تشهد المملكة العربية السعودية تحولاً لافتاً في قطاع الأزياء، حيث لم تعد الموضة مجرد تعبير عن الأناقة الشخصية، بل أصبحت صناعة متكاملة الأركان، تنمو بوتيرة متسارعة لتصبح لاعبًا رئيسيًا على الساحة العالمية ومحركًا هامًا ضمن مستهدفات رؤية المملكة 2030.
ومع توقعات بوصول قيمة سوق الأزياء السعودية إلى 42 مليار دولار بحلول عام 2028، ومساهمة متزايدة في الناتج المحلي الإجمالي، وقوة عاملة يتجاوز نصفها من النساء، ترسم المملكة ملامح جديدة لهويتها الثقافية والاقتصادية من خلال خيوط الإبداع والتصميم.
أرقام قياسية وطموحات عالمية
يسير قطاع الأزياء السعودي بخطى واثقة نحو العالمية، مدفوعًا بجهود استراتيجية ورؤية طموحة تهدف إلى تطوير هذا القطاع الحيوي وتحويله إلى أحد روافد الاقتصاد الوطني.
وتترجم هذه الجهود إلى أرقام ملموسة تعكس حجم النمو المحقق؛ فبعد أن بلغت قيمة السوق نحو 30 مليار دولار في عام 2023، تشير التوقعات الصادرة عن هيئة الأزياء السعودية إلى قفزة هائلة لتصل إلى 42 مليار دولار خلال سنوات قليلة بحلول عام 2028، وهذا النمو المتسارع يضع المملكة ضمن قائمة الأسواق الأكثر ازدهارًا وجاذبية في صناعة الموضة عالميًا.
وتلعب هيئة الأزياء دورًا محوريًا في تنظيم وتوجيه هذا التطور، حيث تعمل كجهة ممكنة وداعمة لمجتمع الموضة المحلي، وتركز الهيئة جهودها على تطوير بيئة عمل محفزة تغطي كافة مراحل سلسلة القيمة، انطلاقًا من الإبداع في التصميم، مرورًا بعمليات الإنتاج والتطوير، وصولًا إلى الترويج العالمي للمواهب والعلامات التجارية السعودية الواعدة.
وتعد مبادرة “100 براند سعودي” مثالًا بارزًا على هذا التوجه، حيث أتاحت لعشرات المصممين السعوديين فرصة عرض إبداعاتهم الفريدة في عواصم الموضة العالمية المرموقة كباريس وميلانو، محققين إشادة واسعة من النقاد والمتابعين، ومؤكدين على القدرة التنافسية للمنتج السعودي.
ولا يقتصر تأثير هذا الازدهار على القيمة السوقية فحسب، بل يمتد ليشمل مؤشرات اقتصادية واجتماعية بالغة الأهمية، فقد ارتفعت مساهمة صناعة الأزياء في الناتج المحلي الإجمالي للمملكة بشكل ملحوظ، مسجلة 2.5% في عام 2023، مقارنة بـ 1.4% في العام الذي سبقه، مما يعكس الأهمية المتزايدة للقطاع كمصدر للدخل الوطني.
وعلى صعيد خلق الفرص، شهد القطاع إضافة نحو 90 ألف وظيفة جديدة خلال عام 2023 مقارنة بالفترة الممتدة بين 2021 و2022، وهو رقم يعكس الحيوية الكبيرة التي يتمتع بها القطاع.
ومن اللافت للنظر أن المرأة السعودية تمثل الدور المحوري لهذه الصناعة، حيث تشكل النساء نسبة 52% من إجمالي القوى العاملة في مجال الأزياء، مؤكدات على دورهن القيادي في هذا التحول.
اقرأ أيضاً: نورا سليمان: الرحلة نحو عالم الموضة والأزياء وقصة ليلة خميس
خيوط الموضة تنسج مستقبل رؤية 2030
يتجاوز دور قطاع الأزياء المتنامي في المملكة مجرد كونه صناعة تدر الدخل وتخلق الوظائف، بل يرتبط بشكل وثيق وعميق مع الأهداف الاستراتيجية لرؤية المملكة 2030، فهو يمثل أحد الأدوات الفاعلة لتحقيق هدف التنويع الاقتصادي، حيث يساهم دعم وتنمية الأعمال التجارية المتخصصة في الموضة في تقليل الاعتماد على الموارد التقليدية وفتح آفاق اقتصادية جديدة تعتمد على الإبداع والابتكار.
وتجسيدًا لهذا التوجه، يعتبر قطاع الأزياء منصة حيوية لتمكين المرأة السعودية، تماشياً مع مستهدفات الرؤية الرامية إلى تعزيز دور المرأة في التنمية، فالفرص التي يتيحها القطاع للمصممات ورائدات الأعمال لا تقتصر على الجانب الاقتصادي، بل تمتد لتعزيز مشاركتهن الاجتماعية والثقافية وإبراز قدراتهن القيادية.
وعلاوة على ذلك، يعمل القطاع كمحفز قوي للابتكار والإبداع، وهو ما ينسجم مع تطلعات الرؤية نحو بناء اقتصاد مزدهر قائم على المعرفة، وسواء كان ذلك من خلال تطوير تصاميم مبتكرة تمزج بين الأصالة والمعاصرة، أو عبر تبني تقنيات حديثة وممارسات مستدامة في عمليات الإنتاج، فإن صناعة الأزياء تساهم في دفع عجلة الإبداع في المملكة.
ولا يمكن إغفال الدور الثقافي والسياحي الذي يلعبه قطاع الأزياء، فمن خلال الفعاليات والمعارض وعروض الأزياء، يتم تقديم نافذة جاذبة للزوار من داخل المملكة وخارجها للتعرف على جوانب من الهوية الثقافية السعودية الغنية والمتجددة، مما يدعم أهداف تطوير السياحة الثقافية.
وفي الوقت ذاته، يساهم الانفتاح على الأسواق العالمية وتبادل الخبرات مع مصممين ودور أزياء دولية في تعزيز الحضور العالمي للأزياء السعودية، وهو ما يعكس التوجه الاستراتيجي للمملكة نحو ترسيخ مكانتها كمركز إقليمي وعالمي مؤثر في مختلف المجالات، بما فيها صناعة الموضة والإبداع.
مواهب نسائية ترسم ملامح الأناقة السعودية الجديدة
خلف الأرقام والخطط الاستراتيجية، تقف كوكبة لامعة من المواهب السعودية، خاصة النسائية، التي تمثل القوة الدافعة الحقيقية وراء هذا التحول في مشهد الموضة.
وتعد أميرة النسيم مثالًا للشخصيات المؤثرة التي نجحت في استقطاب جمهور واسع عبر المنصات الرقمية، مقدمةً رؤيتها الخاصة للأناقة ومصدر إلهام للكثيرات.
لكن الساحة تزخر أيضًا بجيل من المصممات المبدعات اللواتي يضعن بصمات فريدة على الأزياء السعودية المعاصرة، تبرز من بين هؤلاء المبدعات أسماء استطاعت أن تحفر لنفسها مكانة مرموقة، ونجد كوثر الهريش، مؤسسة علامة “كاف باي كاف”، التي تنقل رؤيتها المعمارية إلى عالم الأقمشة، مقدمة تصاميم تجمع بين الجرأة الهندسية والسرد القصصي، مع تجريب مبتكر بالخامات أكسبها التقدير والترشيحات للجوائز المرموقة.
وفي مجال العباءات الفاخرة والأزياء الراقية، أحدثت نورة الدامر نقلة نوعية بعلامتها “كاليا”، حيث تقدم قصات انسيابية راقية بلمسات عصرية تحافظ على جوهر التراث، وهو ما فتح لها أبواب المشاركة في أسابيع الموضة العالمية مثل ميلانو.
كما تجسد سمر نصر الدين في علامتها “أتيلييه” نهجًا تجريبيًا جريئًا، متحديةً القوالب التقليدية ومبتكرةً أشكالًا ومواد جديدة تعكس حوارًا خلاقًا بين التراث والحداثة بعد أن صقلت موهبتها في مراكز تصميم عالمية.
وتبرز أيضًا هيفاء فهد التي اشتهرت بإعادة تعريف العباية بلمسات تجمع بين البساطة والترف الجريء، ومشاعل الراجحي التي تميزت بتصاميمها المفاهيمية ذات الألوان الأحادية والخامات الفريدة، ممثلةً المملكة في محافل دولية.
كما برز اسم دانه بو أحمد التي تمزج في علامتها “دانه” بين الطابع العالمي والهوية الشرقية من خلال تصاميم عملية وأنيقة، ومنى الشبل التي تضع الاستدامة في قلب تصاميمها التي تحتفي بالتراث بأقل التفاصيل.
هذا الحراك النسائي النشط، الذي يضم أسماء أخرى لامعة مثل تيما عبيد، سارة التويم، رزان العزوني، أروى البنوي، هنيدة صيرفي وغيرهن، لا يؤكد فقط على الدور المحوري للمرأة السعودية في هذه النهضة، بل يبرهن أيضًا على قدرة الإبداع المحلي على المنافسة عالميًا وتقديم تنوع ثري يلبي مختلف الأذواق ويعكس بصدق تطور الهوية السعودية المعاصرة في عالم الموضة والأناقة.
اقرأ أيضاً: رزان العزوني رائدة أعمال سعودية ومصممة أزياء.. هذا السر وراء نجاحها!!