منذ انطلاق عرضه تزامناً مع عيد الفطر الفائت، تصدّر فيلم الرسوم المتحركة الإندونيسي «جامبو – JUMBO» شباك التذاكر المحلي، متجاوزاً كل التوقعات ومحققاً أعلى الإيرادات في تاريخ أفلام التحريك في الأرخبيل… ويتناول الفيلم قضية التنمر في المدارس، لذا في هذا المقال سنعرفكم على قصته، ونلقي الضوء على مشكلة التنمر في المملكة العربية السعودية، والجهود التي تُبذَل لمعالجتها.
التنمر وقصة فيلم جامبو
لا تعدّ قضية التنمر مشكلة عادية، إنّما هي مشكلة تلقي بظلالها على العالم بأسره، وتؤثر نفسياً وجسدياً على ملايين البشر وخاصة الأطفال في المدارس، ولعلّ تسليط فيلم جامبو الضوء عليها هو ما أكسبه صدى واسعاً لدى الجمهور، ودفعه ليتجاوز عدد مشاهدات فيلم ديزني الشهير Frozen II الذي جذب أكثر من 4.6 مليون متفرج عام 2019، وفقاً لمنصة Cinepoint المختصة برصد بيانات شباك التذاكر.
يروي فيلم جامبو قصة دون، الطفل اليتيم الذي يتعرض للتنمر بسبب ضخامة جسده، يحمل دون كتاباً قصصياً مليئاً بالحكايات السحرية، وبينما يحاول التعامل مع عالم لا يرحم، يلتقي بجنية تحتاج إلى مساعدته للعودة إلى عائلتها، في مغامرة تمزج بين الخيال والواقع، وتستدعي الطفل الكامن في داخل كل منا.
ومنذ انطلاق عرضه في أواخر مارس الماضي، استطاع أن يجذب أكثر من ثمانية ملايين مشاهد في مختلف أنحاء الأرخبيل الإندونيسي حتى مطلع مايو، ليحتل بذلك المركز الثالث في قائمة أكثر الأفلام الإندونيسية مشاهدة عبر التاريخ، بحسب بيانات موقع فيلم إندونيسيا، أما على صعيد الإيرادات، فقد تجاوزت مداخيله حاجز الثمانية ملايين دولار، ليُسجّل كأكثر فيلم تحريك تحقيقاً للإيرادات في تاريخ جنوب شرق آسيا.
يرى المخرج راين أدرياندي حليم أن جامبو ليس مجرد فيلم رسوم متحركة عادياً، بل رسالة إنسانية عميقة، وفي حديثه لوكالة فرانس برس قال: «يتناول الفيلم ما فقدناه في حياتنا، والقوة التي نحتاجها لنتجاوز تلك الخسارات»، كما يأمل أن يُحدث العمل أثراً حقيقياً، داعياً إلى مزيد من اللطف في التعامل، ومؤكداً أن «جامبو تذكير بأن الجميع يستحقون الاحترام، بغض النظر عن خلفياتهم أو أعمارهم».
واستغرق إنتاج جامبو خمس سنوات كاملة، وشارك في إنجازه نحو 400 متخصص محلي، وقد تجاوز كل التوقعات، محطماً الرقم القياسي الإقليمي لعائدات الأفلام التحريكية، والذي كان الفيلم الماليزي ميكاماتو موفي الصادر عام 2022 يحتفظ به لفترة طويلة.
اقرأ أيضاً: يبرز ثراء أرض المملكة.. أبرز مشاهد الفيلم الوثائقي السعودي (هورايزن)
التنمر قضية عالمية والسعودية ليست استثناءاً
ذكرنا أنّ التنمر قضية عالمية تمسّ معظم الأطفال في سن الدراسة بشكل خاص، وتشير الدراسات إلى أن التنمر والتحرش في المدارس يزدادان في أواخر الطفولة ويبلغان ذروتهما في المرحلة الإعدادية، وغالباً ما يحدثان في أماكن غير منظمة مثل الكافيتريا وساحات اللعب، تماماً كما يعكس الفيلم واقع بطله دون، الذي يواجه هذه التجربة القاسية بسبب مظهره الجسدي.
وكغيرها من الدول، لا تقف السعودية بمعزل عن هذا التحدي، إذ باتت قضية التنمر في المدارس من أبرز القضايا التي تشغل الرأي العام المحلي، وقد شهدت السنوات الأخيرة حراكاً ملحوظاً تمثل في إطلاق حملات توعوية على مستوى المدارس ووسائل الإعلام، إلى جانب اعتماد إجراءات صارمة تهدف إلى الحد من هذه الظاهرة.
وبحسب دراسة مقطعية نُشرت عام 2017، تبيّن أن 25% من الطلاب في المملكة تعرّضوا لشكل من أشكال التنمر، وكانت النسبة الأكبر من ذلك تنمراً لفظياً، بما يشكّل 75% من الحالات.
وفي عام 2022، كشفت دراسة صادرة عن مركز الملك عبد الله للأبحاث أن نسبة التعرض للتنمر زادت إلى 47% بين الأطفال، و25% بين المراهقين، وتعمّق هذه الإحصائيات تقرير اللجنة الوطنية للطفولة، الذي أشار إلى أن 57.1% من الفتيان و42.9% من الفتيات في المدارس السعودية يعانون من التنمر بدرجات متفاوتة.
اقرأ أيضاً: الطائرات الخاصة لنقل الركاب وانعكاسها على داخل المملكة
ولكن السعودية لم تقف مكتوفة اليدين أمام تفشّي هذه الظاهرة، فحرصاً منها على حماية البيئة التعليمية وتعزيز مناخ مدرسي آمن وصحي، أولت وزارة التعليم ظاهرة التنمر داخل المدارس اهتماماً كبيراً، واعتبرتها مخالفة سلوكية جسيمة تستدعي إجراءات حازمة تجاه من يرتكبها، وقد تم تضمين هذه المعالجة في لائحة السلوك والمواظبة التي تضع إطاراً واضحاً للتعامل مع مثل هذه التصرفات، يراعي درجة الخطورة وتكرار السلوك.
ففي حال كان الفعل في بداياته ولم يتكرر، يتم الاكتفاء بالتنبيه والتحذير، سواء شفهياً أو كتابياً، مع توعية الطالب بعواقب سلوكه، أما إذا استمر السلوك العدواني أو اتخذ طابعاً أخطر، فإن الوزارة تتجه إلى اتخاذ إجراءات تأديبية أكثر صرامة، قد تصل إلى الفصل المؤقت أو نقل الطالب إلى مدرسة أخرى.
وفي الحالات القصوى، خاصة تلك التي تتضمن تهديداً مباشراً أو تحريضاً على العنف، يحال الأمر إلى الجهات المختصة لاتخاذ ما يلزم من إجراءات قانونية، قد تشمل الغرامات أو العقوبات الجنائية.
ويعدّ التنمر اللفظي تحديداً من أكثر أشكال التنمر المنتشر في المدارس، كما أظهرت الدراسات التي ذكرناها آنفاً، إذ يتجلى في السخرية من الآخرين، استخدام الألفاظ الجارحة، أو التهديد اللفظي… لهذا السبب، تؤكد الوزارة على أهمية التعامل الجاد مع هذا النوع من السلوك، سواء من خلال استدعاء أولياء الأمور وإشراكهم في المعالجة، أو بفرض العقوبات المناسبة السابقة.
إلى جانب ذلك، تواصل وزارة التعليم تنفيذ حملات توعية دورية داخل المدارس، تسعى من خلالها إلى نشر ثقافة الاحترام المتبادل والتسامح، وتأكيد أن كل طالب يستحق بيئة تعليمية خالية من الإيذاء الجسدي أو النفسي، تعزز نموه وتدعمه ليكون فرداً سوياً في مجتمعه.
ووسط هذه الجهود المتواصلة التي تبذلها الجهات التعليمية في المملكة للحد من ظاهرة التنمر، بدأت نتائج هذه السياسات الصارمة والمبادرات التوعوية تظهر بالفعل في الإحصائيات الحديثة… ففي مطلع مايو الجاري، كشفت الهيئة العامة للإحصاء عن مؤشرات إيجابية لافتة، أظهرت تراجعاً ملحوظاً في معدلات التنمر بين طلبة المدارس.
اقرأ أيضاً: هل حقاً ستطلق السعودية قمراً لدراسة مناخ الفضاء؟!
وبحسب نتائج المسح، فإن 95.6% من الطلاب الأكبر سناً لم يتعرضوا للتنمر أو نادراً ما واجهوه، بينما بلغت النسبة 97.7% بين الطلاب الأصغر سناً، وضمن الفئة العمرية من 15 إلى 19 عاماً، أفاد 86.15% من الطلبة بأنهم لم يتعرضوا لأي شكل من أشكال التنمر خلال الأشهر الاثني عشر الماضية، مقابل 81.8% في الفئة العمرية من 8 إلى 14 عاماً.
ورغم بقاء بعض الحالات النادرة، فقد شكّلت هذه النسبة 13.78% لدى الطلبة الأصغر سناً، و11.59% لدى الأكبر سناً، أما حالات التعرض المتكرر، سواء شهرياً أو أسبوعياً، فقد ظلت في مستويات منخفضة للغاية، لم تتجاوز 2% عبر مختلف الفئات.
وقد ترافقت هذه المؤشرات الإيجابية مع نتائج تعكس شعوراً عاماً بالرضا بين الطلبة، فقد أظهر المسح أن 92.94% من الطلاب يشعرون بالرضا عن حياتهم، بواقع 93.34% بين الإناث و92.54% بين الذكور، وتعكس هذه الأرقام نجاح الإجراءات التربوية والأمنية في المدارس، وأثر الدعم النفسي والاجتماعي الذي يتلقاه الطلاب من أسرهم ومعلميهم على حد سواء، ما يسهم في ترسيخ بيئة تعليمية آمنة ومستقرة ومحفزة على النمو والتعلّم.
في الختام، إنّ الأفلام التي تسلط الضوء على التنمر أو أي قضية اجتماعية حساسة تلعب دوراً مهماً في زيادة الوعي وتحفيز التغيير، تماماً كما تساهم الإجراءات التي اتخذتها السعودية في خفض نسب التنمر وتعزيز بيئة مدرسية آمنة… لذا، سيكون رائعاً أن نشهد في المستقبل فيلماً سعودياً يصوّر هذه الجهود، يروي قصصاً حقيقية ويبيّن كيف أن العمل المشترك بين الفن والسياسات يمكن أن يحدث فرقاً حقيقياً في حياة الطلاب.
اقرأ أيضاً: سالب وموجب.. الدراما التركية وتأثيرها على المجتمع السعودي