في عالم يتبدّل كل لحظة، وتذوب فيه الحدود بين الثقافات، يظل السؤال قائماً: كيف نُعيد تعريف هويتنا دون أن نُضيّع أصالتنا؟ كيف يمكننا تحويل التراث من حكايات نُردّدها إلى لغة بصرية تُخاطب الأجيال القادمة؟ هذه التساؤلات تتجسّد في معرض «شذرات من الفلكلور» المُقام في حي جاكس بالدرعية، والذي يفتح نوافذ جديدة لفهم الهوية من خلال الفن.
بين الحكاية والرمز
لا يكتفي معرض «شذرات» باستحضار التراث الشعبي بوصفه مادة محفوظة من الماضي، بل يقدّمه كمرآة تعكس تفاعلات المجتمع المعاصر مع تاريخه. فالمعرض يقدّم تجربة فنية تُمزج فيها الموروثات الرمزية، مثل النقوش والخطوط والأساطير، مع التجريب البصري الذي يحاكي الحاضر، مما يخلق لغة فنية هجينة تحتفل بالأصالة دون أن تنفصل عن الحداثة.
ويضم المعرض أعمالاً لعدد من الفنانين المعروفين، من بينهم حمرا عباس، لولوة الحمود، راشد آل خليفة، ورائدة عاشور، الذين يُعيدون عبر أعمالهم تركيب صور الفلكلور برؤية حديثة، دون أن يفقدوا جوهره. يعتمد كل منهم على عناصر مألوفة من بيئته وثقافته، لكن يعيد توظيفها بأساليب تجريدية أو هندسية أو خطية، ما يجعل هذه الشذرات بمثابة رسائل بصرية مفتوحة على التأويل.
تصميم مستوحى من متاهات نجد

أما تصميم المعرض، فقد صُمّم بعناية ليعكس الفكرة نفسها: متاهة مستوحاة من العمارة النجدية التقليدية، تُقسّم فيها المسارات إلى وحدات منفصلة مترابطة، في محاكاة بصرية لفكرة الفلكلور نفسه، حيث تتباين القصص وتتشابك الرموز، لكنها جميعها تصبّ في نهر الهوية الكبرى.
الخشب الطبيعي، وتحديداً خشب الأكاسيا، يشكّل جزءاً من الهيكل التصميمي للمعرض. وهذا الاختيار ليس صدفة، بل هو تأكيد على أن التراث ليس فكرة، بل مادة حية قابلة للتشكيل والدمج. وفي هذا الفضاء الغامر، يصبح التباين بين الماضي والحاضر واضحاً، لكنه ليس صداماً، بل تفاعلاً عضويّاً.
اقرأ أيضاً: الربع الأول من العام 2025 والإقبال السياحي في المملكة
الفلكلور: حركة مستمرة لا تعرف الجمود

يُبرز المعرض الفلكلور كعملية مستمرة من التفسير وإعادة التكوين. لا تعريفات صارمة، ولا قوالب جاهزة. بل دعوة لإعادة التفكير فيما نرثه، وما نُبقي عليه، وما نُعيد ابتكاره. وبهذا، يتحوّل الفلكلور من شيء نُقلّده إلى شيء نُبدعه.
وفي حديثها حول ذلك، ترى القيّمة الفنية ليزا دي بوك أن «شذرات» ليس مجرد معرض، بل هو حدث يُجسّد تحولاً فنياً شاملاً في المشهد الثقافي السعودي، من خلال تسليط الضوء على أصوات إبداعية تُعيد صياغة الحاضر الفني وتحمل رؤية لمستقبل أكثر اتصالاً بالجذور.
بدوره، أشار حسن القحطاني، مؤسس مبادرة «ثاء»، إلى أن الفلكلور ليس أرشيفاً ساكناً، بل هو «سرد حي» يساعد على بناء تصوّر جديد للهويات المستقبلية، انطلاقاً من القصص التي نرويها عن أنفسنا، والتي تُشكّل فهمنا العميق لمن نكون.
نشير ختاماً إلى أن معرض «شذرات من الفلكلور» يُقام حالياً في حي جاكس بالدرعية، الرياض، من 30 نيسان/أبريل حتى 12 أيار/مايو 2025، ضمن فعاليات عام الحِرف اليدوية في المملكة. وزيارة هذا المعرض تُعدّ فرصة لاكتشاف كيف يمكن للفن أن يكون جسراً بين الأجيال، ووسيلة لحفظ التراث بطريقة تُلهم وتُحفّز على الابتكار. ففي «شذرات»، لا يُعرض الفلكلور كأثر من الماضي، بل كنبض حيّ يُشكّل جزءاً من النسيج الثقافي المتجدد.
اقرأ أيضاً: «داون تاون ديزاين»: أول معرض للتصميم المعاصر في الرياض!