في وقتٍ تتصاعد فيه ألسنة اللهب فوق قطاع غزة، وتُخيّم غيوم الغموض على مسارات التفاوض، ينبعث من العاصمة الإسبانية مدريد بصيص أمل دبلوماسي يحمل توقيعاً عربياً وأوروبياً مشتركاً، تقوده المملكة العربية السعودية ومصر بمشاركة فاعلة من دول الاتحاد الأوروبي، في محاولة لإعادة ضبط الإيقاع السياسي إزاء واحدة من أعقد الأزمات في الشرق الأوسط خلال العقود الأخيرة. فهل تكون مدريد هذه المرة منصةً لإحياء مسار السلام؟ وما الهدف من اجتماعات مدريد السعودية الأوروبية الجارية الآن؟
استضافت مدريد اجتماعاً موسعاً بمشاركة عشرين دولة ومنظمة دولية لبحث سبل وقف النزاع في غزة، وتسهيل إدخال المساعدات الإنسانية، والعمل على بلورة رؤية جديدة لإنهاء الأزمة. وفي حديثه شدد وزير الخارجية الإسباني، خوسيه مانويل ألباريس، على أن «الحرب فقدت كل هدف منطقي»، داعياً المجتمع الدولي للنظر في إمكانية فرض عقوبات على «إسرائيل» لوقف العمليات العسكرية، مع تأكيده على ضرورة إدخال المساعدات إلى غزة دون عوائق وبشكل محايد.
وجاء هذا الاجتماع في وقت تزايدت فيه الأصوات داخل «إسرائيل» وخارجها، التي تشير إلى وجود «فرصة سانحة» لإبرام اتفاق جديد قد يوقف دوامة الدم، رغم تمسّك رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بخط التصعيد، وسحب وفد التفاوض من الدوحة.
اجتماعات مدريد السعودية الأوروبية: تحرك استراتيجي أم مجرّد ضغط؟

يحمل الاجتماع الوزاري الموسّع لمجموعة مدريد بعداً خاصاً من خلال المشاركة الفاعلة لكل من وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان، ونظيره المصري بدر عبد العاطي، واللذين أكّدا في بيانين منفصلين أن الهدف الأساسي من الحراك هو إنهاء الحرب على غزة، والتعامل مع الوضع الإنساني الكارثي، إضافة إلى تعزيز الجهود الدبلوماسية للاعتراف بالدولة الفلسطينية، والدفع باتجاه تطبيق حل الدولتين كسبيل وحيد لإحلال السلام في المنطقة.
وفيما يبدو أن مدريد تمهّد لمؤتمر دولي عالي المستوى حول حل الدولتين، من المرتقب عقده في حزيران المقبل برئاسة مشتركة سعودية – فرنسية، فإن مشاركة الرياض والقاهرة تعكس رغبة عربية حقيقية في عدم ترك الملف الفلسطيني رهينة للضغوط الأميركية و«الإسرائيلية».
الضغط الأوروبي والموقف الأميركي… الحلقة المفقودة
يرى محللون أن التحرك العربي الأوروبي يحمل طابعاً ضاغطاً على «إسرائيل»، لكنه يظل ناقصاً دون دعم أميركي صريح. ويعتبر الدكتور أيمن الرقب، المحلل السياسي الفلسطيني، أن الدور الذي تلعبه السعودية ومصر «مهم للغاية»، لكنه أشار إلى أن الولايات المتحدة تبقى اللاعب الحاسم، وأن أي حل لن يُكتب له النجاح دون موقف أميركي جادّ يدفع نحو إنهاء الحرب من وجهة نظره.
في السياق ذاته، شدد الخبير العسكري اللواء سمير فرج على أهمية الضغط المتواصل على «إسرائيل»، معتبراً أن استمرار دعم واشنطن غير المشروط لحكومة نتنياهو يُضعف فرص التهدئة. وأكّد أنه في حال أظهرت الولايات المتحدة تحوّلاً في الموقف، فقد يثمر الحراك الدولي عن نتائج ملموسة على الأرض.
إشارات متباينة من الداخل الإسرائيلي و«حماس»
في مقابل تصلّب نتنياهو، تشير بعض التصريحات «الإسرائيلية» إلى وجود استعداد ضمني للتوصل إلى صفقة مع حركة «حماس». فقد كشفت القناة 12 الإسرائيلية عن «إجماع» داخل الأجهزة الأمنية حول وجود فرصة حقيقية لعقد اتفاق، رغم سحب الوفد من الدوحة. وأشار رئيس الأركان الإسرائيلي، إيال زامير Eyal Zamir، في مناقشات مغلقة إلى أن الضغط العسكري خلق «ظروفاً مناسبة» لاستعادة الرهائن، داعياً لاستغلال تلك الفرصة.
من جهة أخرى، صرّح باسم نعيم، القيادي في حركة حماس، أن الحركة لا تزال تبحث عن «مخرج للأزمة»، وتدرس مقترحات جديدة قد تؤدي إلى وقف الحرب وانسحاب الاحتلال من غزة.
مشهد معقد على الأرض… بين العمليات والهجمات المتبادلة
وعلى الأرض، يستمر التصعيد العسكري بوتيرة عالية. فقد أعلن جيش الكيان عن اعتراض صاروخ أطلقه الحوثيون من اليمن باتجاه «إسرائيل». وفي الوقت ذاته، نفّذت الفصائل الفلسطينية المسلحة في غزة، وعلى رأسها كتائب «عز الدين القسام» وسرايا «الجهاد الإسلامي»، عدة عمليات ضد القوات «الإسرائيلية» مستخدمة القنابل والصواريخ المضادة للدبابات.
ويعكس هذا التصعيد المتبادل هشاشة أي مساعٍ للتهدئة، ويضع الحراك الدبلوماسي أمام معادلة شديدة التعقيد: فبين المساعي السياسية والحلول العسكرية، لا يزال المدنيون في غزة هم الحلقة الأضعف والأكثر تضرراً.
مدريد… بداية تغيير أم نسخة مكررة من قمم سابقة؟
رغم التباين في المواقف «الإسرائيلية»، والتقدم البطيء في مسارات التفاوض، فإن ما يحدث في مدريد يحمل رمزية خاصة. اجتماع العواصم لم يكن مجرّد لقاء بروتوكولي، بل خطوة دبلوماسية منظمة تقودها عواصم عربية بمشاركة أوروبية في محاولة لوضع أسس جديدة لأي تسوية قادمة.
لكن التحدي الأكبر يبقى في تجاوز الخطابات نحو الفعل السياسي الحقيقي، لا سيما في ظل تشبث حكومة نتنياهو بخيار الحرب، وغياب موقف أميركي ضاغط بصورة جدية حتى اللحظة. ومع قرب موعد المؤتمر الدولي حول حلّ الدولتين، يعلّق كثيرون آمالهم على أن تكون مدريد بداية لتغيير حقيقي، لا مجرّد محطة جديدة في طريق أزمات لا تنتهي.
اقرأ أيضاً: إعمار غزة دون تهجير: توافق عربي إسلامي بمواجهة الطرح الأميركي