الآثار، الطبيعة الخلابة، السحب الساحرة، كل زاوية في قرية آل ينفع في عسير تنبض بالحياة والذكريات، وتحمل معها لون يرسم لوحة فنية تتجاوز الأزمان، فقد احتفظت هذه القرية بعبق الماضي والتراث العريق مع مواكبتها للحداثة ومتطلبات العصر.
تقع قرية آل ينفع بعيداً عن مدينة أبها بحوالي 45 كيلومتراً، لكن مسافتها الحقيقية تُقاس بمدى قربها من قلوب زوارها، وفيها تخلّد أصوات التاريخ وهمسات الطبيعة لتروي حكاية أقدم قبائل تمنية، قبيلة آل ينفع، التي تجذرت في أعماق الأرض منذ عصور غابرة.
تمتد هذه القرية الساحرة على مساحة تزيد عن 60 ألف متر مربع، وقد أبدع المهندسون المعماريون في ابتكار حلول معاصرة تتناغم مع تضاريسها الاستثنائية، كونها تقع على منحدرات.
اقرأ أيضاً: أشيقر.. جوهرة تاريخية و أقدم القرى في السعودية
التطوير العمراني
واليوم، لم تعد قرية آل ينفع في منطقة عسير وجهة سياحية تروي حكايات تاريخية تمتد لأكثر من 1400 عام فحسب، بل أصبحت منبراً للفنون المعاصرة، حيث تتداخل الألوان والأشكال الحديثة مع جمال العمران التراثي في تناغم ساحر.
ففي عام 2019، أضاءت إمارة منطقة عسير شمعة الأمل في هذه القرية التراثية، فأطلقت مبادرة لتطويرها، لتتحول إلى وجهة سياحية تتغنى بمعالمها، مُستقطبةً السياح من كل حدب وصوب، فمن بين جدرانها المصنوعة من القصب، تحاكُ قصص الأجداد، وتُحاكي كل زاوية فيها شغف الحياة والجمال.
وعلى مدار السنتين الماضيتين، خضعت القرية لعمليات ترميم وإعادة تأهيل، وتضمنت التحديثات الجديدة ساحات وأنفاق متقاطعة، تنسج معاً تنسيقاً بديعاً بين المساحات، وتضمن تهوية رائعة خلال أشهر الصيف الصعبة، كما أُضيئت الساحات والممرات بإضاءة مبهجة جلبت معها أجواءً سحرية ودافئة.
وتتوسط قرية آل ينفع مجموعة من الوجهات السياحية المعروفة، مثل القرعاء، والمسقي، ودلغان، والحبلة، ما زاد من جاذبيتها، خاصةً لقربها من المدينة الجامعية لجامعة الملك خالد.
اقرأ أيضاً: «فيد التاريخية» تاريخ عريق ومعلم سياحي حيوي
روعتها العمرانية تتجلى في تصميم مبانيها المتلاصقة والمتراصة بطريقة فريدة، حيث تتربع في عمق الجبال وجنباتها، مطلةً على رقعة زراعية نابضة بالحياة تُروى بأكثر من 70 بئراً، منها سبعة آبار متجاورة منحوتة بعناية في الصخور.
كما تمتاز بنظام ري متطور يعود تاريخه لقرون مضت، فقد أبدع أهاليها في تشييد شبكة من القنوات المائية التي تنقل المياه من الآبار إلى المزارع والبيوت، ويشتهر فيها الممر المائي القديم، الذي يمتد على مسافة 160 متراً بين الصخور، ليكون شاهداً على عبقرية هذا النظام، حيث يربط إحدى الآبار القديمة بالمزارع المحيطة.
وعند زيارة القرية والتدقيق في جماليتها، سيكتشف الزائر مهارة مميزة في نحت الصخور، إذ قام الأهالي بإنشاء نحو 50 مدفناً عميقاً بُنيت بشكل دائري لتخزين الحبوب بعد مواسم الحصاد، ويعد مدفن “بيت الجماعة” مركزاً عاماً يُستخدم لتخزين الحبوب وجمعها، ويعكس التقاليد الزراعية العريقة التي عاشها سكان هذه القرية.
تتميز قرية آل ينفع كذلك بوجود 400 منزل أثري تتوزع على 16 حياً، كما تضم 6 مساجد تاريخية، من أبرزها الجامع القديم، الذي يعود تاريخه إلى عام 105 هـ، كما يوضح النقش المدون على بابه.
يشير علي بن موسى الغثيمي، المشرف على مشروع تطوير قرية آل ينفع، إلى أن القرية تحتضن جبلاً من الحجر الرملي الأحمر، الذي يتميز بمساماته القادرة على تسهيل مرور المياه، ما جعل حفر الآبار ممكناً منذ العصور القديمة.
ويضيف الغثيمي أن القرية تفتخر بوجود 36 طريقاً قديماً تُعرف باسم «الشداخات»، وهي ممرات تمر تحت المباني تربط بين جميع الأحياء، ما يسهل الوصول إلى أي منزل بطريق قصيرة وآمنة.
اقرأ أيضاً: واحة خيبر تكشف أسرار قرية عمرها آلاف السنين!
فعاليات ثقافية في قرية آل ينفع
ولم تقتصر جهود أمانة منطقة عسير على تطوير القرية عمرانياً، بل عملت على تحويلها إلى مركز ثقافي يحتضن الفعاليات الثقافية والفنية، مثل «ملتقى قريتنا الفنية»، الذي نظمته هيئة تطوير منطقة عسير بالتعاون مع جمعية الثقافة والفنون بأبها والجمعية السعودية للفنون التشكيلية «جسفت» في نهاية نوفمبر 2024.
تضمن الملتقى حينها فعاليات مشوقة تناولت موضوعات مثل «الفنون البصرية ودورها في جودة الحياة»، و«فنون الزخرفة التراثية»، و«التصوير الضوئي في منطقة عسير»، كما نُظِّمت دورات فنية وورش عمل للمهتمين، وفعاليات للرسم الحر لزيادة التنافس بين الفنانين.
عمليات التطوير والتأهيل هذه في قرية آل ينفع الأثرية، تأتي في إطار رؤية السعودية 2030، والتي تسعى بكل جهودها لجذب السياح من كل أنحاء العالم، لتكون معالمها وقراها التاريخية نقطة انطلاق نحو مستقبل سياحي مشرق يرحب بالزوار من أصقاع العالم كافة.
اقرأ أيضاً: «قرية الفاو» حكايات تاريخية منسية ترويها الصحراء