة، وقطاع التكنولوجيا المالية.
وأنه في حال نجاح المملكة في رفع معدلات المشاركة النسائية في الاقتصاد المحلي والوطني وفي القطاعات المشار إليها، فإن المردود المالي يمكنه أن يتجاوز حد الــ40 مليار دولار كقيمة مضافة لهذا الاقتصاد خلال العشر سنوات القادمة، وفي الحقيقة إن نجاح المملكة في هذا السياق يعد راجحاً في ظل إقرار المحللين والخبراء بأن ما حققته البلاد من تضييق للفجوة الاقتصادية بين الجنسين خلال السنوات القليلة الماضية، عجزت عن تحقيقه قوى كبرى عالمية كالولايات المتحدة والصين وغيرهما في فترات مماثلة، ما يؤكد امتلاك المخطط الاقتصادي السعودي، ومعه المرأة السعودية وبيئاتها المهنية والوظيفية المختلفة، آليات نوعية للتجاوب مع متطلبات النمو المرحلي المستدام والمنشود، وكذلك امتلاك المنظومة الاقتصادية السعودية، رؤية تنموية وإصلاحية خلاقة، بإمكانها اختصار الوقت والجهد والوصول المباشر والقصير إلى تحقيق النتائج والأهداف.
اقرأ أيضاً: الطبقة الوسطى السعودية متطلبات البناء الراهن ومحددات التحديث القادم
متطلبات المرحلة
وعند الرغبة في تحديد أولويات المرحلة القادمة من التطوير على مستوى الارتقاء بمعدلات الإسهام الاقتصادي للمرأة السعودية في سوق العمل، فإن أهم التحديات التي ستواجه مجتمع الرياديات السعوديات على وجه الخصوص، هو اختراق البيئات الوطنية المغرقة في المحلية والتقليدية، بمشروعات ريادية ذات وجهة نسائية غالبة، وهو ما سيتطلب مثابرة كبيرة في الإدارة والتشغيل وتكييف المواقف والعادات وترويضها نحو الإقرار بجدارة المرأة العاملة في النهوض بمجتمعها، وهو ما يقتضي بدوره تطبيق نهج تشبيكي يقوم على أساس الربط بين المشاريع الريادية النسوية من جهة، وبيئاتها المحلية الحاضنة لتلك المشاريع من جهة أخرى، وذلك عبر تحفيز العنصر النسائي نحو المشاركة وعدم التردد في اكتساب المهارات والخبرات اللازمة لاحتياجات سوق العمل.
وفي الحقيقة، ليس شرطاً أن يتم تحقيق قفزات سريعة على مستوى مجمل المشاريع الريادية في المناطق الطرفية، ولكن يمكن الجمع بين نمط القفزة التطويرية ونظيرتها المتدرجة بحسب استعداد المستوى الإدراكي والتوعوي والنفسي للعناصر البشرية النسائية، وهو ما سيفضي في نهاية المطاف إلى نجاح الجهود الرامية إلى الدمج المهني والوظيفي لتلك العناصر مجتمعة، وبالتالي اختصار المسافات والفجوات التقنية والمهارية والتشغيلية والإدارية ضمن كافة المشاريع الريادية الوطنية، حيث ستحظى حينئذ البيئات الطرفية بفرصة واعدة لتأسيس جيل جديد من المهنيات والموظفات والعاملات الريفيات ممن ستتاح لهن مستقبلاً فرصاً تلقائية لنقل خبراتهن وقناعاتهن بجدوى المشاركة النسائية في الأعمال إلى أبنائهن وبناتهن، ما ستزول في ظله الفجوة الاقتصادية تماماً بين الجنسين، وبكل تأكيد، سوف تساعد المظاهر السعودية العامة على مستوى التطوير والتحديث العام والراهن، في تسريع وتيرة اكتساب الناشئات السعوديات ومعهن العائلات المتحفظات، الرغبة في التعاطي الجاد مع المجالات التعليمية والخبراتية والمهنية غير المطروقة من قبل بالنسبة لديهن، وذلك فيما يتعلق بعمل المرأة وبمشاركتها الاقتصادية في سوق العمل.
اقرأ أيضاً: السعودية تدعم المرأة في يومها العالمي ضد العنف
معارض وصفقات
ومن ناحية مقاربة، تستطيع المعارض المختلفة التي تشهدها المملكة العربية السعودية، وعلى وجه الخصوص معارض سيدات الأعمال، أن تساهم بفاعلية في تحقيق مستهدف الاقتصاد السعودي القادم، برفع مشاركة المرأة السعودية في سوق العمل إلى 40%، وذلك لأن مثل هذه المعارض يمكنها الترويج للمشاريع الريادية النسائية أكثر من غيرها من المعارض الاقتصادية العامة، خاصة وأن معارض سيدات الأعمال هذه، لا تخلو من صفقات تجارية واستثمارية وتشغيلية قادرة على فتح آفاق أكثر رحابة واتساعاً لاستقطاب المزيد من النساء العاملات والمشاركات في دعم وتعزيز الاقتصاد الوطني، وبالتأكيد لابد وأن تتاح الفرصة للقطاع الخاص السعودي، كي يتوسع في الالتحام بسوق العمل بصفة عامة، وبسوق عمل المرأة بصفة خاصة، لأنه القطاع المتعطش أكثر للاستحواذ على قوى العمل النسائي، ووفق البيانات الرسمية الصادرة عن وزارة الموارد البشرية في المملكة، فإن القطاع الخاص استحوذ على 60% من إجمالي وظائفه المخصصة للسعوديين منذ عام 2019 وحتى الآن، وبواقع ما يزيد على 360 ألف وظيفة، وهو ما يعني أن هذا القطاع يستطيع تقديم المزيد من دعم وتعزيز القوى العاملة النسائية في البلاد خلال السنوات والمراحل القادمة.
وتعد معارض وصفقات سيدات الأعمال السعوديات، من بين الأنشطة المتضمنة داخل الحراك الاقتصادي للقطاع الخاص السعودي قبل القطاع العام والقطاع الخيري، وذلك نظراً لأن الغالبية العظمى من هذه المعارض تتم وفق مبادرات خاصة وشخصية هدفها الترويج لمنتجات ومشاريع يستحوذ عليها هذا القطاع، ولذلك فإن هذه المعارض عادة ما تشهد إقبالاً كبيراً من الزوار والمستثمرين الدوليين على وجه الخصوص، ومن ثم فهي تأخذ بتلابيب الاستثمار الشامل، المباشر وغير المباشر، لتحقق من خلاله نتائج ومكتسبات اقتصادية كبيرة وغير مسبوقة؛ فهي على المستوى المباشر تفضي إلى إبرام الكثير من الشراكات والصفقات المالية والاستثمارية داخل وخارج البلاد، كما أنها على المستوى غير المباشر، تروج للمنتج الوطني وللمشروع الوطني، كما تروج لأبعاد مباشرة وغير مباشرة للاقتصاد السياحي والخدمي مما يرتبط بها وبأنشطتها المختلفة، وهو ما تجيد إدارته قوى العمل الريادي من النساء ورائدات الأعمال، وهو ما يشجع على بذل المزيد من الجهد للوقوف على نوعية التحديات والصعوبات الدقيقة والتخصصية التي تواجه رائدات الأعمال المسؤولات عن تنظيم تلك المعارض، ورائدات الأعمال المسؤولات عن إدارة المشاريع والصفقات، وذلك بهدف القيام بتوثيق وتسهيل إجراءات الربط بين قوى التنظيم وقوى الإنتاج من المتخصصات والبارعات من سيدات الأعمال، ما سيساعد على تعزيز احترافية التوظيف الاقتصادي الوطني والاستثماري لتلك المعارض.
اقرأ أيضاً: مدينة الملك عبدالله تطلق برنامجاً لتمكين المرأة بقطاعات الطاقة
الأرقام تتكلم
وبعد، إن حضور المرأة السعودية كشريك اقتصادي فاعل جنباً إلى جنب مع الرجل، أصبح حقيقة لا خيالاً في المجتمع السعودي، فبعد أن ارتفعت المشاركة الاقتصادية للنساء بما يزيد على 34%، وحصلت الفتيات السعوديات فيما فوق سن الخامسة عشر على نسبة مشاركة اقتصادية تقارب الــ 36% خلال العام المنقضي 2024، وبعد أن ارتفعت نسبة إشغال النساء السعوديات للكوادر التشغيلية والإدارية الفائقة والاعتيادية إلى معدلات أعلى من 43.5%، إلى غير ذلك من مؤشرات إيجابية في سلم أولويات التمكين الاقتصادي للمرأة السعودية في سوق العمل، وهي المؤشرات التي وضعت المملكة في المركز الثالث عشر عالمياً ضمن تقرير مؤشر مساواة الأجور بين الجنسين للعام 2024، نستطيع الجزم بأن قطار النهضة النسائية السعودية لن يتوقف، وإنما سيشهد نقلات وطفرات نوعية أكثر إيجابية من حيث الكم والكيف خلال العقد القادم.