في عالم تُعيد فيه التكنولوجيا رسم خرائط النفوذ، لم تعد رقائق الذكاء الاصطناعي مجرّد أدوات رقمية دقيقة، بل تحوّلت إلى رموز للسيادة الرقمية ومفاتيح التقدّم الاقتصادي والعسكري. أصبحت هذه الشرائح الصغيرة بحجمها، الهائلة بأثرها، محور سباق عالمي لا يهدأ، يمتد من مراكز الابتكار في وادي السيليكون إلى العواصم الخليجية التي تسعى لصياغة مستقبلها عبر الاستثمار في التقنية.
وبينما تدور المنافسة بين القوى الكبرى كواشنطن وبكين، تشقّ دولٌ مثل السعودية والإمارات طريقها بثقة في هذا المشهد، مستفيدة من الانفتاح الأميركي الأخير على تصدير هذه التقنية إلى الشرق الأوسط، وسط تغييرات لافتة في السياسات التكنولوجية الدولية.
الشرق الأوسط يدخل سباق رقائق الذكاء الاصطناعي
خلال زيارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب إلى السعودية والإمارات وقطر، برز تطور لافت: واشنطن بدأت تخفّف من قيود تصدير رقائق الذكاء الاصطناعي إلى حلفائها في الشرق الأوسط. هذه الخطوة، التي جاءت متزامنة مع إعادة تشكيل سياسات التصدير في الولايات المتحدة، منحت المنطقة فرصة ذهبية لإعادة رسم دورها في الاقتصاد الرقمي العالمي.
وفي هذا السياق، أعلنت شركة «إنفيديا» عن تسليم 18 ألف رقاقة متطورة إلى شركة «هيوماين» السعودية الناشئة، بينما أبرمت الإمارات اتفاقاً مبدئياً لاستيراد نصف مليون وحدة سنوياً من الرقائق المتقدمة بدءاً من هذا العام. هذه الصفقات لا تعكس فقط طموحاً تقنياً، بل توجهاً استراتيجياً نحو بناء بنية تحتية معرفية مستقلة.
اقرأ أيضاً: «دكتور هوا»: أول نموذج طبي يعمل بالذكاء الاصطناعي في السعودية!
ما سرّ هذه الرقائق؟
لكن ما الذي يجعل هذه الرقائق بهذه الأهمية؟ يوضح الدكتور صخر الخريّف، الباحث المتخصص في الذكاء الاصطناعي، أنّ هذه الشرائح تعتبر العقل المحرّك لأي نظام ذكاء اصطناعي حديث. فامتلاكها لا يتيح فقط تدريب نماذج لغوية متقدمة بسرعة وكفاءة، بل يضمن للدول أيضاً مكانة تنافسية في الاقتصاد القائم على البيانات والمعرفة.
ويضيف: «هذه الرقائق تمثل عنصراً حاسماً في معادلة السيادة التكنولوجية، وتمكّن الدول من تسريع الابتكار، وجذب الاستثمارات، وخلق بيئة خصبة لاقتصاد رقمي قائم على الإنتاجية والتميز».
ولم تكتفِ السعودية بالاستيراد، بل بدأت فعلياً خطوات على طريق التصنيع المحلي. ففي عام 2021، أعلن وزير الاتصالات وتقنية المعلومات عبد الله بن السواحة عن بدء إنتاج أولى الرقائق الذكية محلياً، في مشروع يستهدف تطبيقات عسكرية وتجارية ومدنية، وهو ما يعكس تحوّلاً نوعياً في توجه المملكة نحو الاكتفاء الذاتي التكنولوجي.
الإمارات.. شريك طموح في معادلة التقنية
من جهتها، تتحرك الإمارات بخطى ثابتة نحو بناء منظومة رقمية شاملة. فالاتفاق مع «إنفيديا» يعكس رغبة واضحة في امتلاك أدوات المنافسة، ليس فقط من حيث البنية التحتية، بل من خلال تأهيل الكوادر البشرية، وتوطين النماذج اللغوية الضخمة (LLMs)، لتحقيق ما يسميه الخريّف «الاستقلال الرقمي الحقيقي».
وفي تحول بارز، ألغت وزارة التجارة الأميركية في الثالث عشر من مايو الجاري قاعدة «نشر الذكاء الاصطناعي» التي أطلقها الرئيس السابق جو بايدن، والتي كانت تقيّد الوصول إلى الرقائق بثلاثة مستويات للدول المختلفة. هذا التغيير جاء في إطار إعادة هيكلة شاملة لضوابط تصدير أشباه الموصلات في عهد ترامب.
كما شددت الوزارة على أن استخدام رقائق «أسيند» من «هواوي» الصينية في أي دولة يُعد خرقاً للضوابط الأميركية، في إشارة واضحة إلى استمرار الحرب التكنولوجية بين الولايات المتحدة والصين.
الصين في مأزق؟
وهذه القيود، كما يرى الخريّف، ليست إجراءات فنية بحتة، بل أدوات استراتيجية تهدف إلى كبح تقدّم الصين في ميدان الذكاء الاصطناعي. فقد خلقت هذه الضوابط فجوة ضخمة في الموارد الحاسوبية، ما دفع شركات صينية مثل «هواوي» و«إنفليم» إلى تطوير شرائح محلية.
ورغم أن هذه الشركات أحرزت تقدّماً، إلا أن الخريّف يعتقد أن البدائل الصينية ما تزال تعاني من فجوة أداء كبيرة مقارنة برقائق NVIDIA A100 وH100 الأميركية المتطورة.
بناءً على هذه المعطيات، يظهر بوضوح أن دول الخليج، والسعودية على وجه خاص، بدأت تدرك مبكراً أهمية امتلاك المعرفة التقنية، لا كمستهلك فقط، بل كصانع وفاعل. وإنّ نقل التقنية وتدريب الكوادر وتوطين النماذج، هي مقومات لمشروع متكامل للسيادة الرقمية، يفتح الباب أمام اقتصاد قائم على الابتكار والمعرفة، ومحصّن ضد التبعية التكنولوجية.